الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الحديقة تحت الجفن

الحديقة تحت الجفن
21 ديسمبر 2011 22:07
كان من المهم أن تقول شيئاً، وخاصة لأنصارها الذين تجمعوا أمام منزلها بانتظار خروجها يوم الجمعة 2010/10/12 بعد 18 شهراً من الإقامة الجبرية في المنزل، وحين خرجت زعيمة المعارضة البورمية اونج سان سوكي للناس قالت بأن أهم ما تعلمته واختبرته طوال حياتها وتجربتها المريرة هي قدرة الإنسان على التغلب على ذلك الوحش المسمى الخوف. “فلنتغلب على الخوف” أو هذا باختصار ما أرادت تأكيده “سيدة دانجون” أو الملقبة بذلك. من جهتي أعجبت بهذا الاختصار وبهذا التأكيد، وكتبت عنه مقالة بعنوان: “أيها العربي.. كيف حال قلبك” نشرت هنا، في “قفص الأمواج” (2010/12/30) ولم أكن أدرِ أن العام الذي كان يقترب مني ومن العالم في تلك الأيام سيصرخ الناس فيه، وعلى عدد لا يحدُّ من الساحات بما يشبه كلام “سيدة دانجون” ذاك، وستبرز أمثلة لشعوب وجماعات وأفراد تغلبت على الخوف فعلاً، وحققت ما كان من قبل 2011 بمثابة غير الممكن والصعب والمستحيل. بل إنه وفي الأسابيع الأخيرة من عام 2010 كانت جرثومة الثورة قد دخلت فعلاً وانتشرت في جسد السلطة التونسية المترهل، ولن يبدأ العام الجديد إلا بذلك النشيد الهادر: الشعب يريد، وبالتوانسة وهم يحتفلون بولادة جمهورية حريتهم، تلك الجمهورية التي يوشك عام 2011 وقد اكتمل نصابها وآن لها الآن أن تشرع في بناء مستقبل مشرق، أو هكذا يودونه، لذلك الشعب المجيد. كما أنني وحين كتبت عن “سيدة دانجون” المعارضة الكبيرة والحائزة على جائزة نوبل للسلام، لم أكن حتى لأحلم بأنه قد تمر شهور قليلة فحسب، وأحتفل ويحتفل العالم معي بـ “سيدة تعز” اليمانية توكل كرمان، وهي تتغلب، ومعها عديد من الشباب اليمني على الخوف، وتخوض معركة الحرية في الساحات وتحوز على جائزة نوبل للسلام. وبالفعل يعبر ظهور كرمان العالمي هذا عن تلك الإرادة التي انطوت عليها أرواح عدد كبير من أفراد الشعب اليمني، ومن مختلف طوائفه، والتي تجوهرت حول التغيير والذهاب باليمن وإنسانه نحو مستقبل مختلف عن ذلك الماضي الطويل، الذي رزحت فيه خاصرة الجزيرة العربية هذه للفقر والمرض والجهل والحروب ومؤامرات الساسة وفتوحات جلسات القات والقعقعة الصدئة. وأي اطلاع سريع على سيرة كرمان الذاتية، يريك بأنها تجربة تحققت في ساحة الحرية، إلا أن توكل عملت على نسجها منذ أمد طويل. إلا أن توكل عملت على نسجها منذ أمد طويل. فبعد حصولها على بكالوريوس تجارة عام 1999 بتقدير جيد جداً، تدرس العلوم السياسية وتحصل على الماجستير، إضافة إلى دبلوم تربية عام 2000 ودبلوم كامبردج في اللغة الإنجليزية وآخر في البرمجة اللغوية العصبية. إنه سعي حثيث نحو المعرفة، وكأن المرأة اليمنية ممثلة في كرمان أرادت من التعلم أكثر من الوظيفة والمظهرية، أرادت الذهاب أعمق في تأكيد الذات وهو تأكيد ستعمل عليه بجد في المشاركة المجتمعية فمن عضوية في جمعيات الصحافة اليمنية والعربية والعالمية، إلى العضويات ذات الشق الحقوقي والنضالي والمحاور: عضو صحافيين لمناهضة الفساد، وعضو المنظمة الدولية للصحافة، وعضو مؤسس منتدى (WANA) لدول غرب آسيا وشمال أفريقيا، وعضو منظمة الخط