الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الزفاف إلى القبر!!

الزفاف إلى القبر!!
14 ديسمبر 2012
(القاهرة) - خرج قلب الأم من صدرها، وهي تسمع خبر مقتل ابنها، إنه أسوأ ما يمكن أن يقع على سمع الأم، لم تستطع أن تتحمل الصدمة وهي تتلقى أول التفاصيل فلم تكمل سماعها، وسقطت مغشياً عليها، بينما كان أبوه يترنح فاقد التوازن فلم يكن وقع الخبر عليه هيناً أيضاً، تعالت الصرخات في أرجاء المنزل، مع خروج الجميع مهرولي، حيث مكان الحادث الذي لا يبتعد سوى عشرات الأمتار، وكان الجيران قد تجمعوا هناك حول جثة الشاب. مشهد مأساوي بكل المقاييس، فالأمر غير مسبوق، وليس مجرد حادث قتل مثل المعتاد وإن كانت كل حوادث القتل مؤسفة وممقوتة ومرفوضة، المتجمعون يضربون الأكف ببعضها ويمصمصون شفاههم، دموع وعويل، كثيرون كانوا هناك خلال لحظات يجمع بيهم الحزن ويعتصرهم الألم. وصل والد ووالدة القتيل وإخوته وأخواته، وجدوه جثة هامدة غارقاً في دمائه، منكفئاً على وجهه، وفي صدره طعنة بمطواة، كانت في القلب وكافية لأن تودي بحياته، ما زال في كامل زينته وبملابسه الأنيقة، فقد انتهى من الاحتفال بخطبته منذ ساعات، لذلك كانت الصدمة أكبر، فقد رحل عن الدنيا مقتولاً في يوم «عرسه» وعلى يدي والد عروسه، فالملابسات غير مسبوقة، خاصة أن العلاقة بينهما عمرها ثلاثة أسابيع أو تزيد قليلاً. «كريم القتيل» شاب تجاوز السابعة عشر من عمره بقليل، وقع في غرام جارته بعد لقاء جمعهما وحدهما بعيداً عن عيون أبناء الشارع، هو يعرفها من قبل بالطبع، فالمنطقة شعبية وجميع سكانها يعرفون بعضهم، الصغار والكبار والنساء والرجال، وجد نفسه غارقاً في حبها ولم يستطع المقاومة، لم يفكر إلا في الارتباط بها من غير أن يمنح نفسه أدنى فرصة للتفكير وتقييم الأمر من جميع الوجوه، اكتفى بالمعرفة القديمة بينهما. لم يكن الشاب بالقدر الذي يمكنه من الحكم على الأمور بعقلانية، لذلك انساق وراء قلبه وهواه، مجرد لقاء واحد معها أفقده التركيز، بعده عاد إلى أسرته لا ليستشيرهم في أمر خطبتها ولا لأن يخبرهم بما أراد أن يقدم عليه، وإنما فقط ليعلمهم بقراره لمجرد العلم بالشيء لا أكثر فقد حسم موقفه، وليس مطلوباً منهم التدخل ولا إبداء الرأي ولا المشورة، فقط عليهم الآن أن يباركوا ويستعدوا للخطوات المقبلة. كان أمام أسرته مثل المسحور المغيب العقل، الذي يتحدث بلا وعي كأنه لا يعرف الحقائق ولا يعرف الفتاة، بينما هو يتحدث من هذا المنطلق ويعتبر نفسه خبيراً فيما يفعل ولا يجوز لأحد أن يتدخل فيه، فهذا قراره واختياره ومن حقه أن يتخذه بنفسه بلا تدخل من أي شخص، فتلك حياته وهذه الفتاة ستكون زوجته وشريكته فيها، ومن هنا اغلق باب النقاش. الأسرة كانت في غاية العجب والاستغراب مما ترى وتسمع، لم يستطيعوا الصمت على ما يجري أمامهم، لا يصدقون أن يتصرف كريم بهذا الشكل، رأوا أن من واجبهم الحتمي أن ينصحوه