الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

العراق: هواجس الاضطراب... بعد اكتمال «الانسحاب»!

العراق: هواجس الاضطراب... بعد اكتمال «الانسحاب»!
19 ديسمبر 2011 20:44
انطلقت القافلة العسكرية الأميركية عبر الصحراء العراقية المنبسطة مع أول ضوء للفجر حاملة الدفعة الأخيرة من القوات الأميركية إلى الكويت المجاورة، واضعة نهاية لحرب أميركا المكلفة والمثيرة للجدل التي خاضتها في أرض بلاد الرافدين المضطربة. وعندما وصل الجنود سالمين إلى الجانب الآخر من الحدود المشتركة مع الكويت اختلطت صيحات الفرح: "ها نحن عائدون إلى الوطن!" و"لقد انتهت الحرب"!، وأخذ بعضهم بعضاً بالأحضان، وانطلقت مصافحات التهنئة العارمة. وفي هذا الخضم صاح جندي "أنا ذاهب إلى ديزني لاند" ورد عليه آخر "أتمنى لك قضاء كريسماس سعيد". وقد عبرت العربة الأخيرة الحاملة للقوات المنسحبة نقطة شرطة حدود كويتية حصينة بعد مرور ثماني سنوات وثمانية أشهر و28 يوماً على ذلك اليوم الذي تدفق فيه قرابة 150 ألف جندي عبر نفس النقطة، وهم يتصببون في ذلك الوقت عرقاً في بدلاتهم السميكة الواقية من المواد الكيمياوية والبيولوجية، ولكن تحدوهم الثقة مع ذلك في قدرتهم على تحقيق نصر خاطف ومؤكد. وكانت الفكرة السائدة لدى هؤلاء الجنود في ذلك الوقت هي أنه بمجرد سقوط نظام صدام، فإن كل شيء سينتهي، وسيعودون بعد ذلك إلى أرض الوطن. ولكن ما حدث بدلا من ذلك هو أن دولتين لا تعرفان سوى القليل عن بعضهما بعضاً، تصادمتا في حرب طويلة ووحشية كلفتهما معاً ثمناً باهظاً، وعندما أرادت أميركا الآن مغادرة العراق بعد كل تلك السنوات فإن البلدين يفترقان ولدى كل منهما فهم مختلف تمام الاختلاف لما جرى بينهما، وبشأن ما ينتظرهما في المستقبل من علاقات وتحديات. في العراق رأت الولايات المتحدة سمعتها وهي تتلطخ، بسبب الغزو الاستباقي الذي شنته تحت ذريعة البحث عن أسلحة الدمار الشامل التي يحوزها نظام صدام، وقد كلفها ذلك الغزو حتى تاريخ انسحابها 4484 جندياً قتيلاً و32 ألف جندي جريح بالإضافة إلى تكلفة مادية تجاوزت مئات المليارات من الدولارات على رغم معاناة أميركا خلال الجزء الأكبر من تلك السنوات من مصاعب اقتصادية شديدة تضرب اقتصادها في الداخل. أما العراق فقد دخل هو أيضاً بعد الغزو في مرحلة مظلمة من الصراع الأهلي والأحقاد الطائفية التي انطلقت من عقالها بعد إسقاط نظام صدام الديكتاتوري الخانق، وهو صراع لقي فيه عدد يتراوح ما بين 104 و113 ألف مدني عراقي مصرعهم. وكانت حصيلة هذا النزيف للدماء، ديمقراطية معيبة لم تستطع ضمان الأمن للعراقيين ولا تحقيق التوافق بين أطيافهم السياسية حتى الآن. أما جنود القوات الأميركية المنسحبة فيتحدثون بفخر عما فعلوه في العراق، وكيف أنهم خلصوه من طاغية دموي، جثم على أنفاسه سنوات طوالاً، ووفروا -على رغم أي شيء- الظروف الملائمة لإجراء أول انتخابات حرة، وقاموا إلى جانب ذلك بتدريب وتسليح الجيش وقوات الأمن العراقية التي كانت تزداد ثقة بمرور كل عام، بالإضافة إلى أنهم تمكنوا -على أقل تقدير- من تخفيض حدة العنف الدائر بدرجة كبيرة للغاية خلال السنوات الأربع الماضية -وإن لم يتمكنوا من القضاء عليه نهائيّاً. ولكن الحرب شكلت عبئاً ثقيلاً على الجنود الأميركيين وعائلاتهم. فبعض هؤلاء الجنود ناوب لثلاث مدد خدمة، وبعضهم أربع أو خمس مدد، وهو ما شكل ضغطاً نفسيّاً على عائلات هؤلاء الجنود، وأدى إلى زيادة حالات الطلاق فيها، وفقد الأطفال رعاية الآباء، ومرت المناسبات الاجتماعية المختلفة من أعياد واحتفالات زواج وميلاد وغيرها من دون فرح بسبب غياب الأب هناك في العراق. وليس هذا فحسب بل إن زيارات وفود القوات المسلحة لبيوت عائلات الجنود الذين يخدمون في العراق لإبلاغ أفراد العائلة بمصرع معيلها باتت مألوفة، وزادت معدلاتها كثيراً وخصوصاً في منتصف عام 2007 حيث وصل متوسط عدد مثل تلك الزيارات الحزينة إلى أربع زيارات يوميّاً. وهناك كثير من القصص المحزنة عن تلاقى المصائر بين مقاتلين أميركيين، ومواطنين عراقيين لم يكن أحد