الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

يوسف الخاطر..تسرّبتَ في صخب الأسئلة

يوسف الخاطر..تسرّبتَ في صخب الأسئلة
18 ديسمبر 2013 20:08
يوسف الخاطر، بأحلام اليقظة، نهضت الفكرة، وترعرعت، فتنامت شجرة وارفة تختزل الضوء، ثم تنسحب كأنها الخيوط الهاربة من عيون الشمس.. نظرت.. ونظرت، حتى بدت عيناك نجمتين، تخبئان الأمل، وتجلسان عند حافة النهار لعل وعسى يسفر ذلك المقال “وراء الأحداث” عن نهاية لأنفاس تقطعت إثر خبيب النوق، وتوقك إلى مرحلة ما بعد التأمل، والآن وأنت وقد حررت الروح من مقبرة الجسد العليل، وأيقنت أنك في الحرية المطلقة تبحث عنك في فضاءات الاختلاف، في خيال ما بعد الموت، وتغتسل بالدمعة التي تجمدت في المحجرين إثر إحساسك، بالنهاية المؤلمة رغم عدم اليقين، رغم ظنونك أنك لن تكون بعدها في نفس المكان، ولن تعود إلى ذلك الكرسي المستدير حول نفسه، ولن ترى عيناك نفس الوجوه التي أحببتها، وبعضها التي شاخت قبل أوان الشيخوخة. صحراء الأسئلة يوسف الخاطر.. الآن في هذه اللحظة، لا تبدو الكلمات سوى عصافير بلا أجنحة، وأشجار باعت أوراقها للريح، وسماء تلحف أشياءها الصغيرة بشراشف قديمة قدم الزمان. الأرض وحدها ربما تكون قد أفرجت عن قريحة معتقة وباحت بالسر، بأن العظام الرميم، زخارف للأديم، ومحاكاة بالغة النبوغ، لكل ما قد يؤكد أنك يا سيدي، مثل حكاية قديمة، تتسرب على ألسنة المحبين، والعاشقون كثر، لكنهم لم يفيقوا بعد من سبات الراهن، الذي غطت ملاءاته القطنية، الوجوه ولم يعد بالإمكان، الإفصاح عن مكنون ما هو مخزون، بل إن القافلة التي قطعت شوطاً في صحراء الأسئلة لم تزل تزحف باتجاه الغموض، وتسترسل في السرد، بينما غافة الحيرة تطل على أعشاب القلب وتملأ الدرب، بعواقب وخيمة، ولكي نتذكر نحتاج إلى مشارط حادة، تفرك جفوننا، وتحك الذاكرة، لعل وعسى ينزاح شيء من الصدأ، ليظهر الصدى واضحاً دون أن يرتطم بجدران أصبحت أعلى من سور الصين العظيم، بل أضخم من خيال امرأة، تعيش أيامها تحت سطوة حلم حمل كاذب، فتغشيها غاشية ويطغى عليها طاغية، وتنتهي إلى لاشيء لأن حبلها السري نسيته في مكان ما، من الفطرة المغدورة. يوسف الخاطر.. أنا على يقين من أنك ما زلت تحلم بأن يكبر عبد الله، وتنمو شعيرات لحيته، ويفاجئك يوماً، بطلب ابنة الحلال، ليبتسم وتشيعه بنظرة عفوية مبللة بالحب وتقول حاضر يا بني، ثم يرتمي على رأسك، مقبلاً شاكراً.. أنا على يقين من أنك ما زلت، تلملم شتات مقالاتك المبعثرة، كما هي مشاعرك ليوم يأتي تضع ما سجله يراعك، في كتاب يحمل اسمك، ويحفظه عبدالله، ممتناً معتزاً، قائلاً: هذا أبي، كان الكاتب الصاخب يخبئ ضجيجه في أحشاء الكلمات، مستسلماً لابتسامة مبهمة، أشبه بفراشة تائهة في حقول زهيرات مضطربة. يوسف الخاطر.. كنت موجة توشوش عند سواحل الصمت، منسحباً في ذاتك مفتشاً عن آلهة اليقين، في دفاتر الوقت، متطلعاً إلى الغد بعينين مسبلتين، وقلب لا تحرقه أصابع الرياح، ولا تجرحه سنابل الاغتراب، لأنك في الحكمة مثل صوفي ينتظر الإلهام، عند دكة العزلة، تتجادل مع المشاهد من حولك، بروح لا تعرف النزع الأخير، رغم وهدة الألم، وصهد الإحساس بالذوبان في وعاء الذروة القصوى للمحنة، رغم أنك - سيدي - كنت على يقين من التلاشي ساعة أعلن الطبيب أنه لا جدوى من السفر لكنك كنت الأقوى من ضمير الطبيب، والأكثر جسارة من المرض، فحملت حقيبة السفر، وأمام نظرات صغيرك وحبيبك، أشحت متجاسراً، مثقلاً بالأمل ولا خوف عليك من الجب.. هكذا قال قلبك مناقضاً الوصفات السحرية، وكل ما قاله المشخص بعد حين من التداوي بالأمنيات العجفاء. كأنك النسر.. يوسف الخاطر.. الشجرة التي جفت أغصانها باكراً، فاستعصى على نبع القلب أن يسقي فراغاً، فتداعت أسئلة الحاضر توجساً، تداعت أضلاع القلم، عندما أشاع الوقت مغيب الشمس كسفاً، ما تزال، سيدي، في