الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

البشير خرّيف .. جرح المبدع

البشير خرّيف .. جرح المبدع
25 ديسمبر 2013 19:39
في بداية خريف 1983، التقيت لأوّل مرّة بالكاتب التّونسيّ ألأصيل البشير خريف. تمّ اللّقاء في بيت السّفير ألألماني آنذاك السيّد جون كالا، وزوجته السيّدة الفاضلة سيغريد، العاشقة للثّقافة العربيّة بتأثير من والدها السّويدي الذي كان من أفضل المستشرقين في بلاده في النّصف الأوّل من القرن العشرين. وبالرغم من أنه كان مفاجئا، وعفويّا، فإنّ اللّقاء رغم قصره الزّمنيّ، كان بديعا للغاية بالنسبة لي على الأقلّ إذ أنه سمح لي أن أتحدّث لأوّل مرّة مع كاتب أحببته منذ سنوات المراهقة من خلال روايته “برق اللّيل” التي حوّلتها الإذاعة التونسيّة إلى تمثيليّة أمتعت مئات الآلاف من المستمعين أواسط الستينات من القرن الماضي. كان سي البشير في ذلك اليوم المضيء، يرتدي اللّباس التّونسيّ التّقليديّ، أي الجبّة، والبدعيّة، والسّروال التركيّ الفضفاض، ويضع على رأسه الشّاشية الحمراء. وكانت حركاته أنيقة، وصوته دافئا. وقد بدا لي حريصا على أن يختار كلماته بعناية بحيث تكون تلك الكلمات من “قاع الجرّة”، أي متجذّرة في الفولكلور التونسيّ ألأصيل. وأنا أصغي إليه، أحسست كما لو أنني ألتهم واحدا من تلك ألأطباق التونسيّة اللّذيذة التي تعدّها الأمّهات الخبيرات. ولمّا طلبت منه إجراء حوار معه للمجلّة العربيّة التي كنت أعمل مراسلاً لها آنذاك، أبدى تردّدا، بل صدودا، غير أن السيّدة سيغريد تمكّّنت في النّهاية من إقناعه بذلك. وأذكر أنه قال لي، ونحن نتوادع، بعد تحديد توقيت الموعد لإجراء الحوار: “اسمع... لم أقبل بهذا (يقصد الحوار) إلاّ نزولا عند رغبة السيّدة سيغريد التي أحترمها كثيرا، وليس لأيّ غرض آخر. وعليك أن تعلم أني لا أحبّ الصحافة. وفي هذه المرحلة من حياتي، لم اعد راغبا لا في الشهرة، ولا في المجد، وإنما في الهدوء، وراحة البال...”. في معاناة المبدع بعد مضيّ أسبوع على ذلك، توجّهت إلى بيته في “تربة الباي” بالمدينة العتيقة تحت رذاذ أوّل الخريف. استقبلني سي البشير في لباسه التّقليدي، مصحوبا بقطّ أصهب اللّون. جلسنا في غرفة متواضعة غطّت جدرانها كتب أغلبها روايات لمشاهير الكتاب الفرنسييّن بالخصوص من أمثال فلوبير، وبالزاك، وزولا، وموباسان... وكانت هناك صورة لشارلي شابلن، وأخرى لسيّدة بالزّيّ التّقليدي الّتونسي سوف أعلم في ما بعد أنها المرحومة والدته. ومن النّافذة العريضة، كان بالإمكان رؤية صومعة جامع الزيتونة. بعد أن قدّم لي قهوة تركيّة أعدّها بنفسه، قال لي سي البشير: أنت ترى أن هذا البيت غدا في حالة يرثى لها. . . وقد ألحّ عليّ أبنائي الذين انتقلوا للسّكن في فيلاّت حديثة بضواحي العاصمة أن أتركه، غير أنني رفضت ذلك رفضا قاطعا. أنظر... من هذه النافذة، وأيضا من سطح البيت، يمكنني أن أرى جزءا كبيرا من المدينة العتيقة، وأيضا صومعة الجامع الكبير، ومعالم أخرى كثيرة شاهدة على تاريخ تونس العريق، ومعها تآلفت منذ طفولتي المبكّرة. وعندما أصبحت كاتبا، شكّلت المدينة العتيقة، ومعالمها، وأيضا منطقة “الجريد” التي أنتمي إليها، العالم الذي به انشغلت في مجمل قصصي، ورواياتي. لذا سأخون نفسي إن أنا تركت هذا المكان!”