وأن يوضحوا له الصورة على الرغم من أنه يعرفها، وهذا ما يثير دهشتهم، فقالوا له إن الفتاة ليست مناسبة له بالمرة، فهي جامدة الملامح حادة الطباع، منذ صغرها، وهي تختلق المشكلات مع الجيران، الجميع يشكون منها ومن سوء تعاملاتها وتصرفاتها، تثير الاشمئزاز من أسلوبها الجاف، كثيرون يعرفون ذلك ويحاولون أن يتجنبوا التعامل معها. أما عن أبيها، فحدث ولا حرج، فهذه «الحية» من ذاك الثعبان، رضعت منه سوء الخلق، وشربت الفظاظة، لا يراعي الأخلاق ولا يعرف الضمير، أصبح مشهوراً في المنطقة هو وبناته بخداع الشباب بحجة الزواج، ثم يحصلون على المهر والشبكة ويوقعون بآخرين غيرهم، وقع كثيرون في الفخ نفسه، هنا دخل «ياسر» صديق كريم وكاد يصعق وهو يسمع قراره بخطبة تلك الفتاة تحديداً، فهو صديقه ومن أقرب الناس إليه ويعلم أدق تفاصيل ما حدث له مع هذه الأسرة. على الرغم من أن كريم يعرف ما حدث، لكن ياسر جلس يجتر الذكريات، لعله يجد فيها ما يعيد صديقه إلى صوابه، فهما قد نشآ معاً وكلاهما كتاب مفتوح للآخر، ومع ذلك أراد أن يذكره لعلَّه يرتدع أو يتراجع أو يفيق لحقيقة ما هو مقدم عليه، قال إنه سبق منذ أقل من ستة أشهر أن تقدم لخطبة هذه الفتاة ولم يستمر الارتباط إلا أسابيع عدة، وكانت كلها خلافات ومشكلات ولم يحدث التوافق وانتهى الأمر بالفشل والانفصال لأنه اكتشف حقيقة هذه الأسرة ونجا بجلده على الرغم من أنه خسر كثيراً واستولوا منه على الشبكة والهدايا التي قدمها لها، لكن يكفي أنه خرج على قيد الحياة، ولم يأخذ حقاً ولم يستطع أن يبطل الباطل ولم يجد من يقول كلمة واحدة، لكنه في النهاية يجد أنه فاز بمجرد الخروج من تلك الورطة. كان هذا الكلام بلا أدني قيمة عند كريم واعتبره تكراراً مملاً، فهو يعرفه وسمعه من قبل عشرات المرات بل أعتبر أنه محاولة يائسة من صديقه لإعادة الفتاة إليه أو ربما غيرة منه لأنه سيخسرها إلى الأبد، ويريد أن يضع العراقيل أمام تلك الخطبة، لكن كان الرد جازماً من ياسر، وهو يقسم أنه لن يعود إليها مهما كان الأمر ولا يفكر فيها أبداً، وأنه لم يقصد إلا تعريفه بما هو مقدم عليه من مخاطر، وانتهى الحوار الساخن بالفراق بينهما على غضب وإنهاء الحديث حتى لا يتفاقم الشقاق ويحدث المزيد من الخلاف، وعسى أن تكون هناك جولة جديدة من النقاش تكون لها نتيجة أفضل بعدما يهدأ كريم ويعيد تقييم الأمور بشكل واقعي. لم يمنح الشاب نفسه فرصة للتراجع أو لإعادة التفكير بشكل موضوعي، فما زالت عواطفه ملتهبة، وتعدد اللقاءات مع الفتاة زادها اشتعالا، واتخذ قراره بضرورة مقابلة أبيها وتوجه إليه يطلب منه يد ابنته رسمياً، بل ولم يضيع المزيد من الوقت واتفق على إعلان الخطبة والاحتفال بعد أسبوع من الآن، وعاد ليخبر أسرته بالخطوة التي اتخذها فاستنكروا فعلته وأصروا على عدم رضاهم على هذه الخطبة لأنهم متأكدون من أن ابنهم يلقي بنفسه إلى التهلكة وهم لا يعاندونه