الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

قراءة شارحة تدخل بين النقاد ونجيب محفوظ

قراءة شارحة تدخل بين النقاد ونجيب محفوظ
13 مارس 2008 02:21
المنظور الثاني فيتمثّل في تقسيم الخطابات النقدية إلى عدة تمثيلات مختزلة تعتمد حبكة ناقصة، لها بداية فحسب؛ لأنها لا تعترف إلا بالنسق الأيديولوجي الذي يوجّه الناقد ويتحكم به، بدلا من أن يصدر عن بدايات جديدة ومقاصد مختلفة، دون أن تكون له القدرة على أن يتجاوز النسق ويكسر آفاق التلقي؛ وهذا الاتجاه يعرف بالنقد الثقافي الذي اختزل عند بعض النقاد بالنسق أو الأيديولوجيا في النقد العربي الحديث· وهكذا فإن المنظور الذي حاول أن يقترحه الناقد علي بن تميم ويقرأ من خلاله نقاد نجيب محفوظ في هذا الكتاب، يستفيد من أطروحات ما بعد البنيوية، متمثلة في التفكيك ونظريّات القراءة ودراسات ما بعد الكولونيالية والنقد السير ذاتي أو الاعترافي الذي يربك النسق، ويحول اللاشعورية إلى شعورية، فيتحكم بها بدلا من أن تتحكم به، كي يحولها إلى تجربة ذاتية مفعمة بالخصوصية، لتتحدى التجربة الجماعية، وتردها إلى الذاتية، وتسعى إلى أن تتعقبها، معلنة أهمية الذات والأفق الإرادي الحر بدلا من الجبرية التي تعزز ما يمكن أن نسميه بالخطابات ''مجهولة المؤلف'' أو بخطابات تعود حقوق ملكيتها إلى النسق الذي اكتسح النقد العربي مؤخرا· وتحولت فيه الذات إلى شيء مقيت غير مرغوب فيه، وأصبح المبدع يبحث عمن يقوم بعتقه من عبوديته، ويسأل النجدة من سيّدٍ غير معروف قد سَجَنَه، والسيّد لا يستمع لأحد، ولا يقبل الفدية؛ لأنه متخف مثل الجبلاوي والسيد الرحيمي، ويزداد قوة يوما بعد يوم؛ لأن الخطابات لا تبتدع وإنما تتداول ويعاد كتابتها دون أن تضيف خصوصية معينة، وإنما تتراكم لتعزز السيد الخفي وترسخه، وقد وصفت هذا النزوع بالمغالطة النسقية، ولتجاوزها لابد أن يضاف إليها ''الاعتراف''، وهي إضافة متقنة· النقد الشارح إن علي بن تميم في كتابه هذا يحاول أن يمهد بمتابعة مفهوم القراءة وأنواع القراء، ويجلي ما يعرف بالنقد الشارح، ويقترح رؤية تاريخية لتطوره، كما أنه يسلط الضوء على الدراسات السابقة، ويحدد أهمية الموضوع، والنصوص النقدية المعتمدة· كما يقترح تأويلا جديدا لنشأة الرواية، ويعطي منظورا مختلفا عن الآراء السائدة، فبدل من أن تردّ النشأة إلى التراث أو الآخر أو المزج بينهما بصورة ساكنة، فإنها عاينت النشأة داخل مشهد من الصراع، بين نوع سردي تراثي عربي ونوع آخر كولونيالي، أو بين سردية سمراء وسردية بيضاء، واتسم السرد العربي في هذا المشهد بمميزات مختلفة، فالمرحلة الأولى كان جدل الصراع فيها واضحا عند الرواد، ويبدو ذلك في انفتاح الحكاية وتناوبها بين التراثية والكولونيالية، ثم انتقلت إلى مرحلة ثانية اتسمت بالسكون، فانهزم فيها السرد العربي بعد أن انتصرت السردية البيضاء وسيطر النوع القاتل· وأتت مرحلة ثالثة جديدة، أطلقت عليها '' طقوس العبور ''، وأسهمت في إعادة الصراع من جديد· ثمّ استطاع نجيب محفوظ في مرحلة رابعة أن يطور تكنولوجيا مقاومة داخل النوع الأبيض القاتل، وهذا ما أدى إلى ظهور مرحلة خامسة، بزغ فيها نوع سردي جديد وجماليات سردية للعالم الثالث نقيضة للجماليات السردية البيضاء للعالم الأول، وتكثفت هذه المرحلة بعد هزيمة حزيران· والقصد من وراء هذا التصور هو فهم الكيفية التي ظهر فيها نجيب محفوظ، وتسويغ الاهتمام به عند النقاد المهمشين قبل ثورة ·1952 وينتقل البحث إلى تسليط الضوء على تحوّل نجيب محفوظ من كونه كاتبا إلى مؤلف بعد أن دخل شبكة الخطابات، مع تبين بعض الأسباب التي جعلت نموذجه السردي سائدا بعد ثورة ·1952 ومن ثم فإن صراع الخطابات يعد مسألة ذات أهمية، وهو يطرح أسئلة من مثل: كيف تتشكل النصوص الرفيعة، ولماذا تنهار؟ ومتى تتشكل المعايير الموجهة للإبداع؟ وكيف؟ وعلى ماذا تعتمد؟ ومتى تتفتت التقاليد وتظهر أخرى جديدة؟ وهل تنهار التقاليد، وتنتهي بعد ما كانت واقفة على أرض صلبة ومتحكمة بالمشهد السردي؟ السياقات الثقافية ثم تطرق الناقد علي بن تميم إلى علاقة التلقي بالسياقات الثقافية والاجتماعية والسياسية والدينية، وهل توجه الأحداث السياسية عملية القراءة؟ وماذا يفعل القارئ إذا ما صادف شكلا سرديا يقاوم فكرة النوع، ويتحدى التقاليد النوعية التي لا تعترف بثبات وجوه السرد والمؤلفين، وإنما تلجأ إلى التعددية؟ وكيف ينتقل القارئ ليقرأ اللامكتوبية أو اللامقروئية أو فترة الصمت· وأخيرا فإن البحث حاول تحليل اتجاهين نقديين، وهما النقد الجديد والنقد الواقعي، وسعى إلى تسليط الضوء على مفهومي الأمة والدولة القومية، وكيف يحددان مسار القراءة وتقاليد الكتابة؟ وماذا يحدث بعد أن تتعرضا للتفتت؟ وهل المعايير السردية والنصوص الرفيعة هي في الأصل ظاهرة جمالية أم اجتماعية مستجلبة من الدولة والأمة؟ ومن ثم فالكتاب يفسر الحساسيات السردية عن طريق السياقات الثقافية، ويبين كيف تراجع النموذج السردي ما قبل محفوظ، ليحل محلّه نموذج الرواية عند نجيب محفوظ، ثم كيف تراجع نموذج نجيب محفوظ ليفسح المجال لنموذج مختلف، يؤمن بالتعددية، والسرد المهجن، وعبور الأنواع من أجل أصوات غير متناغمة، وأساليب مختلطة، تعرف بالحساسية الجديدة، وهل هذا العبور من نموذج إلى نموذج آخر هو عبور بريء وتحكمه الجماليات بمعزل عن صراع الخطابات والسياق الثقافي؟ نموذج الرواية وقد ميز الكتاب بين نموذج الرواية قبل محفوظ، ونموذج محفوظ السردي، واقترح مراحل محددة لتطور الرواية العربية، وقدم مجموعة من الأسباب التي أسهمت في جعل نموذج محفوظ السردي يختلف عما سبقه· وبدايات محفوظ وتلقيه نشأتا عن طريق الشعور بالتهميش أو تخيل الانتساب إلى الأقلية، وقد اقترح مجموعة من الأسباب التي أدت إلى هذا الشعور والانتساب اهمها: لم يتصد ناقد إلى كشف تمثيلات نجيب محفوظ وتلقيه في الخطابات غير العربية، وخصوصا في النقد الأنجلو أميركي، ومجمل ما يتوفر هو عرض إحصائي للدراسات، واستعراض للمواقف النقدية، أي أنها لا تعتني بخصوصية الخطاب، ولا تهتم بالتمثيلات، ما عدا بعض الإشارات الموجزة لإدوارد سعيد وروجر ألن اللذين ألحّا على أن محفوظ تم تمثله عن طريق المنظومة الاستشراقية الراسخة عن العرب· كما أن وجود حبكة متماسكة يختلط فيها الكاتب التجريبي بالمؤلف المتخيل، أدى هذا إلى تفتت الحدود الفاصلة بين السيرة والإبداع اللذين يمتزجان في سيرته وفنّه وتلقيه، ويبدو أن هذا التداخل أسهم في جعل التلقي السياقي أكثر حضورا من القراءات الشكلية؛ ولذلك فمفهوم المؤلف الشبحي أو العتبي يغني قراءة نجيب محفوظ، ويعد الأكثر أهمية من استدعائه بصورة كلية ليتحكم بالدلالة والتأويل أو تغييبه بصورة تامة· وهذا المؤلف العتبي لا يمكن تلقيه إلا بمفهوم وظيفة المؤلف· والتفريق بين الكاتب والمؤلف ضروري؛ لأن تاريخ تلقي محفوظ تحقق ضمن منظومة من صراع الخطابات، ولا يمكن فهم تلقيه دون الانطلاق من التحولات السياسية قبل ثورة يوليو وبعدها· وتلقي محفوظ قبلها كان مؤثرا في النقاد الذين أعادوا تمثيلات محفوظ السائدة قبل الثورة لكن الاختلاف الجوهري كان يتجلى في اختلاف منظورات النقاد، فسطح الخطابات ظل واحدا لكن أعماقها، تدخل المتابع في منظومة نقدية معقّدة، تقاوم أن تحوّل المؤلف إلى نمط جامد، وهذا ما جعل وجوه المؤلف متنوعة· هناك كثير من الخطابات ألحت على استحضار ''سيرة المؤلف'' بوصفها سلوكا في القراءة لكن بعضها كان يصدر عن نزوع خلاق يكمن في عد محفوظ مؤسسة رمزية وشفرة إبداعية· وقراءة محفوظ بوصفها مؤسسة كانت تبرز في ثنائية سلبية، الأولى ترى أن هذه المؤسسة أصبحت بديهة أدبية، وعائقا أمام تطور الرواية العربية، والثانية تلح على انهيار المؤسسة واندثارها· لكن هناك خطابات أكثر حيوية وإيجابية؛ لأنها تأملت المؤسسة المحفوظية عن طريق التفكير في قوانينها من أجل تطويرها· وأدى هذا إلى فهم مختلف لتأمل المؤسسة، وإعادة قراءة شفراتها، منطلقة من أهمية تجاوز الإلحاح على فكرة الانهيار أو الرسوخ إلى الانفراط الذي يعاد تلقيه بواسطة إساءة القراءة والقلق من التأثر بها، لأن كل رمزية جديدة تبنى على خراب الرمزية الأولى· القصة والرواية كما اقترح الكتاب التمييز بين القصة والرواية، وهو تمييز فني يفصل بين النوعين، والمصطلحان لم يعاملا في الدراسة بوصفهما خطأ وقع فيه المترجمون وحدهم· والنوع بمفهومه العام تحكم في تلقي نجيب محفوظ، وحدّد قراءة النقاد لأعماله، وتم التفريق بين الميثاق والعقد، فالأول يقوم على جملة ''أنا أوجد'' والثاني يستند على جملة ''أنا أفعل''، ففي حين تقود الجملة الأولى إلى إعطاء العمل الفني هوية نوعية موجودة من قبل، فإن الجملة الثانية تعتمد على الفعل والأداء المتكرر اللذين يؤديان إلى إكساب العمل نوع مخصوص يتمتّع بالقوة، ولذا فإن جزءا من تلقي نجيب محفوظ خاضع للتنكّر أو ميكانيزم التكيف أو الخطابات الحكيمة التي تحاول أن تتجنّب الصدام المباشر بالمؤسسة السياسية، وأظهر هذا النزوع في الخطابات أثرا بالغا في توجيه تلقي نجيب محفوظ، وتغيير الاستجابة إليه، وتمثل عالمه السردي، وإعادة التفكير في علاقة السرد بالواقع، أقصد العلاقة الميكانيكية الصادرة عن الإلحاح على الانعكاس الجامد، وقد أدت هذه التقنية إلى اعتماد الواقعية الجديدة عند استقبال أعمال محفوظ بدل نموذج واقعي يصدر عن إحالة العمل الفني إلى الواقع بصورة مباشرة· منظومة مركبة وقد أكدت الدراسة أن القراءات النقدية لأعمال محفوظ تعد منظومة مركبة ومتداخله بعناية فائقة، ولا يمكن فصل القراءات عن بعضها، فنقاد ما قبل ثورة 1952 أثروا في نقاد الخمسينات والستينات والسبعينات والثمانينات، كما أكدت الدراسة أيضا أهمية قراءة الخطابات النقدية قراءة تعنى بتسلسها الزمني، فلا يمكن تقديم مقالة على الأخرى في أحايين كثيرة، ومجمل الأطروحات تؤدي إلى بعضها، وتثبت منظورا نقديا بعينه، وفكرة ثبات عالم محفوظ السردي موجودة قبل الثورة، وبعدها أصبحت الحدود الفاصلة بين المؤلف التجريبي والعالم السردي غير واضحة ومتشابكة· ممّا أدى إلى ظهور صورة المؤلف التجريبي ثابتة وجامدة تماما مثلما تميز عالمه السردي بالجمود والثبات في الخطاب النقدي، وظهرت مجموعة من الألقاب تؤكد المنظور النقدي نفسه، ومن هذا أثبتت الدراسة أنه لا يمكن اعتماد حوارات محفوظ في تفسير أعماله، دون وعي بالملابسات الكثيرة المحيطة بها· كما بينت ايضا أهمية النقد السيرذاتي في تلقي نجيب محفوظ، خاصة وأن محفوظ مثّل سلطة محددة للدلالة بشكل واضح على الخطاب النقدي، واللجوء إلى النقد السيرذاتي يحفّز على تقويض سلطة المؤلف؛ لأن القارئ في هذا الاتجاه سيجد نفسه مضطرا إلى أن يستدعي ذاته واعترافاته بدل استحضار اعترافات المؤلف، ويقود في النهاية إلى التعرف على الحالة السردية للقارئ، ممّا يسهل كشف منظوره النقدي، والأمور التي حددت الاستجابة وأدت إليها· اما من حيث دور القارئ فقد تناولت الدراسة سياقات بعينها حكمت تلقي عالم محفوظ السردي، فمرحلة الستينات تختلف عن السبعينات، كذلك الثمانينات· والقارئ في كل هذه الفترات يتخذ دورا يختلف من سياق إلى آخر، حيث أسهمت التبدلات التاريخية للأمة والدولة القومية في طبيعة التلقي، وحددت خيارات الاستجابة، ووجهتها·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©