الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

«نبراسكا».. العمل ضد الزمن

«نبراسكا».. العمل ضد الزمن
25 ديسمبر 2013 19:35
ضمن عروض مهرجان دبي السينمائي المميزة والمتوفرة على قدر كبير من الجهد الإخراجي المتجاوز لشروط الزمن وإملاءاته القاسية، يقدم لنا المخرج الأميركي (أليكساندر باين) في فيلمه “نبراسكا” شريطا بالأبيض والأسود تتعانق فيه الكوميديا مع الأحزان والندامات المستعادة، خصوصا عندما يتعلق الأمر باستحضار الذاكرة المعطوبة والمشوشة لكبار السن. وهي الذاكرة التي تختبر إمكاناتها في التعرف على ملامح الوقت الذي ولّى، وبات الركون إليه مصحوبا بصور وحكايات وأسرار، توقظ في دواخلنا ومن جديد هذا الوهج الغافي والمسترسل في غيابات تتوافد وتحيا وتنبعث منذ اللحظة الأولى للتماس مع الأمكنة التي هجرناها ومع الوجوه التي صادقناها، وكأن العمر يعيد تدوير نفسه باتجاه الحنين المبهج والموجع أيضا، وهو يقف مثل علامة راكزة في البصر والبصيرة. العمل على الممثل فيلم نبراسكا هو أحد الأعمال المرشحة للفوز في منافسات الأوسكار بعد أشهر من الآن، وسبق لمخرجه باين تقديم عدة أعمال سينمائية لافتة نذكر منها: “المواطنة روث” في عام 1996، وفيلم “انتخاب” في عام 1999 الفائز بجائزة أفضل سيناريو من “اتحاد كتاب أميركا” و”دائرة نقاد السينما” في نيويورك، وترشح للأوسكار عن فئة أفضل سيناريو مقتبس، وفاز فيلمه “طرق جانبية” الذي حققه في عام 2004 بجائزة الأوسكار عن أفضل سيناريو مقتبس. وتتميز أعمال باين إضافة للعمل المضني على السيناريو، بالتركيز على أداء الممثلين الجامع بين العفوية والارتجال، وبين البناء التصاعدي في توليف الشخصية المعبرة والمتمازجة مع متطلبات الممثل الانفعالية كما هي في النص المكتوب، وهو الشغل الإخراجي الذي بدا واضحا في أداء الشخصية الرئيسية في فيلم: “نبراسكا” الممثل بروس ديرن الذي وصل إلى مشارف الثمانين واستطاع أن يقدم أداء باهرا في هذا العمل النوستالجي بامتياز، واستطاع من خلال أدائه الاستثنائي الفوز بجائزة أفضل تمثيل رجالي في مهرجان “كان” في شهر مايو الماضي، والترشح للفوز بنفس الجائزة في الأوسكار القادم بعد غياب استمر لأربعة وثلاثين عاما عندما تم ترشيحه في فيلم (العودة للديار) عام 1978. يلعب ديرن في الفيلم دور ــ وودي جرانت ــ الرجل المسن المدمن على الكحول، والذي تصله رسالة بريدية تكشف عن فوزه بمبلغ مليون دولار في اليانصيب الذي تم سحبه في مدينة لينكولن، الخطوة التالية لديرن ستكون محفوفة بالمخاطر وبالمفارقات المضحكة أيضا عندما يقرر الذهاب مشيا إلى المدينة التي تبعد يومين بالسيارة، كي يبتاع لنفسه شاحنة صغيرة ومكبسا آليا يستعيد من خلاله ولعه بمهنته القديمة في صيانة السيارات. ولكن هذه المغامرة غير المحسوبة سوف تسبب حرجا كبيرا لابنه ديفيد ــ الممثل ويل فورتي ــ ولزوجته المستاءة من تصرفات زوجها الموشك على الإصابة بالعته الذهني، وذلك عندما يقتاده أحد أفراد الأمن المتجولين، إلى مركز الشرطة، ورغم