الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

في تكريم إحسان عبد القدوس -1

4 يوليو 2007 01:36
أذكر جيداً أن أول كتاب اقتنيته، وكان أساس مكتبتي الخاصة في مدينة المحلة الكبرى وأنا طالب في المدرسة الثانوية، هو ''في بيتنا رجل'' لإحسان عبد القدوس· ومنذ أن قرأت هذا الكتاب وأنا متعلق بإحسان عبد القدوس، لا أترك رواية من رواياته إلا وأحصل عليها وأتابعها، ولا أترك مجموعة قصصية تصدر له دون أن أحصل عليها، وأطالعها مرة ومرات· وما شدني إلى هذا الرجل في لقائي الأول معه في رواية ''في بيتنا رجل'' أنه كان كاتباً وطنياً من الطراز الأول· والرواية هي في نهاية الأمر سرد حماسي يضجّ بالعاطفة الوطنية فيما يتصل بالكفاح المسلح ضد الإنجليز، فبطلها نموذج رائع من نماذج الشباب الذين نذروا أنفسهم لحصول بلدهم على الاستقلال، وحاولوا بكل ما يستطيعون أن يقضوا على الاحتلال البريطاني، وأن يزيحوه من أرض مصر· كانت هذه الرواية هي البداية التي أصَّلت في نفسي معنى مهماً من معاني الوطنية ملازماً لروايات إحسان عبد القدوس طوال متابعتي لها· يصعب جداً أن نقرأ روايات إحسان عبد القدوس دون أن ندرك هذا المعنى الأساسي المنتشر الذي يتخلَّل كل رواياته وإبداعاته· وأظن أن هذه الرواية هي التي جعلتني أتتبع ما فعل بوصفه صحفياً سياسياً، وهي التي جعلتني أعرف الدور الأساسي الذي لعبه في فضيحة الأسلحة الفاسدة، وأنه كان الصوت الناطق للضباط الأحرار فيما يتصل بفضح الملك وأعوانه· وكانت مقالاته النارية خير تعبير عن مشاعر الضباط الأحرار المتقدة بالوطنية في ذلك الوقت، وذلك قبل أن يدور الزمن ويصل هؤلاء الضباط أنفسهم إلى السلطة، فتغيرهم السلطة وينسون الحرية التي نادوا بها وينقلبون إلى نقيضها· وعندئذ كان لابد لإحسان عبد القدوس أن يقف ضد رفاقه القدامى، وأن يكتب ضد استبداد بدأ يظهر منهم· وكان ذلك واضحاً كل الوضوح في أزمة مارس ،1954 وهي الأزمة الأولى الحادة للديمقراطية في مصر، والتي تركت آثارها الغائرة في الوعي السياسي المصري إلى اليوم، وكان لها بعد ذلك من الآثار ما ظل ينذر بالخطر الذي سرعان ما تضخم وتضاعف· وكان هذا الكاتب الوطني، سواء في إبداعه الروائي أو مقالاته الصحفية، نموذجاً أنظر إليه بإعجاب شديد· ولذلك اقتنيت رواياته، حتى من قبل أن أقتني رواية واحدة لنجيب محفوظ أو يوسف السباعي الذي لم أحب هذا التدفق أو الاندفاع أو الهشاشة العاطفية الرومانسية في أعماله، شأنه في ذلك شأن محمد عبد الحليم عبد الله· كان إحسان عبد القدوس نموذجاً يجذبني إلى أبعد حد· وكانت صفة الوطني فيه تقودني إلى إدراك صفة أخرى في هذا الكاتب، وهي صفة الجسارة والجرأة· ولم أر في أيام الصبا التي التهمت فيها عشرات ومئات الروايات كاتباً معاصراً له يشبهه في جسارته· لم يكن يترك شيئا إلا وراوغه، واقتحمه، وشاكس المحرَّمات الاجتماعية التي كانت تؤكدها الثقافة التقليدية في ذلك الوقت· وأذكر أن الرواية الأولى التي مارس عليها مجلس الشعب في مصر رقابته القمعية كانت رواية ''أنف وثلاثة عيون'' التي احتجّ عليها أعضاء تقليديون في مجلس الشعب وحاولوا مصادرتها· ولولا خطاب بليغ كل البلاغة أرسله إحسان عبد القدوس إلى جمال عبد الناصر لكانت هذه الرواية قد قُبرت إلى الأبد، ولكن الإبداع انتصر على تقليديي مجلس الشعب وعلى العقليات الجامدة فيه · ومن الغريب أن هذه العقليات الجامدة لم تتناقص، بل تزايدت مع الوقت، وأصبحت أضعافاً مضاعفة، وأصبحت تترصّد بكل إبداع يتميز بقدر من الجسارة أو بقدر من الحرية· وها نحن نرى الآن أن مجلس الشعب الذي لم يعترض في فترة بأكملها من دوراته إلا على رواية واحدة، لا تكاد تمضي سنة إلا وهو يعترض على العشرات من الروايات والأعمال الفنية والإبداعية· وكأن جسارة إحسان عبد القدوس كانت هي البذرة الأولى التي استفزت هذه العقليات الرجعية الجامدة وأنذرتها بالخطر، فتزايدت هذه العقليات وتصاعدت ميولها وآلياتها الدفاعية التي انقلبت إلى آليات هجومية قمعية لم تتوقف إلى اليوم· ولم تقتصر جسارة إحسان عبد القدوس على معالجة الجنس وحده· ولا أظن أن هناك كاتباً عربياً، في الفترة التي ازدهر فيها إحسان عبد القدوس، لجأ إلى اقتحام مخاطر الجنس بحساسياته وبتعقيداته وتشابكاته على نحو ما فعل هذا الرجل· أسترجع الآن بالإضافة إلى ''أنف وثلاثة عيون''، ''النظارة السوداء''، وغيرها من الروايات والقصص، فأجد قدرة هائلة على اقتحام الموضوعات التي كانت تحرِّمها العقليات التقليدية· كنت ذات مرة أقرأ في مقدمة ابن قتيبة، وإذا بابن قتيبة - وهو السُّني الحنبلي الذي كان يُعادي المعتزلة - يُحذِّر القراء من تلك النزعة التي انتشرت في عصره، والتي كانت تدفع بعض المتنسِّكين - أي دعاة التنسُّك - إلى الهجوم على أي ذكر لعضو من أعضاء الجسد في أي عمل من الأعمال، واتهمهم بالنفاق، وقال: ''إن المؤثَّم ليس ذِكر أعضاء الجسد، وإنما الإثم كل الإثم هو التعرض لأعراض المسلمين''· من هنا، تداعي إلى ذهني ما فعله إحسان عبد القدوس بالجنس، وما كان بمثابة تمهيد للطريق الذي سار فيه كُتَّاب عديدون وأجيال كثيرة من بعده، حملت منه الراية ومضت خطوات أبعد في الطريق الذي استهله هو أولاً· ولا تقتصر صفة الجسارة عند إحسان على الجنس بمعناه الضيق فحسب، وإنما تمتد لتشمل حضور المرأة ·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©