الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

تزويق الهوية..

تزويق الهوية..
21 ديسمبر 2011 22:02
لم تكن “التزاويق” والمُحَسّنات غريبة عن الحياة اليومية للعربي في ما كان يخرج من الطور الحضاري لما قبل الإسلام إلى طور آخر مختلف تماما شهد دخول ما لا يُحصى من الأفكار والمواقف وبابل من الألسنة من الأقوام التي دخلت إلى قوسه الحضاري العربي والإسلامي. لم تكن تلك التزاويق والمحسنات غريبة على العربي في عيشه العادي سواء أكان يقطن في البادية أم في المدن الكبرى ذات الثِقَل الحضاري أو في ما بينهما من الأرياف وما يعنيه ذلك من اختلاف وتفاوت في كيفية التعامل مع الأشياء المرئية والمتعيِّنة في البيئة والمحيط من حوله؛ هي الأشياء التي كان يتعايش معها وفقا لصيغ بعينها حملت دلالات وأفصحت عن موقفه من العالم والمعرفة. ربما لا أدلّ على ذلك من تلك الأبحاث والكتب التي نبشت نبشت في المعاجم اللغوية العربية الأولى والقديمة وكذلك في الآثاريات وتعقبت وفقا لمناهج حديثة عديدة حياة الفرد العربي اليومية في مأكله وملبسه ومسكنه وما حمله ذلك من تفاصيل دقيقة تشير إلى مواقف عميقة من عناصر الطبيعة وأشياء العالم؛ وهي عناصر وأشياء تشمل الجامد مثلما تشمل الحيّ عاقلا أو غير عاقل. وحقيقة الأمر أنه ما كان لجملة الأفكار السابقة أو اللاحقة وما يرافقها من أسئلة أنْ تَرِد لولا تلك الأبحاث والأوراق النقدية التي تمّ تقديمها في سياق الندوة التخصصية: “فن المنمنمات الإسلامية من الواسطي إلى بهزاد” التي عقدت مؤخرا بالشارقة بمشاركة أحد عشر باحثا عربيا، في إطار فعاليات الدورة الرابعة عشرة لمهرجان الفنون الاسلامية الذي اتخذ من المنمنمات فكرة جامعة له لهذا العام. وكي لا يكون ما يقال مجرد فكرة مشحونة بالعاطفة وبعيدة عن أي نسق علمي وجهد بحثي موجود ومتعيِّن في الزمان والمكان الذي نحيا فيه، فإن بوسع المرء أن يحيل صاحب أي فضول معرفي إلى مرجعين أساسيين، من بين مراجع أخرى عديدة، في هذا السياق وذلك على سبيل المثال لا الحصر، وهما: “مذاهب الحُسن: قراءة معجمية ـ تاريخية للفنون العربية” الصادر عن المركز الثقافي العربي بيروت/ الدار البيضاء بالتعاون مع الجمعية الملكية للفنون الجميلة ـ عمّان العام 1998، والذي انبنى أساسا على معجم “العين” للخليل بن أحمد الفراهيدي بوصفه جملة من الصيغ الدالة، و”الفن الإسلامي في المصادر العربية” الصادر عن المركز الثقافي العربي بيروت/ الدار البيضاء بالتعاون مع دار الآثار الإسلامية في الكويت العام 1999. فن تزويقي من هنا فإن استدخال فن “المنمنمة” الإسلامي، بوصفه فنا تزويقيا، من بوابات إسلامية عديدة إلى الثقافة العربية وتبييئه لم يكن غريبا على الطبع والتطبع بل إن ارتباطه بوظيفة ذات طابع يتصل بإيصال معنى الكلام بأكثر صوره اكتمالا إلى السامع الذي لا يقرأ ولا يكتب ويأتي إليه الإخبار والإنباء من الكلام قد سهّل من مهمة هذا الفن وجعل من حضوره طبيعيا وسلسا، ربما على نحو أكثر من غيره من الفنون كالعمارة. ذلك أن “المنمنمة” إذ ترتبط بوظيفة سمعية بصرية تفصح وتزيد من عندها على ما يقول القائل أوا الراوي في مجتمع شفوي عندما يخاطب الأميّ الذي لا يقرأ الكتاب بل يراه ويتأمل الرسومات فيه ملوّنةً وذات وجوه مرسومة غالبا من جهة جانبية وفيها عناصر بيئية أخرى لم يعهدها في بيئته قد جعلت مخيلته تتحرك ولا تصف الحدث وحده في حكاية الراوي بل تبنيه أيضا في أجواء هي أجواء متخيَّلة بدورها. ومثلما هي حال الخطّاطين الذين كتبوا المصاحف ثم المزخرفين الذين زوّقوا المكتوب وزخرفوه وكذلك حال الخطاطين الذين كتبوا المخطوطات العلمية والحكايات التي نقلوها من الشفوي العربي أو الشفوي الإسلامي ورسّامي المنمنمات، فقد ظلّوا جميعا مجهولين باستثناءات نادرة، في الوقت الذي كان فيه هذا الفن يتطور وينحو باتجاه استقلال