أن ما وصل إلى الأب هو مجرد ورقة وهمية وإجراء روتيني تقوم به شركات السحب على اليانصيب للترويج لنفسها وتحفيز المشاركين للدخول في المغامرة مجددا، إلا أن الأب يصرّ على استحضار مبلغ المليون دولار الذي يراه ملكا له، ومع تكرار محاولاته في الذهاب مشيا إلى وجهته البعيدة، يقوم الابن باصطحابه في سيارته لإثبات أن الأمر مجرد خدعة، بالإضافة إلى سبب آخر سيفضي به الابن لاحقا والمتمثل في رغبته بالتقرب أكثر من والده وإنعاش ذاكرته من خلال الإقامة ليوم واحد في مدينة نبراسكا التي يقطنها شقيق والده، وحيث الأرض التي شهدت كل محطات الحب والزواج والإنجاب التي خبرها والده في تلك المدينة الأثيرة على قلبه والحاضرة في ذاكرته رغم ضبابيتها والتباسها. رحلة الاختبارات وانطلاقاً من هذه الرحلة البصرية والذهنية الحافلة بالتداعيات والاختبارات القاسية والمفرحة للأب والابن على السواء، يأخذ الفيلم سمات وملامح سينما الطريق التي تكتشف فيها الشخصيات ذواتها من جديد، وتفتح ملفات وجدانية منسية تتشكّل من خلالها علاقات وتفسيرات تتجاوز ما هو مسلّم به ويقيني، ليكون المنظور الذي يحكم به المرء على الواقع وعلى الأشخاص الذين يعرفهم، هو منظور أوسع يكشف الحجب عن الأسرار المدفونة والشخصيات الغامضة التي تسقط في أول اختبار مع دوافعها الأنانية وجشعها المطلق. وهذه الاكتشافات الصادمة ستطل برأسها دفعة واحدة عندما يذهب الابن إلى منزل عمه في نبراسكا وعندما يصطحب والده إلى الحانة التي يوجد فيها الأصدقاء القدامى، خصوصا بعد انتشار خبر فوز الأب بالمليون دولار، وما يسببه هذا الخبر من كشف للأقنعة المزيفة وللطبائع البشرية المتقلبة والمنحازة دوما للأنانية والفردية والغيرة والحسد المبطن، ورغم محاولات الابن إقناع الجميع بأن ورقة الفوز هي مجرد وثيقة وهمية، وأنه يصطحب والده إلى مدينة لينكولن لإثبات هذه الحقيقة وإجبار الأب على الخضوع للأمر الواقع، إلا أن معظم أقرباء الأب وأصدقائه لا يقتنعون بالقصة، ويرون فيها حيلة مدبرة لإخفاء الحقيقة. وكما في أفلام سابقة له مثل: “عن شميث” مع جاك نيكلسون و”الأحفاد” مع جورج كلوني، يعتمد ألكسندر باين في فيلمه الجديد أسلوب المزج بين كوميديا الموقف وبين القراءة التأملية للواقع، والمشوبة بمسحة ميلودرامية وبسحر الملامسات الإنسانية الشفافة والقائمة على الاستئناس بالمشاعر العميقة والدافئة التي يختزنها الآخر القريب، والتي يعزلها عنا الكثير من التأويلات الخاطئة والأحكام الجاهزة والانطباعات الظاهرية المتسرعة، وهي ذات الحواجز التي رأيناها تذوب تدريجيا بين الأب وابنه، خلال هذه الرحلة الطويلة التي تعيد الجدل القديم حول اللغز البشري المتأرجح بين الموت والميلاد، وبين الطفولة والكهولة، وما تختزنه مسيرة الحياة من البحث الدؤوب عن المعنى الحقيقي للوجود الذي يخصّنا، وللزمان الذي يقفز بنا إلى لحظة إلهام نادرة إلى أقاصي المخيلة، وإلى حواف الدهشة وهي في كامل زهوها ورونقها.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©