الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

للبحر سطوة الموج ونخوة الشراع

للبحر سطوة الموج ونخوة الشراع
6 ديسمبر 2012
في البحر در وسر وخبر، وبوح وفوح، وصدح وقدح، وشرح وشجن وفرح.. في البحر قول وقناديل، وموج ومواويل، وسرد وسرابيل، وجدل وطيور أبابيل، ونوارس، وحروب هابيل وقابيل، وحيتان تعجن الماء، وتطهو الموجة على ظهر الأقاويل.. في البحر أحلام، ترفل بسندسها وإستبرقها، وتفرش الزرابي، تحت أقدام المستلبين وجْداً وجِدا وتجددا، واستجداء، وتسرج خيول المحبة باتجاه كثبان الموج، وأعشاب القيعان الحبلى. في البحر، نشوة الصياد للصيد، وصبوة الخيط، للشفاة الرقيعة الدقيقة ورقصة القوارب، عند خاصرة البحر، ونافلة لموجة. في البحر، حكاية سرية أبيّة، وبعض مفردات نابية، وجملة شعرية، تخصب المشهد، وتعانق وجد الصيادين، وما جاش في خاطر العاشقين، حين همَّ البحر بتأزر رباط الجأش، وشد وثائق الجرأة الأولى. في البحر، رواية “بابا درياه” وخوف الإخفاق من فجيعة ووقيعة لاتردعها شجاعة الفرسان، ولا مناعة الشجعان، ولا قناعة ذوي النفرة والصولجان، ولا يفاعة الأشواق والأشجان. فكر الصياد في البحر، جبل متين يمر عبر سم الخياط، ويعبر في شطط واستنباط، يخالج فكر الصياد، يغرقه بالملوحة، يغدقه بالعزيمة الصريحة، يسرقه من نهلهِ وسهله، وجذله وجدله، يسرقه من توقه ونفقه، من شوقه وقلقه، يحركه كأنه الساحر المؤدلج بأيقونات الليالي المعتمة، كأنه الساخر من جود الوجود ومن قعود وشرود، وقدود ونهود وحدود، وندود وكنود، وعنود. في البحر شيء يبدد المحن، ويحدد معنى الآية والرواية، ويسقط الجاذبية من نظرية نيوتن، ويعلي شأن الارتفاع اللانهائي، ويغري ويثري، ويسري ويجري، ويملأ قاع الروح، بأشجان وألحان، وأفنان وألوان، وأكوان، وتطيح بثابت القهر لأجل متحول، الاقتحام والالتئام والانسجام، والاختتام، والاصطدام والإضرام، والإبهام والإدغام، والإقدام والإحجام. في البحر، أغنية قديمة، وبعض أناشيد عقيمة، وحناجر ما جف ريقها عن التصديح والتصريح، والتلميح، ومعاني التجريح، حين تخصب الأجساد باللوعة، وحين ينبري الشوق كائناً حياً، يطرح الأسئلة ويفتش عن لغة الالتحام وشهقة الرعشة الأخيرة. في البحر امرأة، تجدل الموجة عشقاً أبدياً، وتطهر أشواقها، بحنين وأنين، وتقلب مواجع الفراق، عند نافلة الليل البهيم، مستجدية الأقمار ألا تغيب، كما ترى وجه الغياب في عيون النجوم، وكما تجس نبض السواحل، وهي تلفظ محاراتها، مستفتية ضمير البحر. في البحر، تشرق الشمس غروباً، ليستدير القرص، أسوراً ومحوراً، وجوهراً، وقمراً وقدراً، وسحراً وسهراً، وشِعراً وشَعراً، وشعوراً يكمن في وجدان الفضاء، يشذب وريقات القلب وما ذبل في الليالي الماضية إثر التحرق، والتعرق، والتفرق، والتمزق، والتزلق على كثيبات الهوى والهواء. في البحر، أجساد لا تشبه رائحتها أبداً رائحة الأجداد، لا لون لها غير ألوان الحِداد، لا رائحة لها غير رائحة سمكة نافقة، عند طرف أزمنة بلا أحفاد. في