وظيفة الجمالية المحض عن وظيفته النفعية المباشرة والتي لم تتحقق له إلا في العصور الحديثة فقط. غير ان هذا التطور لم يكن في سياق مدرسة فنية إسلامية جامعة، بل حدث هذا التطور في مدارس صُنِّف كل منها بحسب البلاد التي نشأ فيها أو قُدِّر له أن يتطور فيها، فالآن وتبعا لمنهاج التحقيب في تاريخ الفن، هناك المدرسة الإيرانية والهندية والمغولية والصينية وما إلى ذلك من مدارس حملت الكثير من سمات البيئة التي نشأت فيها وتطوّرت على أساسها. أما المدرسة البغدادية، وربما سيمت بذلك لارتباط تصاويرها بفترة الازدهار الساسي والاقتصادي العباسي، فقد بلغت ذروة تطورها الفني مع يحيى بن محمود الواسطي، الذي، ربما لا مبالغة في القول بأنه التقاء عبقري للفن بشقيه: العلمي الذي انبنى على خبرات سابقة وتطور عنها والفطري إذ يقوم على الحدس ومراس العين والعقل معا في تأمل الأشكال، وذلك على نحو غير مسبوق في تاريخ هذا الفن. غير أن ذروة هذا الفن لم تكن خالصة للواسطي وحده بل شاركه بها الحريري بمقاماته في كتابهما: مقامات الحريري، عندما لم تكن المنمنمة قد حققت استقلالها عن المقامة حتى في بدايات القرن الثالث عشر الميلادي. بعد ذلك حدث في الثقافة العربية ما يسميه البعض ب”الفوات الحضاري” أو انقطاع الحضارة العربية الإسلامية عن تجديد نفسها ثم دخولها مرحلة الشيخوخة بحسب التقسيم الخلدوني لأعمار الحضارات بسبب ظروف ذاتية وموضوعية هي من شأن المؤرخين. لكن اللافت أن الأقاليم الأخرى أو تلك البلاد التي كانت ضمن الامبراطورية الإسلامية واصلت تطوير ما أنجزت. ففي الوقت الذي توقف فيه العطاء الفني في حقل فن المنمنمة الإسلامية في المنطقة كانت المدرسة الإيرانية بعد ذلك بقرنين تتلمس أسلوبها الخاص مع كمال الدين بهزاد منتصف القرن الخامس عشر بل ظهرت المدرسة المغولية في التصوير وكذلك استقرت المدرسة الأندلسية في المغرب العربي. لقد بدا الفن العربي والإسلامي وقد توقف على نحو سرمدي بعد سقوط بغداد بيد المغول والاندحار المرير للعرب من الأندلس ثم الصعود المدوّي للامبراطورية العثمانية في المنطقة. هكذا آلت شمس حضارة بأكملها إلى المغيب ولم يبق منها فوق الرمال سوى أصداء الماضي. بدايات استشراقية وكمَثَل مظاهر عديدة من مظاهر الثقافة العربية والإسلامية في المنطقة، فقد تمّ اكتشاف فن المنمنمات الإسلامي حديثا، بعد أن كان الغرب قد أوسعه استشراقا ودرسا وتمحيصا لدلالاته الاجتماعية وتعرّف عبره على طريقة الحياة العربية ومفرداتها من خلال هذه الرسومات التي بدت غريبة ومتطورة عن وظيفتها النفعية وبلغت من الصيغ الجمالية حدّا يجعلها فنا قائما بذاته، لكن ذلك كان في النصف الأول من القرن الماضي حيث يمكن القول أنه وفقا للحضور ثقيل الوطأة للاستعمار والاستشراق قد ولد فن المنمنمة الإسلامية عربيا في الجزائر على يد محمد راسم الجزائري الذي ما يزال يعتبر حتى اليوم أحد أبرز فناني المنمنمات العرب في القرن العشرين إذ تُسجّل له محاولاته في خلق خصوصية عربية لهذا الفن بمعزل عن مدارسه الإيرانية والتركية والهندية، وبتأثير من علم المنظور وتطبيقات الفرنسي بول سيزان على نظري اللون في اشتقاق الضوء والظل التي لم يتمكن فنان المنمنمات الإسلامية الكلاسيكي معالجتها تقنيا فذهب باتجاه تسطيح الشخوص عبر الصورة الجانبية أو المواجِهة للناظر إلى العمل على طريقة الرسم في الحضارات السابقة على الإسلام أو ما هو أقرب إلى تلك التقنيات. هذا كله لم نعرفه عربيا إلا في الخمسينات من القرن الماضي، عندما حدثت لت الرجّة. ولقد أصاب هذا الاكتشاف الوعي التشكيلي العربي بالذهول، على الأقل لدى التشكيليين والباحثين في الجماليات الذين أرّقهم مأزق “هوية عربية” للوحة الحديثة وسط تجاذبات فكرية وسياسية ذات استقطابات حادّة. لقد شهد الوعي التشكيلي العربي آنذاك انفجار أسئلة عديدة لم يجاوب عنها