الأمامي Front Line، وعضو منظمة العفو الدولية. قائمة طويلة من العضويات أسردها هنا: لأتساءل ما الذي كانت تريده توكل من كل هذا الحراك ولن أجد إجابة هنا أفضل مما قالته “سيدة دانجون”، فما يعتمل في توكل لربما هو شبيه بما يعتمل بالنبتة وهي تشق قشرة الأرض و”تتغلب على الخوف” في مسعاها نحو الضوء والهواء والتعدد الذي تبعثه الفواصل والمتعة التي ينطوي عليها التمييز. تُخرج كرمان العديد من الأفلام الوثائقية حول انتهاكات حقوق الإنسان وعن الحكم الرشيد في اليمن، وفيلم يُعالج ظاهرة الانتماء في اليمن وآخر عن المشاركة السياسية للمرأة وفيلم عن تهريب الأطفال (لاحظ خطورة العناوين) وهي إضافة إلى ذلك تكتب، ومما كتبت مقالات سياسية ساخنة وجريئة كانت تنشرها في صحيفة ناطقة بلسان الحزب الاشتراكي، وهي كما يعتقد البعض “مفارقة لكاتبة إسلامية في صحيفة يسارية”. وكناشطة حقوقية أطلقت وأسست منظمة باسم: “صحفيات بلا حدود”. عند بدء الحراك الثوري اليمني الحالي شاركت توكل في تجمعات احتجاجية صغيرة تقام كل يوم ثلاثاء أمام مقر مجلس الوزراء اليمني، مطلقين على مكان الاعتصام ساحة الحرية، إلا أن ساحة الحرية ستتسع بعد ذلك لمئات الآلاف، وسيزحف يوم الثلاثاء نحو الجمعة، ويهدر الصوت الأبدي في هواء صنعاء المرتفعة: الشعب يريد... كرمان نارية، نشاطها ناري ومتعدد، واضح ويذهب إلى حيث ينبغي أن يكون، من هنا فإن من لسعهم حراكها لاشك سيقولون بأنها مأجورة، وينبغي عند العرب أن تكدس منظمات حقوق الإنسان نشاطاتها في إسرائيل، تاركة طغاتها أحراراً في ارتكاب ما يودون ارتكابه، إذ ليس لهم حقوق، كل له حقوق إلا العرب. لهذا فإن “الناشط الحقوقي” في مثل هذه المجتمعات ليس عرضة للترهيب والإرهاب فحسب، وإنما للتخوين والحصار الاجتماعي، ولقد نالت توكل نصيبها من فواكه الأمن المرة هذه، بل أنها وفي اللحظة التي عثرت فيها كرمان على محل ظهورها وتحققها: منصة خشبية في ساحة التغيير أمام جامعة صنعاء تلقي من عليها خطابات وبيانات ينصت لها مئات الآلاف من المتظاهرين. في لحظة من هذه اللحظة اختطفت توكل من قبل عناصر أمنية، حيث أُقتيدت إلى سجن تابع للداخلية مما أثار ضجة كبيرة واستنكاراً شعبياً واسعاً أجبر السلطات اليمنية على الإفراج عنها خلال أقل من 24 ساعة، مما زاد من شعبيتها الذي لا تكاد السلطات أن تشفى منه. إن كرمان وبكل هذه الجوانب من سيرتها تعكس حقيقة بعض أسرار “الصوت المتماسك” الذي أظهرته ثورة المجتمع اليمني وهي تعبر الشهور دون أن تحقق شعاراتها الواضحة ولكنها الجذرية والمتمثلة بيمن جديد. تبقى هناك “إسلامية” كرمان، أو ميولها للتيارات الإسلامية، وسيصدم المتابعون، وكأنهم لا يعرفون بأن هذه التيارات هي التي كما يعبرون، تقطف زهور ربيع الثورات العربية، في تونس ومصر وليبيا والمغرب والأردن، ولعلَّ ذلك سيكون في اليمن وسوريا، بل إن فوز كرمان بجائزة نوبل للسلام وفي شق منه، هو تقدير للناشطات الإسلاميات، وهن على ما يظهر الغالبية في الحراك الثوري اليمني. ما الذي لا يقلق في هذا، على الأقل من وجهة نظري؟ الذي لا يقلق أنه كان لابد أن تخرج هذه التيارات من ظلام السجون وعتمة أقبية المخابرات ومطاردات الليل إلى الضوء والوضوح حيث تُمارس السياسة كقوة مجتمعية، معترفة بالأبعاد المختلفة للمجتمع المدني، مركزة على القانون وحقوق الإنسان وتداول السلطة، خاصة ولربما أكثر من غيرها، هي من جرَّبت لعنة التخلي عن كل هذه الشروط التي لم يعد بالإمكان إقامة مجتمع إنساني بدونها. أما المقلق فأن تأخذ هذه التيارات “العزة بالإثم”، وبرأيي كذلك، فإن الأمر لا يقتصر على التيارات الإسلامية فحسب، وإنما على الأحزاب والمخرفين من السياسيين والمثقفين والذين لطالما استعملتهم السلطات الغاربة، ها هم الآن فعلاً يركبون على ما حققته ساحات الحرية ويستولون على المشهد برمته، قاذفين الشباب، مشعلي ذلك الربيع في الخلفية.. إذ أين هم شباب الثورة في تونس أو مصر أو ليبيا، اختفوا، وبالتالي وضعت مطالبهم في جيوب بدلة السفاري التي يلبسها عادة قدامى السياسيين وأرباب الأحزاب. يحدث ذلك بوضوح في مصر، حيث دولة داخل الدولة، ويحدث للنظام فتحات أكثر من أبراج الحمام، أو من قصور النمل، ولكن حدث هذا ويحدث في اليمن، إذ منذ تدخلت الأحزاب في تشكيل صدى صوت المجتمع اليمني الثائر، وذلك الصوت قد مزّق، ولولا إصرار مدهش من قبل الثائرين على نسجه كل مرة من جديد، لصار اليوم بلا صوت، أو هذا ما يُراد له، المثقفون والأحزاب كافة هي المقلب الآخر للسلطة التي أراد “الربيع” إسقاطها. كان على هؤلاء أيضاً أن يرحلوا إلى الصمت. وها هو عام 2011 يوشك على الانتهاء، بلا يمن “سعيد”، بعد قرون، بما حققته ثورته، ولا تبدو في الأفق أي إمكانية لتوقيف آلة القتل الدامية تلك التي ترتكب بحق الشعب السوري. في مصر ما زال العسكر يقدمون عرضاً سوريالياً للعرائس، ولو تأخر الليبيون عن حسم وتحديد ما يريدون فإن تلك الصحراء الغنية قد تتحول إلى آبار من الدم. حماساتنا على ما يبدو “للربيع” قد تفتت أمام ما نتابع، لقد أرهقنا عام 2011، أرهقنا من البهجة التي صاحبنا بها تغلب شعوبنا العربية على الخوف، وأرهقنا من انتظار النتائج، ما قد يصل إليه هذا الحراك أو ذاك، وبعد ذلك، ما الذي بإمكان أن يحقق هذا التغيير أو لا يحقق. فأنصار الجمود وعبدة الطغاة كثيرون، ولقد أرهقت تربصهم، وأرهقنا كذلك القراءات الضحلة لما يحدث، والقراءات المغرضة، وأرهقنا نحن أنفسنا بعواطفنا المشبوبة تجاه هذا المظهر من التحقق أو ذاك، وبانكسارات مثل هذه العواطف. ما الذي سيُقدمه لنا عام 2011 في أسابيعه الأخيرة؟ أم أن “دم الربيع” ما زال حاراً ومتدفقاً كسيل البراكين ولن يوقفه تغير العام ولا احتفالات رأس السنة، فهو كأي دم من هذا النوع لا يتوقف إلا عندما يشبع من الجريان. كل هذا بالنسبة لي نوع من القلق، وإن يكن جميلاً وخصباً. وبعيداً عنه سأحتفل بأن هذا العام أطلق روحاً نادراً في الفضاء العربي، روحاً كالموجة، كالجمرة، روحاً من وردة، إنني أحتفل وأحتفي بظهور هذه الوردة على حياتي وفي حياتي. ولهذا فإن الاحتفاء يمنعني عن ذلك، يبحثون في السماد الذي أنتج هذه الوردة، أو في المزهرية التي قد توضع بها بعد أن تُقطف. ظهور الوردة كذلك هو إمكانية لورود لا تعد ولا تُحصى، ففي الوردة حديقة، أو هكذا قال مولانا جلال الدين الرومي، وبما أن الوردة ظهرت، فإن الحديقة تحت الجفن. a.thani@live.com
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©