البحر، أسئلة بحجم الموجة المستفحلة، وعلامات استفهام تكبر كلما جاد البحر بالدهشة المتفشية. في البحر أسماك وشباك وأشواك تفطر الدم آيات جليلات، ومسامات للأجساد تتنفس صعداً، وأنوف تضع الأخطام لجاماً ووساماً، وأصابع تحفر بطون المحارات، متسائلة عن منجم الحياة ومعجم النباهة. في البحر، يغسل الماء سوءات النهار، ويمحو سيئات الليل، وفي البحر قبضة الكفوف على الرمل، ورنة الدفوف في آذان صاغية، لاغية متناهية، متناغمة مع عزف الموجة، ورقصة الزعانف ساعة الظفر، وحين يلج الفرح الصدور، ويعج المرح في الثغور، وتنام على الشفاه نبرة الغزوات المباركة. في البحر، دمعة وشمعة، ولمعة، تبعث البصيص للزوايا والأمكنة المتوارية، لأجل أن تنهض ناعس، تسأل الله أن يعيد المغامر، إلى حيث المهد والعهد، والوعد والسعد، وإلى حيث يرف جفن المضغة، القلقة، والوريد المبدد في الثنايا والطوايا والسجايا. في البحر، يتدارى ويتوارى ويتمارى، ما خض خضيضه ورض رضيضه، وينجلى تصفيق الجناحين، ويتجلى رفيف خفيف عفيف شفيف، شغوف لهوف كلوف بما تفيض به الأعماق، لترقص الأشواق طرباً وحدباً. في البحر، تحبل الأشياء طواعية، متحدية قانون الفطرة الأبدي، ويمنح الله كائناته فسحة الاستيلاء، بلا قدرة ممكنة، ويغرد الماء مهاده الوثيرة، ليلج اللجوج في قعر، وينهي السفر وسيلة تثري الحصيلة، وتغني الأماني بأجمل التهاني، عندما يغرد الغواصون، مبتهلين مهللين، مبللين بالفرح، مهيضين ولا محبطين، مجللين ولا مثبطين، مدللين ولا مسغبين. في البحر، سر السماوات والأرض، وقدرة السواعد على فرد الأشرعة، وتلوين الماء بالأنفاس، وعبق الإحساس، بقيمة التكوين المستكين عند قاع ويراع وذراع. في البحر، ثوب المحار المتلحف بوجل وجلل، وجلجلة.. وفي البحر، صور الوجوه التي قبلت وبجلت قدرة الله في الصناعة والنصاعة، والصياغة والبلاغ، والبلوغ والنبوغ، والدهشة في إبداع مالا تبدعه يد سواه.. في البحر، الأنا المتأنية، المتفانية، المعتنية، وعِلة العلل، وأصل البلل، وبداية الرجم، وبداهة الحتم، ونداوة الختم، ووحدة الحزم، والحسم، واقتدار النجم على مداواة الوحشة بالألفة، وموافاة الدهشة، بخاتمة لا تقبل البلبلة ولا هزيع الزلزلة، ولا فزيع الجلجلة.. في البحر، الرقم الصعب، والنار والخطْب، والبارد المستتب، والمارد المقتضب، والمجرد الصاخب المقطب، المتمرد الحاطب السَّلِب، المتصهد الحالب المنسكب.. غواية ووشاية في البحر، راية وغواية ووشاية، وبداية ونهاية، وحكاية مجازية باهية زاهية، وربقة الألم المستحكم ورفقة النزف المتكلم، بنون النسوة وذال الذكورة، وعفوية الاقتباس، من وحي وحياة، وحي وانتباه، ونمارق تفرش أخضر معشوشباً عند قاع وأصقاع، في البحر متعة ومنعة، ومنافع للناس، يفرشون ويعرشون، وينسجون، ويسيجون، يسيرون ويسورون، يُغرقون ويغدقون، يحدقون ويحملقون، ويطوون السجل، حين ينفض السامر، ويستعيد المسافر وعيا باتجاه العودة الميمونة، بعد رحلة مجنونة مسكونة بالحلم وخير الكلم، وما فاض في