انتزاع المنمنمة من المقامة وإعادة رسمها مشتملة على عناصر بيئية راهنة وكذلك لم تكن الاستفادة من تقنيات الرسم وأساليب معالجة الموضوعات المطروحة في اللوحة الحديثة بأحسن حال. الأرجح أن محمد راسم الجزائري بما هو تكوين فني ومعرفي وثقافي وإنساني أقرب إلى أن يكون ردّ فعل أصيل على ذلك الغياب الطويل لفن المنمنمة الإسلامية وإعادة اكتشافه بدفع من الاستشراق الفرنسي، إنما بانفتاح ذهني وموقف متحضر من التطورات الفنية وما صاحبها وأثر فيها من تطورات علمية. كان على الرجل أن يهضم كل ذلك ويعيد إنتاجه من جديد في لوحة تحمل فكرته عن ذاته وتصوره عن حاضره وماضيه. لكن للأسف من غير الممكن الإشارة إلى “علامة” أخرى في هذا الطريق، أو “معلم” آخر في هذا الفن في عصرنا الحديث. مؤثرات حديثة يجعل ذلك من الصعب جدا الحديث عن حضور مؤثرات حقيقية للمنمنمة الإسلامية في الفن العربي الحديث والمعاصر، كما حال علاقة هذه اللوحة بفن الخط العربي مثلا، يلاحظ الرسام والناقد والباحث الجمالي السوداني الدكتور حسين جمعان، في حوار أجراه معه كاتب هذه السطور أثناء مشاركته في ندوة “فن المنمنمات الإسلامية من الواسطي إلى بهزاد” أن “المنمنمة غير معروفة حتى على صعيد أهل الفن التشكيلي المعاصرين، وليس لها أثر في حركة الفن إما لجهل بها أو عدم استساغة”. وذلك مع ان الكثير من الرسامين العرب المعاصرين من الذين يرسمون اللوحة الواقعية أو التعبيرية أو التعبيرية التجريدية يميلون إلى الشفافية اللونية والاعتناء بالتفاصيل وقبل ذلك بناء اللوحة بدءا من اللون الأساسي فضلا عن الاهتمام بأصول التشريح، وهي كلها أفكارٌ ومشاهدٌ وأسلوبيات وتقنياتُ معالجةٍ لونيةٍ للسطوح التصويرية موجودة في المنمنمة الإسلامية التي قدمت للفن عبر رسومات أساتذتها الكبار دروسا عظيمة في الشفافية اللونية والإيهام بالحركة والارتقاء إلى عالم تخييلي؛ كلها جميعا ما تزال دروسا مكتملة، إنما لم تُقرأ حتى الآن. إذن ماذا عن مستقبل المنمنمة الإسلامية فنا ولوحة؟ هل ستستفيد من منجزات الفن الحديث كي تطوّر من نفسها؟ أم بتفكيك عناصرها ثم نقل هذه العناصر إلى اللوحة المعاصرة؟ هل بالانفتاح على المدارس الأخرى في فن المنمنمة الإسلامية التي تشهد ازدهارا مثل المدرسة الإيرانية أوالهندية أو التركية؟ مثلما نرى في معرضين أساسيين من معارض مهرجان الفنون الإسلامية بالشارقة: منمنمات من راجستان ومنمنمات إيرانية الذي يضم أعمال أربعة من رسامي المنمنمات من إيران. ربما يكون ما هو أقرب إلى أن يكون مفتاح الإجابة على سؤال المستقبل لدى الفنانة الجزائرية الشابة سارة صراوي صاحبة معرض “منمنمات جزائرية” التي، رغم اعتزازها بأنها قد خرجت من خيمة محمد راسم الجزائري، لا ترى ضيرا من تأثرها بالمنمنمات الهندية والإيرانية المعاصرة وخاصة على صعيد معالجة القضايا المعاصرة التي تعصف بالمجتمع الجزائري وخاصة الموقف من المرأة. تقول سارة صراوي أنها تشارك سنويا في مهرجان الجزائر للمنمنمات والزخرفة، وأنه لولا هذا المهرجان الذي لا يتجاوز عمره السنوات الأربع لاندثر محمد راسم من البلاد بكل ما أنجز في سبيل إعادة الحياة لهذا الفن الفريد. في نهاية التحليل فإن القرار بإعادة الروح إلى المنمنمة الإسلامية عربيا هو قرار سياسي بالأساس يُتخذ من أجل أن تُصبح المنمنمة الإسلامية فنا يمكن تعلمه في أكاديميات بعينها تضمن حرفيين وفنانين من الأكاديميين القادرين على خلق حضور للمنمنمة الإسلامية في الساحة التشكيلية يجعلها تجاور اللوحة المعاصرة وبعد ذلك من الممكن الحديث عن تأثير أو أثر أحدهما في الآخر، او الحديث عن أزمة هوية بين طرفين متحققين على أرض الواقع، وذلك تماما مثلما حدث في ثقافات متجاورة نتقاسم وإياها مواقع جغرافية في القوس الثقافي للحضارة العربية والإسلامية.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©