السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

التاريخ بنكهة السًّرد

التاريخ بنكهة السًّرد
31 ديسمبر 2015 00:39
نبيل خلدون قريسة كانت تلك معرفة عن بعد، ثم شاءت الأقدار أن أعرفه عن قرب، عندما كنت بصدد متابعة محاضراته في سياق التحضير لاجتياز مناظرة التبريز في التاريخ بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بتونس. وقد كان هناك بيننا تواصل فكري حميميّ بقي متخفّيا وراء ما أتّسم به بطبعي من الحياء واحترام الكينونة المستقلة للآخرين، لكنه انكشف دون سابق إذن منّي أو منه، عندما أبلغني أنه اكتشف حصولي على أفضل عدد في الامتحان الذي أجري عن المسألة التي درّسنا إيّاها في تلك السنة الجامعية (1986-1987)، وقد تحوّلت نفس المحاضرات إلى كتاب كان من أكثر كتبه شهرة وضبطاً علميّاً: الفتنة. قال لي آنذاك: «هو أنت إذن!»، وقد تكون قولته تلك المدخل الضروري الذي يسّر قبوله اقتراحي سنة 1991 أن يشرف على إعدادي لرسالة دكتوراه الدولة في التاريخ والآثار وعلم الإناسة التاريخي حول: «المجتمع والثقافة في شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام وفي بدايته». وقضّينا معاً سنوات ممتعة من المناقشات كلّما انتقلتُ إلى بيته بسيدي أبي سعيد (آنذاك) كي أعرض عليه آخر ما توصّلت إليه في بحثي. غير أنّ الظروف شاءت أن يتخلّى فجأة عن الإشراف على عملي الذي واصلت إعداده بنفس روح المثابرة والشغف العلمي طيلة ستة عشر عاماً. وبقيت أجدّد اللقاء به كلّما سنحت الفرصة، وكان يسألني مرّة بعد مرّة، جادّاً أحيانا ومازحاً أخرى: «إلى أين وصلتَ في عملك؟...هل بلغت به الألفيْ صفحة مثل عمل«برُودِيل»؟...ماذا كتبتَ لنا عن الطوطمية العربية؟». وكنت بطبيعة الحال متابعاً وفيّاً لجميع أعماله بما فيها حتى الصحفيّة. سياق عام يمكن اعتبار مجموع أعمال الأستاذ جعَيْط، مثلما كتبتُ ذلك قبل سنوات عن أعمال ابن خلدون، عملاً موحّداً لا يمكن فصله عن بعضه البعض، بحيث يدور نسقه العام حول إشكالية أساسية تتعلق بالهوية التاريخية للأمة العربية الإسلامية. وبالفعل، نجده يستهل ثلاثيّته في السيرة بالإحالة على كتابه «الشخصية العربية الإسلامية والمصير العربي» (في السيرة النبوية، ج1، الهامش 1). لكن في هذه المقالة المقتضبة أطرح مسألة دقيقة تتعلق بأسلوب الأستاذ جعَيْط في كتابته للسيرة النبوية، ولن أتعرّض إلى المسائل المعرفية والمنهجية المعقّدة أو إلى النتائج العلمية الكثيرة التي توصّل إليها، على الرغم من أهميتها البالغة وما تفتحه من آفاق واعدة للبحث والتحقيق والنقاش. ما معنى أسلوب؟ في التعريف الذي يطرحه «معجم النقد الأدبي» (بالفرنسية) (طبعة دار سيريس، تونس، 1998، مادة «بلاغة»، ص 260) نجد ما يلي: «تفترض نجاعة الخطاب أن يكون مناسباً للموضوع وللجمهور... ينبغي أن توافق كلَّ جنس من الخطاب لغةٌ وأسلوبٌ محدّد». ويبدو لي مبدئياً أنّ هذا المعيار كان بالفعل هاجس الأستاذ جعَيْط في جميع كتاباته، وخاصة في ثلاثيته الأخيرة: فقد سعى إلى نحت أسلوب مميّز في الكتابة يتسم بالنجاعة، على أساس استهداف أوسع جمهور ممكن بلغة مبسّطة، وفي نفس الوقت دقيقة، ودون التنازل عن الضوابط المعرفية وخاصة المنهجية التي تتطلبها الكتابة الرفيعة في المواضيع الجوهرية. غير أنّنا، معشر المؤرّخين، لا نكاد نتحدّث أصلاً عن الأسلوب، على عكس اهتمام زملائنا اللغويين والباحثين في الآداب، بمثل هذا الموضوع، بل تجدنا نركّز نقاشنا على مسألة المنهج وعلى مبحث المنهجيّة وفق المقاربات المتعارف عليها في العلوم الإنسانية عموماً. لكنّ ذلك ليس بعيداً عن مسألة الأسلوب وعن مبحث الأسلوبية، بل نلحظ في الحقيقة تقاطعات كبرى بين المسألتين والمبحثين. العربية والفرنسية عادة ما يبادر جعَيْط بكتابة أعماله باللغة الفرنسية، وعلى الرغم من حرصه على الكتابة بالعربية فقد يكتفي بالمساعدة على ترجمة أعماله إليها، عدا عملين اثنين فيما أعلم، وهما تأسيس الغرب الإسلامي (جزئيّاً) وثلاثيته في السيرة اللذين كتبهما مباشرة بالعربية. ونلاحظ أنّ بعض هذه الأعمال كُتب كلّياً أو جزئيّاً بالفرنسية بصورة مستقلة ومباشرة، كما أنّ الجزء الثالث من عمله في السيرة صدر أوّلاً بالفرنسية على عكس الجزءين السابقين. لذلك، فالحديث عن أسلوب جعَيْط اللغوي والاصطلاحي يجرّنا إلى الانتباه إلى الفروق والتوافقات الأسلوبيّة – وليس المنهجية في هذه الحالة تحديداً – بين ما يكتبه بالفرنسية وما يكتبه بالعربية، وهو ما لاحظته شخصيّاً في خصوص استعمال بعض التعابير وتراكيب الجمل. فعلى سبيل المثال: نجده يخيّر استعمال مصطلح «العلمانيّة» في النص العربي (مثلا: في السيرة، ج2، ص 7، وج 3، ص 10) مقابل مصطلح «اللائكية» في النص الفرنسي (ج3، ص 16)، ربما لكونه يعتبر الغربيين أكثر فهما للفرق بين المصطلحين، في حين لا يكاد القارئ العربي يفهم معنى «اللائكيّة». كما أنّه يعرّب مصطلحات أخرى دون ترجمتها مثل: «أركتيبا» (ج1، ص 17)و«كاريزما» (ج3، ص 11) و«ميت» (ج2، ص 117) و«النيوليتية» (ج2، ص 8) و«الثيوقراطية» (ج3، ص 12) وغيرها، اعتباراً لفقدان مرجعيّتها المعرفيّة في الفكر العربي. ويناقش مدى مطابقة ترجمات مكرّسة لمصطلحات دقيقة في الثقافة الغربية مثل مقابلة «مقدّس» لمصطلح (sacré) أو «وحي» لمصطلح (révélation) أو «نبيّ» مقابل (prophète) الخ... مع العلم أنه لا يكاد يستعمل مصطلح «رسول» (يناقشه بصورة عرضيّة في الجزء 1، ص 77-78 وفي الهامشين 55-56)، بل يكتفي في مجمل عمله بالحديث عن النبوة وعن «النبيّ» محمد «صلى الله عليه وسلم». أفقٌ مغايِرْ والذي نراه، في هذا المستوى، أنّ ما أقدم عليه جعَيْط في عمله هذا في السيرة النبوية كان تأسيسيّاً رغم وجود محاولات أخرى لا تنكر، وبالرغم أيضاً ممّا يمكن أن يُناقش فيه، وهو هدفه النهائي على كلّ حال: أن يفتح أفقاً معرفيّاً مغايراً. ذلك أنّه كثيراً ما يصرّح بأنّ القارئ العربي لا يكاد يفقه ما يُكتب له في المسائل الفلسفية والتاريخية أو في العلوم الإنسانية عموماً، نظراً إلى فقر خلفيّته المعرفية، على عكس القارئ الأجنبي. وهذا صحيح بصفة عامة، وإنّي أعتقد أنه يعود أساساً إلى ضعف الإنتاج العلمي الجادّ باللغة العربية في مختلف المجالات العلمية بما فيها العلوم الإنسانية. وفي هذا يقول جعَيْط: «ولقد تردّدت كثيراً بين الكتابة بالعربية أو بالفرنسية. فالعربية فقيرة جداً في كل ما هو مصطلحات في الفلسفة والعلوم الإنسانية التي انتشرت في الغرب لكثرة استعمالها وكثرة استيعابها، فدخلت في الحياة الفكرية العامة، ولذا تجد دائماً صدى في نفس القارئ حتى من المثقف المتوسط. والخطاب يكون عادة موجهاً إلى من له ثقافة مسبقة في حقل العلوم الإنسانية، وإلاّ بات مبهماً أو وسم بأنه أجنبي، وكان ذلك وصمة عار» (في السيرة، ج1، ص 7-8). من منظور عام، تتميز الثلاثية التي كتبها الأستاذ جعَيْط في السيرة النبوية بكونها جاءت ثمرة عمل متدرج ومتناسق على امتداد أربعين سنة – قضّى منها عشرين سنة في كتابة ثلاثيّته