الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

فيلم حب في زمن الكوليرا ··· واقعية بلا سحر!

فيلم حب في زمن الكوليرا ··· واقعية بلا سحر!
14 مارس 2008 01:36
هذه الذاكرة التي تحتفي بالقراءة كتواصل فردي وانعزالي مع الكتاب، يحول روايات ماركيز إلى مائدة عامرة بالمخيلة اللاتينية التي تتمازج فيها الروائح الإستوائية بالألوان الساحرة، ويتآلف فيها جنون الشخصيات مع الرغبات الإنسانية الدفينة والمتألقة بأسرارها، وإذا استطاع الأسلوب الماركيزي أن يدير رؤوس القراء ويدوخهم باقتراحاته السحرية ومناخاته الباهرة، فإن ذات الأثر لم يكن له مكان على شاشة السينما، وخير دليل على ذلك الفيلم الذي شاهدناه مؤخرا في صالات العرض والمأخوذ شكلا ولكن بلا مضمون من الرواية الاستثنائية لماركيز، ونقصد بها هنا روايته ''حب في زمن الكوليرا''، فالفيلم الذي أخرجه مايك نويل استغرق الإقناع والمطاردة والإغواء الذي حاول منتج الفيلم أن يضعه بين يدي ماركيز، هذا الذي لم يفكر يوما في تحويل رواياته المزدحمة بواقعيتها السحرية إلى السينما، ومع خروج الفيلم إلى الجمهور تحققت ربما أسوأ مخاوف ماركيز وكوابيسه السينمائية· مسلسل مكسيكي طويل حاول الفيلم أن ينقل محتوى الرواية إلى الشاشة، ولكنه لم يلامس سوى عنوانه وخطوطه الظاهرية وتفاصيله العامة، والتي تحولت مع السيناريو الهش الذي وضعه الأميركي رونالد هارولد إلى ما يشبه المعالجات التي نراها عادة في المسلسلات المكسيكية! فقصة الحب المستحيلة التي جمعت بين فلورنتينو وفيرمينا ووصلت لمصاف العشق المتحقق في الخرافة فقط، تحول في هذا الفيلم إلى خلفية ثانوية للأحداث والمشاهد والقصص الفرعية في الزمن السردي للعمل· وجاء أسلوب إدارة الممثلين في الفيلم كي يزيد من جراحاته وضحالته، فالممثل الإسباني المبدع خافيير بارديم ـ الحائز على جائزة الأوسكار لأفضل ممثل دور ثان عن فيلمه ''لا بلد للمسنين'' ـ وقام بدور فلورينتينو تحول في هذا الفيلم إلى شخصية تائهة وغير منتمية للشخصية المعذبة حتى العظم في الرواية الأصلية لماركيز، وجاء أداء الشخصيات الأخرى في الفيلم باهتا وكأنها تترجم أداورها المصاغة على صفحات السيناريو، بحيث غابت الروح المتوهجة للشخصيات، وانعدمت لغة الحوار الداخلي والمونولوج التعبيري إلا فيما ندر· كذلك فإن المبررات الدرامية التي صاغها كاتب السيناريو لم ترتق لتكنيكات ماركيز الذكية، ولم تفلح هذه المبررات في استخلاص الجوهر الحكائي الذي يخبئه ماركيز في أرض الرواية ووسط غاباتها اللغوية الشائكة· حلول ناقصة وعندما يتحول شخص عاشق لحد الإيمان الدامي بهذا العشق إلى مجرد شخص منحرف وشهواني، كما حدث مع شخصية فلورينتينو في الفيلم فإن مبررات الخيانة الجسدية مع أكثر من 600 امرأة لم يكن مقنعا على الشاشة، كما هو الحال مع الرواية، فماركيز عندما يحيك خيوطه الروائية حول شخصية متأزمة فإنه يفعلها ببراعة يسندها الخيال الأدبي والتحليل النفسي المفرط في شاعريته وتنويعاته المرهفة، يحيط ماركيز شخصياته بهالة أو حقل مغناطيسي لا يمكن الفكاك من أسره، بحيث تتحول الشخصية الشريرة ظاهريا، إلى شخصية مضطهدة داخليا ومسكونة في ذات الوقت بحس فائض من البراءة والحب والطهر· حاول الفيلم من خلال الملابس والديكورات وطابع الحياة الكولومبية أن يكون أمينا لزمن الرواية الذي يعود لبدايات القرن الماضي، ولكنها الأمانة التي خانت الزمن الجواني للشخصيات، ونقصد بالزمن الجواني الخيالات المضطرمة للشخصيات، بكل ما حملته من لواعج وحنين وكبت عاطفي وحرية منكسرة وجنوح مرهف نحو أحلام اليقظة والصمت المتورد بالشعر والاحتقان والتأمل المأساوي للوجود· وعلى عكس ما فعله فيلم ''العطر'' مع الرواية الجامحة للفرنسي باتريك زوسكيند، والذي لامس بقرب وحميمية الأجواء السحرية والكابوسية للرواية، فإن فيلم ''حب في زمن الكوليرا'' وبحلول ناقصة عزل النص الأصلي واستعان بملامحه الخارجية فقط كي يرتجل ما يراه مناسبا لقياسات السينما التجارية في هوليوود، وهي سينما عابرة وخالية من الإيمان بالأثر الفني وما يمكن لهذا الأثر أن يحفره في ذاكرة المتلقي، وفي ذاكرة الرواية والسينما على السواء·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©