الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

كرنفالات الذاكرة..

كرنفالات الذاكرة..
6 ديسمبر 2012
تطل امرأة من “دريشة” / نافذة باب عتيق.. تحمّل نظرتها عتباً وحيرة وربما تتدحرج دمعتان على وجنتيها.. في أعلى البيت يتلو البرجيل ذكريات قديمة عن الهواء الذي كان.. عن عاصفة مرّت ذات شتاء قديم وتركت شيئاً منها على خشب “الدعون” المتهالك.. على الباب نقوش وزخارف تستعيد الطفولة الهاربة.. فيما النخلة الوفية لا تزال تمارس انحناءها على البيت في حنان عجيب. تتناثر حبات من الضوء على جانبي المصباح / “الفنر” ، لترسم دوائر من المصابيح الكهربائية التي تعلن عن الزواج الذي تم عن طيب خاطر بين الاثنين، بين “الفنر” التراثي الذي كان يضيء ليالي الإماراتيين في الماضي والمصباح الكهربائي الذي يضيء لياليهم في الراهن.. بين الضوءين - إن جازت العبارة - يتعثر كلام كثير.. كلام ينتهي من حيث يبدأ. هذا بعض ما جسدته لوحات الفنان الإماراتي عبد الرؤوف خلفان الذي يقام حالياً في فندق لوريال ميرديان بأبوظبي ظبي تحت عنوان “نظرة حديثة على تراث الإمارات”. ولد الفنان عبد الرؤوف خلفان في دبي، وصافحت عيناه، حسب قوله، مظاهر التراث في كل ما حوله. واعتاد في كل أسبوع أن يقوم بزيارة الأماكن التراثية مثل بيت الشيخ سعيد آل مكتوم، ومنازل السكة في بر دبي. هناك كان يشعر بعبق التراث ويجد راحة كبيرة في أحضانه، فضلاً عن المتاحف التي كان يجد في أفيائها ما يأنس إليه من معارف تتعلق بتاريخ الإمارات وحضارتها القديمة.. لكن شغفه الحقيقي تجسد في برج الرياح وطيوره البيضاء التي لا تكاد لوحة من لوحاته تخلو منها، سواء رسمها في حالتها الواقعية أو قام بتشخيصها في نقاط صغيرة تحلق في السماء. يقول: “عندما كنت أرى الطائر الأبيض يطير فوق البرج ويلاعب الرياح بجناحيه كانت تغمرني سعادة لا توصف. قررت أن أخلد هذه اللحظات الرائعة. اشتريت كاميرا وبدأت أصور كل حركاته وسكناته. حصلت على صور جميلة جداً رغم أنني لم أكن محترفاً. كنت أسعى لتأبيد هذا الجمال والحفاظ على المشهد من المحو، ولم أجد سوى الرسم أحقق به غايتي وأجسد معالم التراث وأذكر الناس بالماضي الجميل”. هكذا بدأت حكاية الفنان مع اللوحة ومع التراث، لكن الأمر لم يقف عند هذا الحد.. ومع تنامي الوعي الفني تغيرت النظرة إلى التراث وإلى الطريقة التي ينبغي أن يحضر من خلالها في العمل الفني، صارت الغاية تعريف الآخر/ الغربي بهذا التراث الذي يجسد الهوية والذاتية الثقافية. حفاوة لونية في تجربته الحالية، يقدم الفنان عبد الرؤوف خلفان تجربة فنية تستلهم التراث.. وعلى مساحة اللوحات العشرين تقع عين المشاهد على ثيمات ومفردات تراثية مثل: النخلة، البيت التقليدي، (الطوي) البئر، الجرة، الدلة، الفنر (السراج)، الظبي، الحصان، وكلها موتيفات تزين اللوحات التي تضج بألوان الملابس التقليدية في الإمارات، وهي عادة ألوان فاتحة، حارة، صريحة، ما يجعل اللوحة أشبه باحتفالية لونية.. ويجعل المعرض كرنفالاً لونياً يضج بالحيوية وبالحياة. تتميز أعمال عبد الرؤوف خلفان بثراء لوني يجتذب العين بمجرد وقوعها على اللوحة، فألوانه حارة، فصيحة، ضاجة، وزعها بصراحة ووضوح على فراغ اللوحة. وربما خلق بينها انسجاماً أو تضاداً لكي يلفت الانتباه إلى جمال التناقض أو ربما هي انعكاس للألوان التي تميز الثوب النسائي في الإمارات، والذي يكون غالباً في ألوان فاقعة، طاغية، ونادراً ما يكون حيادياً. من هنا، تعكس تجربته جرأة كبيرة في التعامل مع اللون، وعائلته اللونية كثيرة ومتشعبة: الأحمر، الأصفر، الأزرق، الأخضر، البنفسجي الغامق، الأبيض، البرتقالي، الكحلي، الأسود، الرمادي (وهذين الأخيرين يحضران بشكل أقل وربما في عملين فقط). ولأن الضوء هو مصدر الألوان، فإن لوحات المعرض بدت في ظل الإضاءة الفندقية أكثر جمالاً وشفافية، وقد ساهمت ضربات الريشة