منهم يعرف الآخر من قبل. ومن بين تلك المصائر التي تشابكت على غير ميعاد مصير كل من اللواء الأميركي "ديفيد بيركنز"، وزياد طه المدني العراقي، وذلك عندما فتح اللواء القتالي الذي يقوده "بيركنز" في 7 إبريل عام 2003 النار على مشتل الزهور الأنيق المملوك لطه، والواقع على جانب أحد الشوارع في العراق. والذي كان قد احتل من قبل رجال ميليشيات من سوريا وأفراد من الحرس الجمهوري العراقي، على رغم مناشدات طه لهم باتخاذ قاعدة خاصة بهم في مكان آخر غير مشتله الذي يعتمد عليه في توفير معاشه. وكانت القوات الأميركية بعد أن دخلت بغداد قد قامت برصد وجود جنود عراقيين ورجال ميليشيات في المشتل ولذلك قررت القضاء عليهم وتدمير المكان. وعندما انتهى الجنود من إطلاق النار، كان المشتل قد دُمر تماماً. كان ديفيد "بيركنز" برتبة عقيد في ذلك الوقت، ثم خدم بعدها مدتين إضافيتين في العراق، ترقى خلالهما إلى رتبة لواء وأصبح المتحدث الرسمي باسم القوات الأميركية في بغداد ومسـؤولاً عن بعض الشؤون الإدارية الخاصة بالحكومة العراقية بالإضافة إلى ضلوعه في ملفات سياسية ومسائل أخرى متعلقة بمفاوضات النفط والإعداد للانتخابات التي أجريت هناك. وخلال تلك السنوات كان "بيركنز" يمر من حين لآخر على المشتل الذي أعيد بناؤه عدة مرات بعد ذلك. وفي كل مرة كان "بيركنز" يتذكر منظر إطلاق النار على المشتل في الأيام الأولى المضطربة بعد دخول قواته بغداد عام 2003 ويتذكر ما تلا ذلك التاريخ من أوقات عصيبة. يقول "بيركنز" عن ذلك "في العراق يحبون أن يقولوا دوماً إننا قد ارتكبنا أخطاءً، وإننا لم نكن نفهم بلادهم، وأعتقد أنهم على صواب فيما يقولون" إلا أنه يستدرك: "ولكنهم ينسبون إلينا أيضاً فضل أننا قد تعلمنا الكثير عبر السنوات". و"بيركنز" فخور بما أنجزته القوات الأميركية في العراق، ولكنه يخشى ألا يكون العراقيون قد أصبحوا مستعدين تماماً للديمقراطية بعد، كما أن زملاءه من العسكريين العراقيين يشعرون بالقلق لما يمكن أن يحدث بعد رحيل قواته. ويتساءل "بيركنز" مشيراً للعراقيين "هل هم قادرون على الثقة بأنفسهم؟ هل حققوا النضج السياسي المناسب؟ إن الأمر بات متروكاً لهم الآن". أما طه البالغ من العمر 34 عاماً الآن، فقد كان عليه أن يتعافى من آثار الغزو والاحتلال الأميركي وذلك بعد أن ماتت والدته عام 2003، ومات والده أيضاً في ديسمبر من نفس العام متأثراً بالضغط والتوتر النفسي الناتج عن الغزو -كما يقول طه. وقد أعاد طه بناء مشتله الأنيق مرات أخرى، ولكنه كان يتعرض للتدمير المرة بعد الأخرى بسبب نيران القذائف والألغام مما اضطره لترك العمل في هذا المجال نهائيّاً عام 2009 بعد أن أقامت القوات الأميركية حواجز في الطريق حجزته تماماً عن الزبائن وأثرت على حجم مبيعاته. وقد اضطر طه بعد ذلك إلى الفرار من الحي الذي تقيم فيه طائفته السنية وهو حي "السيدية" الذي يعتبر من أخطر الأحياء في بغداد حتى الآن، واتجه للعمل بعد ذلك كميكانيكي لإصلاح السيارات، وهي وظيفة تدر عليـه دخـلاً لا بأس به، ولكنه ما زال مع ذلك يشعر بالحنين إلى أيام ما قبل الغزو حينما كان رجل أعمال ناجحاً. وهو يشعر بالحنق من الأميركيين الذين كانوا يفتشون بيته ليلاً ويرعبون زوجته وابنه الصغير، ولكنه يحمل مشاعر مختلطة تجاه الانسحاب الأميركي حيث يخشى أن يندلع العنف مجدداً بسبب الفراغ الأمني المتخلف عن ذلك الانسحاب. وعن ذلك يقول طه: "إذا ما أدى رحيلهم، إلى جعل العراق أكثر أمناً فإن هذا الانسحاب سيكون شيئاً جيداً في حد ذاته". ويضيف وهو يخطو فوق أصص الزهور المكسورة والنباتات النامية بشكل غير منتظم في مشتله المهجور الذي كان يوماً ما عامراً بالأزهار والرياحين: "ولكن ينبغي ألا ننسى أنهم قد غزو المدينة وغيروا كل شيء فيها، بل وكل شيء في بلدنا، ولا يستطيع أحد أن يزعم أن ذلك شيء جيد، أو حتى يمكن أن يترتب عليه أي شيء جيد". ديفيد زاكيتشينو المعبر «كيه» - الكويت ينشر بترتيب خاص مع خدمة «إم. سي. تي إنترناشيونال»
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©