الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

ما لم تقله سعاد

ما لم تقله سعاد
13 ديسمبر 2012
أصيب بقشعريرة تخالط روحه، بكى تتابعت عبراته، أحس بالدموع تنزلق عبر أخاديد وجهه التي حفرها دهر المرارة والوجع والمأساة صريع هوى امرأة.. صرخ صرخات جفل كل من سمعها، بركان يغلي وثورات لا تهدأ. قالت له سعاد وهي تهديه أنواع العذاب: أنت جبار، أناني، مغرور، قلبك أسود وقاس. ويريدها أن تقول له: أحبك، أشتاق إليك، أعشقك. ويجثو على ركبتيه يستجدي منها كلمة حلوة، ويتوسل إليها أن تمنحه نظرة عطف من عينيها. عيناها غابتان مطيرتان وصحراء شاسعة وبحار هادئة، وغيمة تبشر بالمطر الوفير.. أزهار متوحشة وطيور مهاجرة، تجره إليها، كما تفعل النار بالفراشات البريئة. يا أيها الملعون ارحل من حياتي لقد قمت بدفني وأنا حية. يرغب في ضمها إلى صدره ويحتسي من قربها كؤوس الحب. يحتاج لقطرة حنان. هو أرض بور وعطش وجوع وضياع. هي حديقة النرجس والزيزفون والنسرين وزهر الربيع، وقارورة العطر والروض الذي يفر إليه كل مذعور وترقص فيه طيور السنونو والحساسين، والهزار والحمامة الأليفة، وترتع فيه الغزلان، وينساب الماء العذب وتتدلى ثمار الجنة. هي مهرة نزقة وسراب هارب. تقول له: أنت سرقت شبابي وخنقت أحلامي، أنا السجينة التي حجبت عنها الحرية والانطلاق والضوء.. أنت قذر مخادع مجنون. أي حظ عاثر قادني إليك. آه من أنثى تنقلب إلى أفعى تنفث هماً وتسعر حرباً.. ويجيء إليها خاضعا، تقرأ في عينيه إرهاقاً وألمًا دفيناً، وتعب الأيام وزمان القهر. تتجاهل وجوده. تقسو عليه، تنام ملء عينيها، ويطلب إغفاءة يسيرة فلا يجدها.. تشتعل داخله حرائق الأسئلة، ورأسه يكاد ينفجر من ضجيج الأفكار، تخنقه الغصة.. امرأة تجلده وتنشر الخراب في قلبه.. وتقول سعاد لأخواتها وجاراتها: إنه سبب هزائمي ومصائبي، يفرض عليّ قيودا.. هذا الديكتاتور ربيب أسرة تمتهن التلذذ بأوجاع النساء وإذلالهن.. قلبه صخر جلمود، وهي تعلم أنه ارق من النسيم، وأنه أضعف من أن يسبب الأذى لخلق الله.. هو مرهف الإحساس، قلبه مثل الثوب الأبيض المنقى من الدنس، يبكي بكاء طفل أخذوا لعبته، ويهيم في أرض الله، يرتدي معطفا طويلا يستدفئ به في أيام الغياب والبرد والأرواح المقفرة، يريد لقمة مغموسة بالحنان والحب وأشياء صغيرة تمنحه هدوءاً وسلاما.. وتقول سعاد: روحك خبيثة.. ولكن روحه خضراء صافية نقية.. وتقول: نفسك وضيعة.. ولكن نفسه تحلق نحو النجوم وزرقة السماء والتخوم البعيدة.. وتقول إنه بخيل وهو كل ما يملكه ينفقه بلا حساب.. وتقول سعاد: أنت الصخب والفوضى والعبثية والسادية، وتسخر من ادعائه التدين والتقوى.. وتقول له: أنت نيرون يشعل نارا.. وهو هادئ الطبع ليّن الجانب، حنون سريع التأثر.. يصلي ركعتي الضحى من التعب ويبتهل إلى الله