الحضور مشهداً متألقاً، متدفقاً، متناسقاً، واقفاً كأنك النسر على جسر الكلمات.. كأنك الخنصر شاهداً على ملحمة العمر القصير، كأنك سيدي تطل الآن من خلال زجاجة القبر في البقعة النائية عند خاصرة التضاريس، وتتلو وجعك وأبدية السفر، ونهاية ما أسفرت إلا عن غياب جسد خارج دائرة المعرفة البصرية، لأنك سيدي تتابع المشهد عبر شاشة فضية أو جريدة ورقية، أو صورة مثلى لواقع يتأزم من حولك، ولا ينعم إلا بهدير وزئير، يهتك قماشة الجسد البيضاء التي لم تزل، تحفظ رائحة الكافور وبقايا عطر، سمّوه المغسل ساعة تضميدك لأجل الرحلة الأبدية المبجلة. يوسف الخاطر.. ما الذاكرة سوى وعاء فيه نخبئ أشياءنا الصغيرة، ونحتفظ بمفردات الوجود لعل وعسى، نفتح أعيننا ذات يوم، ونرى الصورة كأنها هي.. هكذا أنت سيدي، بعد أن أغلقت باب المكتب في آخر وداع، كنت ترى الأشياء صفراء من شديد الحمى، كنت ترى الأصدقاء فراشات هاربة، من حركة سعفة متوترة، كنت ترى ظلك لا يتبعك، وقلبك يكاد يكون خارج القفص الصدري، الروح وحدها كانت ترفرف لجناح عصفور مذعور من هول كارثة. يوسف الخاطر.. صوتك الهامس أشبه بالنسيم، وعيناك تحدقان في الفراغ المدلهم، كان الزمن يفرط عقده من بين أصابعك، كان الحلم يتدحرج من عل، ويمضي في السحيق، مجروحاً، مطروحاً، كان الأمل في الآونة الأخيرة، من وقوف العربة عند المحطة المزدحمة، يتسلق عتباته بقسوة المعتل، كان كل شيء يبدو بلا جدوى، حتى أنت كنت بلا جدوى، عندما حاصرتك الأنياب الشرسة، قلت في حينها ما جدوى الحلم، طالما بقي أشبه بأرنب مهزوم، تلاحقه مثالب زمن، غابته ملأى بالمخالب. صورة غاربة يوسف الخاطر.. لست في هذا الوقت الذي تطارد فيه، صورة غاربة، سوى أنك في الخيال صورة أخرى غير التي كانت، لأنك في الحقيقة سيدي ما زلت تكتب عن حدث ما، في مكان ما، في زمن ما، وفي قلبك ممحاة، تحاول أن تمسح الدمعة من عين فقير مضطهد في أفريقيا، أو أميركا الجنوبية، أو حتى في سيبيريا.. لا أدري كيف كنت توفق بين السياسة والمرض، أم أن الاثنين سيان، فهما من صناعة بشرية بحتة، كنت أنت أحد الضحايا، حين دهمك المرض، وانتصر وصرت مهزوماً، مكلوماً، مكظوماً، مسقوماً، تتحدى نفسك بوهن القابض على جمرات العجز، فتنظر إلى الآخر، تريد أن ترى النور من خلال إشعاعات وجوه مبتسمة، لكنك سرعان ما كنت تنكفئ، وتستعيد مشاعرك المثخنة بجراح الإحساس بالفقدان، كنت تتفقد ذاتك، تخبئ عينيك في معطفك الصوفي، وتسرق الدمعة. يوسف الخاطر.. وحدك الآن تمارس لعبة الغياب، وقد كبر عبدالله وبلغ مبلغ العنفوان، صارت أحلامه أكبر من أحلامك، لكنها ربما لن تكون بتلك الصورة الواسعة، لأن جلبابها لم يزل في مساحة أقل ما يمكن أن يقال عنه، إلا أنه جزؤك الناقص بعضك الذي لم يكتمل كلك، الذي تنقصه فرحتك حين ينشأ الفتى ويلتفت يمنة ويسرة، يسأل أين أبي؟.. يوسف الخاطر.. كبر عبدالله، ومعه اتسعت حدقة الأسئلة، وقد يقرأ مقالاً لأبيه، عن حدث ما، عن موت شخص ما في بقعة بعيدة من بقاع الأرض، ويسأل: أهذا الذي كتب عن الموت، يغيب الآن ولا رجعة للغائبين؟ يوسف الخاطر.. كبر عبدالله، كما كبرت أمنياتك عندما حلمت ذات يوم بأن تصبح أباً، ويقال لك أبا فلان.. كبر عبدالله كما كبرت دائرة أحزانه عندما فتح عينيه، وتلفت يمنة ويسرة.. وليسأل.. أين النجم؟ وكيف انطفأ وميضه، وكيف ناخ بعيره، قبل أن يكمل السباق، وقبل أن نضع على شفرة قلمه زيت الزعفران؟!.. كبر عبدالله، ويسأل عن زجاجة عطرك المخبأة في غرفة نومك، عن معطف لم يزل يحتفظ برائحة الجسد الأبوي، عن مفاتيح لم تزل قابضة على بصمات أصابعك.. كبر عبدالله، وأشياء كثيرة كبرت لديه، أحلامه، أفكاره، آماله، ولم يعد صغيراً سوى قلبه الذي ما زال في حضرة طفولة، لم تكمل مراحلها، ولم تضع حداً لطفولة مشغولة بالحنان المفقود.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©