الصدور من أمل مغموس بالألم. في البحر سهولة العبارة وجزالة التعبير، وبسالة التفسير، إذ تبذل الموجة جهداً جهيداً في تخصيب الماء ليصبح الزَّبد، زُبدة التلاقح، والتسامح، وتصير الملوحة عذوبة المسير في شوارع الموج، وما أبدته الريح من تباريح وتصاريح، وما أسدته السواعد من تقييم وتقويم، وتهويم، وتخييم، وتصميم أبدي قديم وأزلي مديم، قائم مستديم، متوار في قِدمه مع الأديم، هو الحابل النابل الجافل الغافل والآفل المستيقظ على لوعة وشهقة الفائض المستفيض من نزعة ودفقة الراهيب الرهيب، السائل والمجيب، الناهل المستريب، الكاحل العجيب، الشاهق المريب. في الحر خطوة للناس، خطوات للموج، وصرخة مدوية متهاوية، متساوية ونحيب البرق والرعد، المحاذية لحفيف الورق، وهفهفة الأغصان، ورجفة الأجفان، وزحف الطواغيت، وصمت التوابيت، ورعشة الأرض حين تقتلع من مقلتيها، أحجارها الكريمة، بفعل رجة لئيمة أثيمة زنيمة. في البحر، لا تتشابه الأشياء لكنها تتناسل، بإتقان وإمعان وامتنان، واستبيان الكائنات النبيلة.. في البحر لا تغرق الكائنات في الماء، بل تسبح رافلة بثوب الفرح، راحلة باتجاهات غياهبية، راجلة نحو المجهول بسطوة علتها وخنوع معلولها، بقوة دليلها، وقدرة مدلولها.. في البحر، فلسفة ومعرفة، وسحابات تغلف العيون الراجفة وكواعب أتراب، يخضن في الخراب واليباب، في الذهاب والإياب، وبلا تضمين أو اقتضاب، أو تخمين أو اغتراب.. في البحر، رهط ولغط وشطط، وحطط، لكن الحب وحده الناجز الناجع، الراكز القامع، الهامز الشافع، الرامز الرائع، المهيمن المزمن، المستبد الأبدي، الذي يحيا ولا يموت، يحرق ولا يحترق، يسقي ولا يظمأ، يروي ولا يعطش، يملأ الأوعية ولا يخوي، يطارد الطيور الهاربة ولا يكل، يلاحق الموجة الشاردة ولا يمل، يتابع الخطوات بهمّة وعزيمة، يقول للباحثين عن أمل، أنا وجد “الحب” صنو هذا البحر، أنا وحدي فلذته ونافذته وذهبه وفضته، وجوهره الأول وعلته الأولى.. الحب وحده الذي يمزج العذوبة بالملوحة، والليونة بالجسارة، القوة بالضعف، الخوف بالجرأة، الجبن بالشجاعة، الحب وحده الذي يدع السباحة في عيني البحر، كالتحليق في الفضاء أو تسلق الجبال. في البحر، تقطن رابعة العدوية وتقول بشفافية، من كثر حبي لله لم يدع مكاناً في قلبي لكره الشيطان.. ومن البحر نفَّذ ابن رشد مؤامرته على العالم حين قال: إن الناس صنفان.. العالم والواهم، ثم شرع في شرح فلسفة المعلم الأول، حتى قيل عنه إنه أعظم شارح ومعد.. ونقول شكراً لدانتي شاعر إيطاليا العظيم على إطرائه وثنائه، وشكراً للبحر الذي علَّم ابن رشد السباحة في عيني أرسطو، شكراً للبحر الذي قرّب الشرق من الغرب، ووضع أسطورة الإغريق بين يدي عليم كريم فهيم.. في البحر نفهم رقصة الزعانف كما نتعلم فلسفة أثينا وما جاورها من بلاد، علّمت وتعلّمت وتكلّمت بحرف الضاد العظيم، واستنارت وأنارت بمصابيح الذين مدوا للبحر أجنحة لينثروا على سواحله الملاحم النجيبة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©