يريد اللحاق ببقية النهار حتى لا تفوته تعويذة أمه الحانية. يلقي رأسه في حضنها، يشكو لها جبروت امرأة.. تحس أمه بدمعه الساخن في حجرها، تهز رأسها ولا تقول شيئاً. تدس أصابع يدها في شعره الغزير الطويل، وتمسح على رأسه لكنها تصمت. ويقول لها: لولا عنايتك بشعر رأسي وأنا صغير لما أصبح هكذا.. يبتسم، وتصر أمه على الصمت. وسعاد تدعو الله أن ينتقم منه في الدنيا والآخرة.. هو يسأل الله العافية والسلامة ويقول: هل يمكن أن تتحول المرأة إلى نمرة أحيانا؟ قضى عمره خادما في محرابها، يقدم لها قرابين الحب والولاء والطاعة والاستسلام والعشق والاحترام. رأت منه طيبا فحسبته ضعفا. أدمنت تعذيبه وتحقيره والحط من شأنه. قالت سعاد.. وقالت.. وهو يلوذ بالفرار ويتركها تنهال عليه بسياط الوجع. قال في نفسه: لا جدوى من الكلام. وان الاحتجاج والرفض والتبرم سمة المشاغبين، والتمرد يستوجب القمع السريع حتى لا يتسع نطاقه. يحلم بحكاية قبل النوم وأرجوحة ينام فيها على أهازيج جدته يسمع صداها من بعيد: يرقد وليدي رقده هنية رقدة الغزلان في البريه يرقد وليدي طيب الله نومه وعدو وليدي ما هنا بمنام يشد الرحال صوب الصحراء، ينصب خيمة ويعتزل الناس، يعشق الوحدة ويأمل في رقدة هنية، مثل تلك التي وعدته جدته بها. ويلح عليه السؤال: ما الذي يشده إلى سعاد؟ حبل يلتف حول رقبته ولا يستطيع الفكاك منه.. يريد سلما وصلحا وسويعات صفاء.. يخيب أمله، لكنه لا يمل، إنه الحبل الذي يلتف حول رقبته لعله السحر.. سحر قوم غرباء مروا من هنا ذات سنة شؤم. يجوب الصحارى والوديان والأنهار والغابات والجبال والبحر والشجر والعشب والنبات.. يطارد الغمام والمطر.. سيارته صارت له بيتا، ألفها وألفته، يصر على لبس المعطف الطويل والحذاء الأنيق، يعتمر قبعة وينفر من ملابس بلده التقليدية.. يبحث عن النور والندى وإشراقة الصباح وبهجة الحياة والزهر والشمس والعصافير الصغيرة. وتقول سعاد: كيف جئت إلى حياتي لتحيلها إلى رماد وركام، يا من ليس لمثله عاطفة مشاعره وأحاسيسه باردة وكلماته ميتة؟ وقالوا يصفونه: كان طويل القامة، وسيما، أنيقا، بشوشا، صادقا، رحيما بالضعفاء والفقراء، متواضعا، محبا لبني جنسه، يعتصر الألم قلبه لمشهد طفل يتيم وامرأة ثكلى وأرملة وحيدة، كارها للحروب والظلم والاستبداد.. وقالت سعاد: يا مقترف الذنوب والخطايا والآثام، خير لك أن ترحل وينتهي الأمر. ان خيالك وحده كاف لإخافة ألف امرأة ولتعذيب ألف امرأة.. سار في متاهات الحياة حتى أنهكه السير. يريد أن يرتاح قليلا. خلع معطفه بسط ذراعيه كأنهما جناحي طير وأخذ يردد صمت القبور، خداع المرايا، الجراد يتقيأ حناء، الرجل الأعور يطاردني، حرية، حياة، إنسان، حياة، إنسان، إنسان.. ثم توارى عن الأنظار!
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©