الواضحة، المحددة، التي تميز بين تكوينات العمل بخطوط حادة، طويلة، في إبراز نوع من قوة الحضور التراثي، الذي يحيل في الخلفية إلى تجذره ورغبة الفنان في لفت الأنظار إليه، لا سيما أنظار زوار الدولة من الأجانب على حد قوله.. ولعله نجح في ذلك، فقد شاهدت الكثيرين يتوقفون أمام الأعمال بمجرد أن تطأ أقدامهم أرض الفندق، متأملين، متسائلين وهم يهزون رؤوسهم بإعجاب. يؤكد عبد الرؤوف خلفان أنه يتعاطى مع اللون وفق حاجته إليه في العمل الفني. مشيراً إلى أن كل هذا الفرح والألوان الزاهية تعبير عما تنبض به قلوب الإماراتيين من حب للحياة ورغبة في الاحتفاء بها عبر أزيائهم، وأفراحهم ورقصاتهم الشعبية وغير ذلك من ملامح التراث. مركزية أنثوية تحتل المرأة بؤرة اللوحة، وتمارس حضوراً طاغياً في ما يشبه المركزية الأنثوية على بقية تكوينات العمل الفني. وفي كل حالاتها تظهر وثيقة الصلة بالتراث خاصة الزي التقليدي الذي يوظف الفنان نقوشه ورسومه ووحداته الزخرفية في أعماله كلها.. كأنها حارسة التراث أو سيدته المتوجة التي تعلي من شأنه وتسهر على ديمومته وبقائه. وهي ترفل في بذخ الألوان وتمارس فتنتها الباهرة، بشعرها الأصفر أو الأسود المنسدل على ظهرها في تناغم بارز مع ألوان ثوبها، فيما هي تشير إلى الحمامة التي تحمل رسالتها وتحادث القمر الفضي، تبدو المرأة مثل حلم أو أمنية تداعب الخيال.. وهي تظهر في زيها التقليدي ذي النقوش والزخارف لا سيما في أسلوب الفنان المتأثر بالفن التكعيبي تنتج المرأة / اللوحة خطاباً متعدد المستويات، عميق الدلالات عن الدور المميز الذي تحتله في الذاكرة. وتتقاطع الخطوط في أعمال الفنان عند سيرة المكان/ البيت الذي يبدو في العمل الفني مكان المرأة الأبدي.. وترتسم هذه الثنائية (المرأة - البيت) في جميع اللوحات. والملاحظ أن هذا الاقتران يومئ إلى الدور المهم الذي يعنيه حضور المرأة في المنزل.. ففي الوقت الذي احتفى فيه الفنان بالبيت التقليدي وجسد جمالياته المعمارية وزخارفه التي تعلو الأبواب ونقوشه التي تزين النوافذ احتفى بالوقت نفسه بالمرأة التي ظهرت ترفل في ثوب جميل مزين بالنقوش والزخارف يبرق فيها اللون ويعلن الفرح الأنثوي. في إشارة ربما إلى أن حضور المرأة هو الذي يمنح البيت معناه وحيويته وجماله، بدليل أن البيت التي لم تظهر فيه المرأة (في لوحة واحدة) ظهر أقل حظاً من الزينة والنقوش والزخارف والجماليات. ويعضد ذلك وجود الورود إلى جانب المرأة بشكل متكرر مما أكسب اللوحة بعداً شاعرياً ورومانسياً من جهة، وأغنى حضور المرأة الجمالي والحياتي من جهة ثانية. فنيات تبتعد الأعمال التي أنتجها الفنان عن التسجيلية أو التوثيق الذي يستنسخ التراث كما هو، وتذهب في قراءة مختلفة لمدلولاته. كما أنها لا تلتزم بحرفية الحضور الواقعي لمفردات التراث. فالبرقع، على سبيل المثال، ظهر على شكل ضربة فرشاة لونية تغطي جانباً واحداً من وجه المرأة، في إشارة إلى التحول الذي طال المجتمع بشكل عام والمرأة بشكل خاص. ولم يظهر البرقع في شكله التقليدي إلا في لوحة واحدة لامرأة أكبر سناً، ثم في لوحة أخرى لوجه يغرق في أمواج الألوان الحمراء والخضراء، ربما كناية عن التخلص نهائياً من غطاء الرأس. ويحتل التكوين المساحة الأبرز في لوحات الفنان الذي يوظف الخطوط والفراغات ليخلق أشكالاً وتراكيب رمزية في الغالب محققاً نوعاً من المعمارية التي تستوعب بؤرة اللوحة، لكن بعض هذه التكوينات يطغى على المفردات الأخرى متمدداً على مساحة أكبر، في إشارة إلى أهميته ومركزيته بالنسبة للفكرة التي يعبر الفنان عنها. كما تحمل اللوحــات رموزاً عديدة لعل أهمهـا الحمامة التي لم يقتصــر حضــورها في اللوحـة على كونها “رمز الســـلام” بل تعداه إلى كونها رمزا اتصاليا يحمل على جناحيه الأخبار والرسائل، فضلاً عن كونها رمزاً للحرية.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©