الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

«هافل» وثورة الحرية

22 ديسمبر 2011 00:31
في الوقت الذي يغادر فيه أبطال الحرب الباردة هذا العالم وينتقلون إلى الحياة الأخرى، مثل ريجان وجون بول الثاني، واليوم فاكلاف هافل، يبدو أن العالم الذي عاشوا فيه صار أبعد من أي وقت مضى، وأنه غريب عنا وبعيد عن المتناول. لكن مع ذلك من السابق لأوانه ترك تلك الشخصيات يلتهمها النسيان ويطويها في بحر من نكران الجميل والجحود. فعندما كانت أوروبا غارقة في ظلمات الأنظمة الشمولية، كان المعارضون يُزج بهم في غيابات السجون في بلدان هي نفسها سجن كبير لمواطنيها، وفي بعض الأحيان كان يلقى بالمعارضين في المصحات النفسية من قبل حكومات عاشت طويلاً على نشر الأكاذيب وتضليل الجمهور، هؤلاء المعارضون أجبروا تحت آلة القمع والتعذيب على الاعتراف بجرائم خيالية انتزعها منهم نظام هو نفسه قائم على الجريمة المنظمة ضد الشعب وضد الأصوات المعارضة، ثم فجأة ظهرت تشيكوسلوفاكيا وتسيدت المشهد الأوروبي بعدما بالغت في قمعها وسبقت الآخرين في خطوة متقدمة على درب التضييق والقمع. ففي عام 1976 قامت السلطات باعتقال فرقة موسيقية شبابية تنتمي إلى الأغنية الحديثة الصاخبة بتهمة معارضة "الانسجام الثقافي"، وهي عبارة تعكس بالفعل مبادئ النظام الشيوعي العاجز عن التسامح مع الأصوات المختلفة حتى لو كانت فرقة موسيقية، أو لحناً لا يتغنى بالنظام ويمجده! وهكذا شكل غباء النظام في تشيكوسلوفاكيا بداية انهياره وأظهر عجزه الرهيب عن إخافة الناس وثنيهم عن النهوض للمطالبة بالحرية. وفي تلك الفترة برز هافل كمثقف معارض للانسجام الثقافي الذي يروج له النظام الشمولي، وقام -بمعية آخرين- بتأسيس حركة ميثاق 77 لحقوق الإنسان. وفي تفنيد واضح للفكرة المتشائمة التي خيمت على التاريخ الأوروبي وأقعدت الناس عن التحرك، تحول الكابوس الأوروبي إلى "قصة من الخيال" على حد تعبير هافل نفسه، والذي استخدم الوصف للحديث عن تجربته الشخصية وعلاقتها بمصير بلد بأكمله. لكن هذا النهوض ضد الشمولية والظلم لم يكن بدون ثمن، ففي 27 أكتوبر 1989 أُدخل هافل السجن للمرة الرابعة في حياته، وفي ديسمبر من ذلك العام خرج ما لا يقل عن 300 ألف تشيكي إلى ساحة فاتسلاف وسط العاصمة براغ مرددين هتاف "هافل إلى القصر"، ولم تمر أيام على هذه المظاهرات حتى كان هافل يخاطب الناس قائلاً "أيها الشعب لقد عادت حكومتكم إليكم"، ثم بحلول شهر فبراير كان هافل يخاطب جلسة مشتركة للبرلمان باعتباره القائد الجديد لتشيكوسلوفاكيا الحرة، فكان الزمن الفاصل بين مدته في السجن واعتلائه الرئاسة أربعة أشهر لا أكثر. والحقيقة أن هافل ساهم في إسقاط الشيوعية من خلال التشكيك في مصداقية مبادئها المؤسسة، فقد قامت الاشتراكية العلمية على مبدأ أن التاريخ هو نتيجة صراع القوى الاقتصادية والاجتماعية، هذا الصراع الذي لا دخل فيه للفرد، لضعفه أمام قوى التاريخ وعجزه عن تحريكها. وكان هافل دائماً يركز في كشفه للأيديولوجيا الشيوعية باعتبارها لعبة ثقة يمارسها النظام ويشترك فيها الشعب الخاضع، بحيث يعتمد النظام الشمولي على تمجيد الناس للأكاذيب وقبول عملية التضليل، فيما أثبت الصدق أنه كفيل بتدمير صرح الأكاذيب والخداع الذي بنته الشيوعية وسيجت به نفسها. واليوم، عندما نعيد قراءة مقال هافل الأساسي في عام 1978، وعنوانه "قوة من لا قوة لهم"، فإننا نكون كمن يغوص في ثوب مرصع بالجواهر، فبعد الخوض في تحليل المشاكل الشيوعية واستخدام مكثف للغة نظرية يخلص هافل إلى جملة تلخص أفكاره يؤكد من خلالها أن "الشيوعية تعيش ضمن الأكاذيب" ما يستدعي طقوساً مهينة لإظهار الولاء. وفي المقال يرى أن بلده، وإن كان يعج بالشعارات التي تؤثث الفضاء العام، فإنها تفتقد لإيمان حقيقي "أي شخص يذعن لعملية تسخيف إنسانيته المتأصلة، إنما يجرفه التيار ليعيش في حياة وهمية". لكن في مجتمع يعيش على الأكاذيب تكتسب الحقيقة والصدق "قوة سياسة فريدة ومفجرة". وهكذا تتحول الرغبة في الحياة بصدق إلى نوع من الخيانة العظمى في نظر النظام، لكن مع ذلك تواصل الحقيقة زحفها من خلال الخطب السياسية وإضرابات الطعام والتعبيرات الفنية المختلفة. وكما يقول هافل، تصبح الحقيقة نوعاً من "السلاح البيكتيري يمكن استخدامه عندما تنضج الظروف من قبل فرد مدني واحد لنزع سلاح كتيبة بأكملها". وبالنسبة لهافل، تغدو الحقيقة والعيش بمقتضاها ضرورة أخلاقية، وهي لذلك تستدعي التضحية التي بدورها تستبطن "شعوراً بالمسؤولية" تجاه الآخرين والإيمان بالصداقة والحب والتعاطف. وعلى غرار آخرين، يعتقد هافل أن التجديد السياسي يبدأ أولاً من التجديد الأخلاقي والذاتي، بل إن هافل طبق هذا النقد على بلدان الغرب المزدهرة، مهاجماً ما سماه "الاعتقاد الأناني في النجاح المادي" و"غياب الإيمان بما هو أسمى من المادة"، محذراً من أن قيم الاستهلاك والنسبية قد تجرد الناس من إنسانيتهم ومسؤولياتهم. وفي خطابه أمام الكونجرس الأميركي، حث هافل الأميركيين على "تقديم الأخلاق على السياسة" وتعزيز "المسؤولية تجاه ما هو أكبر من مجرد عائلتي وبلدي وشركتي ونجاحي". وللأسف فقد سارع المثقف الأميركي نعوم تشومسكي إلى انتقاد خطاب هافل باعتباره "عضة غبية تذكرنا بخطاب مدرسي يوم الأحد"، وهو تعليق غبي في حد ذاته! وفي الأخير تبقى تشيكوسلوفاكيا محظوظة بمثقف من طينة هافل، آمن بقيم الحضارة الغربية، وهو بهذا الإيمان ساهم في إنقاذها. مايكل جيرسون - محلل سياسي أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة "واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس"
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©