ولا يقفون أمام سعادته وإنما هي محاولة لإنقاذه قبل أن يقع الفأس في الرأس وقبل أن يتورط أكثر. لم تجد كل المحاولات للتوعية ولا حتى وضع العراقيل أمام الفتي ليرجع عن طريق الهلاك الذي وضع نفسه على أوله وسار خطوات طويلة فيه، إلى أن جاء يوم حفل الخطبة، في الصباح توجه مع خطيبته وبمشاركة أسرتها واشتروا الشبكة التي اختارتها، كما اشترى لها فستاناً يليق بالمناسبة، ودعا كل أفراد أسرتها لتناول الغداء في أحد المطاعم المعروفة، وطلب أبوها منه أن يشتري لها بعض الاحتياجات الأخرى والتي لم تكن ضرورية أو ملحة في وقتها، فاعتذر لأنه أنفق كل ما معه ووعد بتنفيذ مطالبه فيما بعد، لكن الرجل أصر على موقفه وتبعته ابنته، تكدر الصفو سريعاً، ولم تبق إلا سويعات ويقام حفل الخطبة الرسمي ولا يريد أن يفسد الفرحة، فتنازل عن السباب الذي وجهه إليه أبوها ووصفه بأنه ليس على قدر المسؤولية ولا يحسب في عداد الرجال، وطالما ليس في مقدوره أن يتحمل تكاليف الزواج فلماذا يتزوج؟. حان وقت التوجه إلى مكان الحفل الذي كان في قاعة صغيرة أقل من متواضعة، رفض أبوه وأمه وجميع إخوته وأخواته الذهاب معه، مصرين على موقفهم، واضطر في النهاية إلى أن يذهب وحده، لم يكن بجانبه في تلك الليلة إلا نفر قليل من أصدقائه المقربين، كانت الزفة مثل الموسيقى الجنائزية، الأجواء لا علاقة لها بخطبة أو عرس، الوجوه كلها مكفهرة عابسة، التوتر على الجميع، خاصة بعد أن أعلن والد العروس أنه لن يدع هذه الخطبة تتم بسلام وسيعلن فسخها بعد نهاية الاحتفال. لم تكن المظاهر لها أي علاقة بعرس أو فرح أو بهجة، ومضت ثقيلة مملة بطيئة، الجميع يتمنون أن تنتهي بسرعة وعلى خير، لكن ما نيل المطالب بالتمني، فبعد أن انتهت المراسم الكئيبة وخرج العروسان في طريق عودتهما إلى المنزل رفض أبوها أن تستقل معه السيارة التي تم تزيينها وإعدادها من قبل، وأتيا بها إلى هنا، وأجبره على أن يعود وحده، كما جاء وحده وأجبر ابنته على أن تستقل دراجة نارية مع أحد إخوتها. عاد كريم إلى منزله ولا تخفى عن وجهه اثار ما حدث ولا يحتاج إلى شرح أو توضيح، وبعد أن استراح قليلاً توجه إلى بيت العروس، ليعرف سر تحولهم، لكنه لم يجد جواباً غير رغبتهم جميعاً في فسخ الخطبة وبلا مبرر، وبعد نقاش طويل لم يكن هناك اتفاق إلا على ذلك، ولكن الرجل الطماع جعله يخرج صفر اليدين يتحمل المصروفات كافة، وأن الشبكة من حق ابنته، هنا شعر كريم بكل المحاذير والتنبيهات والتحفظات التي أبداها صديقه ومن قبله أسرته، احتد النقاش، ورفض الابتزاز بهذه الطريقة، تعالت الأصوات، لكن والد عروسه أسكته بطعنة في قلبه أردته قتيلاً، رحل في يوم عرسه، الأحزان مهما كانت فهي قليلة عليه، وهو المأسوف على شبابه، دفع حياته ثمناً لحبه، وبدلاً من الاحتفال بعد ذلك بالانتقال إلى عش الزوجية، شيعوه إلى القبر.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©