. وفي الحوار المسهب الذي أجريته معه، تحدّث سي البشير عن مسائل مثيرة، ومنوّعة. . . مسائل تتّصل بطفولته، وبحياته في العاصمة في سنوات الشباب، والكهولة، وعن الكتّاب الذين تأثّر بهم. غير أن المسألة التي توقّف عندها أكثر من غيرها كانت معاناته كمبدع في بلد لا يحترم مبدعيه. كما تحدّث عن أشباه الأدباء الذين حاربوه، وسعوا إلى الإساءة له بمختلف الطرق والوسائل. بعد مرور شهرين على ذلك اللّقاء، توفي سي البشير بالسّكتة القلبيّة وهو ينحني ليسترجع قطعة نقدية سقطت منه وهو يستعدّ لدفع ثمن كأس شاي في مقهى شعبيّ قريب من بيته. ولعلّه كان سعيدا بأن يرحل عن الدّنيا وهو في قلب العالم الذي ارتبط به روحيّا، وإبداعيّا، أعني بذلك المدينة العتيقة. وكنت في باريس لمّا بلغني خبر وفاته فكان حزني شديدا. فبالنسبة لي كان واحدا من أكثر المبدعين التونسييّن أصالة، وارتباطا بروح تونس في عمقها الحضاري، والثقافي. وما أثار سخطي هو أن أولئك الذين ناصبوه العداء فقط لأنه كان مبدعا أصيلا، وحقيقيّا، تحوّلوا فجأة إلى مدافعين شرسين عنه، وعن أدبه. وليس ذلك بالأمر الغريب. ففي تونس، تعوّدنا ألاّ يكرم المبدع إلاّ ميّتا! وهذا ما حدث مع أغلب الذين صنعوا مجد بلادنا الثقافي والفنيّ، وبسبب ما عناه هؤلاء من غبن، وتهميش، وإهمال، ماتوا جميعا في سنّ مبكّرة. هكذا كان حال الشابيّ، الذي رحل عن الدّنيا وهو في الخامسة والعشرين من عمره من دون أن يتمكّن من إصدار ديوانه “أغاني الحياة” الذي خلّده. ومعبّرا عن جرحه، وجرح المبدع التّونسيّ عموما، كتب الشابي إلى صديقه محمّد الحليوي، يقول: “هم يحبّون من الشّاعر أن يكون مطربا كذوبا، يداجيهم، وينافقهم، مرتّلاً ألحانا شجيّة تطربهم، ولا تبكيهم، وتفرحهم ولا تشجيهم، ساتراً دموعه بابتسام متصنّع، مسكتا صوت قلبه بضوضائهم التي يهوونها، فإذا ما التفت إلى نفسه، وكشف لهم عمّا بها من كلوم، وأسمعهم صوتا من أصوات ألألم الذي أخرسته ضجّاتهم، صاحوا متبرّمين: “إنه أعمى لا يحدّق إلاّ في الظّلام، ولا يبصر إلاّ أودية الدّموع”. وبنفس المرارة، لخّص علي الدّوعاجي، رائد القصّة التّونسيّة، مأساة المبدع التونسي في بيت شعريّ باللّهجة العامّيّة فيه يقول: “عاشْ يتْمنّى في عنبْه مات جابولو عنقود” في نقد الأساتذة مات البشير خريّف (1917-1983) في سنّ متقدّمة مقارنة بمن ذكرت، غير أنه مات بنفس الجرح الذي مات به من سبقوه من المبدعين الأصيلين. وكان البعض من أساتذة الجامعة التونسيّة الذين أصبحوا من أشدّ المناصرين له، ومن أكثرهم إعجابا بأدبه، قد عادوه وهو حيّ، وسخروا من لغته، ومن أسلوبه. وكان هو عصاميّا، أحبّ الكلمة الجميلة، البسيطة وهو صبيّ يجول في حارات المدينة العتيقة، وفي أسواقها، ومقاهيها. وفي ما بعد سيتقن استعمالها. ولمّا أصدر قصصه ألأولى، قلّل أساتذة الجامعة من شأنها باعتبارها أدبا “عامّيّا” لا يليق بمقامهم، ولا يرقى إلى مستواهم هم المغرومون بالأساليب المتقعّرة، وبالبلاغة الركيكة، وبالمحسّنات اللّفظيّة. وهم لا يفعلون شيئا آخر غير النّيل من المبدع الحقيقيّ، ومسخ لغته، وإفراغها من كلّ ما هو عفويّ، وبسيط، وعذب، وسهل الانسياب مثل سواقي واحات الجنوب. وفي ما كان البشير خريّف يسعى جاهدا إلى ابتكار لغة جديدة، متّصلة بالواقع اتصالا وثيقا، ومتجذّرة في التّراث الشّعبيّ بعاداته، وتقاليده، كان الأساتذة الجامعيّون يتباهون بلغة عربيّة فقدت علاقتها بالواقع فباتت ميّتة، أو شبه ميّتة. وفي حين اختار محمود المسعدي الذي حظي أدبه بإعجاب الأساتذة الجامعييّن، معتبرين إيّاه مثالا للأدب الرّاقي، أن يكون أبطاله كائنات محلّقة بعيدا في عالم الأفكار المبهمة، والمعقّدة، فضّل البشير خريف أن يعكس في مجمل ما كتبه من قصص وروايات حياة المعذّبين، والبسطاء، والمحرومين، والبهاليل، والمعتوهين. وتجدر الإشارة إلى أن نسبة عالية من الجامعييّن في تونس، وفي غير تونس يحاربون بشدّة كل من يأتي إلى الأدب من أفق غير جامعيّ والأدلّة على ذلك كثيرة. ولهذا الأمر أسباب عدّة. أوّلها أن ألأستاذ الجامعيّ الذي يمضي أغلب أوقاته في الغرف المغلقة، وفي مراكز البحوث الصّامتة، يخشى كلّ مبدع يعيش في الهواء الطّلق، ويتحرّك متحرّرا من القواعد الصّارمة، ومن اللّغة الجامدة، ومن البلاغة المفتعلة، والمزيّفة. وغالبا ما تنحصر رغبة الجامعيّ في حبس الإبداع داخل قوالب حديديّة تسمّى دراسات، أو أطروحات نقديّة. لذلك فإنّ كلّ أثر لا ينسجم مع رغبته هذه، ولا يتماشى مع منهجه، يغدو محلّ شبهة، بل قد يثير سخطه، وغضبه، فيبذل كلّ ما في وسعه لتحطيمه. وثمّة سبب آخر وهو أن الأدب بالنسبة للجامعيّ مهنة، ومصدر رزق. . ومع مرور الزّمن، يصبح تعامله معه شبيها بتعامل الزّوج مع زوجته عقب عشرة طويلة. فهو لا يكرهها. لكنه لا يحبّها بنفس حبّ القبلة الأولى في زمن الشباب البعيد. أمّا المبدع الحقيقيّ فإنه يعيش قصّة حبّ يوميّة مع الأدب. ومثل عاشق متيّم، هو يتعذّب، ويحترق، ويتألّم، غير أن صورة الحبيبة لا تفارقه أبدا حاضرة كانت أم غائبة. وخلافا للزّوج الوفيّ الذي يجد نفسه مجبرا على ترديد نفس الكلمات أمام زوجته احتراما للعقد المبرم بينها منذ زمن بعيد، يحاول المبدع الحقيقيّ أن يكون مثل العاشق المتيّم الذي يبتكر في كلّ لقاء مع الحبيبة كلمات جديدة تتناسب مع اللّحظة البديعة التي يعيشانها. لهذه الأسباب، ولغيرها ظلّ البشير خريّف حتى اللّحظة ألأخيرة من حياته ملغى من اهتمامات الأساتذة الجامعييّن، ومشاغلهم، ودراساتهم، ولم يعترفوا بأهمّيته، وبأهمّيّة أدبه إلاّ بعد أن غيّبه الموت.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©