هذه كما يقول في مقدمة الجزء الثالث (في السيرة، ج1، ص 6)- انتقل فيها بصورة معكوسة تأريخيّاً (أي زمانيّاً) من الفترة الحديثة والمعاصرة إلى الكلاسيكية، ثم إلى الفترة المبكّرة من التاريخ الحضاري العربي الإسلامي عبر تقنية استرجاعيّة، مثل عمليّة إخراج شريط حكائي درامي ينطلق من خاتمة الأحداث، ليكشف تدريجيّاً للمتفرج عن البدايات، ويسلّمه بذلك مفاتيح الفهم النهائي. وهذا هو نفس الأسلوب أو المنهج الذي يعتمده عالم الآثار حين ينطلق من الطبقة الأحدث، ليحفر تدريجيّاً في الطبقات الأسبق، ويخرج بذلك كنوزها إلى النور ومعها مفاتيح فهم اللحظة الموالية. كما أنّه أيضاً منهج عالم التحليل النفسي الذي ينبش في الطبقات المتراكمة للذاكرة الواعية، وخاصة اللاّواعية، حتى يصل إلى أصول المشكل أو جذوره ومفاتيح حلّه. لكن ينبغي ألاّ يغيب عنّا أمر أساسي في رأيي، وهو أنّ الأستاذ جعَيْط فيلسوف في مجال التاريخ، فهو متأثر بأعمال فلاسفة التاريخ والمؤرخين الفلاسفة المتفتحين على الاختصاصات المتعدّدة من ابن خلدون إلى «هيجل» و«ماكس فيبر» و«مارك بلوك» و«فرناند بروديل» الخ.. ورغم أنه يقول في مقدمة الجزء الأول: «فهذا الكتاب وما سيتبعه كتاب علمي وليس بالدراسة الفلسفية..» (في السيرة، ج1، ص 8)، فإنّه يستطرد قائلًا: «وقد حاولت في الماضي أن أفكر فلسفياً في الوحي..» (نفس الصفحة). غير أنّ هذا التوجّه الفلسفي ليس من الماضي فحسب، إذ نجد جعَيْط يقول في بداية نفس المقدمة: «...اعتمادي المقتصر على القرآن كمصدر كما على التاريخ المقارن للأديان، والانفتاح على أفق الثقافة التاريخية والأنثروبولوجية والفلسفية» (ص 7)، بل ويعلن توجّهه الفلسفي الظاهراتي بصراحة: «سيتّجه مجهودنا إلى مقاربة تاريخية معتمدة على النصوص وعلى المقارنة، وإلى مقاربة ظواهرية» (ص 18). لذلك يعتمد «هوسرل» فيلسوف ظاهراتيّة التاريخ. والمنهج الظاهراتي يروم دراسة الظواهر من داخلها، وفي إطار العمل التاريخي، يبحث عن الروابط الداخلية والحميمية بين الظواهر (تعارف بين الذوات المستقلة) وفي نفس الوقت عن أسس منطقية أو تبريرات تخص كل ظاهرة على حدة. ومثل هذا التوجه النظري قد يستفزّ الذين تعوّدوا على مركزيّة الذات بالمطلق والإقصاء المنظومي للآخر المختلف. كما ينبغي أن نذكّر بأنّ جعَيْط قارئ جيّد لمجمل الإنتاج الغربي في مختلف مجالات العلوم الإنسانية، بما فيه طبعاً علم النفس والهرمانوطيقا أو التأويلية، خاصة منها الفلسفيّة. لذلك تجده يستشهد ب «فرويد» و«ميشال فوكو» على سبيل المثال. وهو بالخصوص متطلّع إلى إنجاز عمل نقدي في الإسلام شبيه بذلك الذي أنجزه «فلهاوزن» وكبار النقاد الألمان، وغيرهم من علماء علم اللغات المقارن («الفيلولوجيا») وعلم الأديان المقارن على النصوص المقدسة في اليهودية والمسيحية، وغيرهما من الأديان عدا الإسلام الذي بقي فيه مثل ذلك العمل خاضعاً للريبة الشديدة، سواء حاول مسلم القيام به أو تجرّأ مستشرق على تفجير الألغام في ساحته. وقد أفرد في الجزء الثاني من كتابه في السيرة فصلاً خاصاً وسمه بعنوان معبّر جداً: «تحليل تاريخي للقرآن المكّي». كما ذكر بوضوح أنّه يروم إكمال ما نقص في عمل الباحث السويدي «تور أندري» (في السيرة، ج2، ص 165-166). خطاب للمستشرقين ويبدو لي أنّ جعَيْط يوجّه خطابه في معظم الأحيان إلى المستشرقين مباشرة فيجادلهم ويصحّح أخطاءهم (مثل البريطاني «مونتجومري وات»)أو يجرّحهم (مثل الدنماركية -الأمريكية «باتريسيا كرون» التي أفرد لعملها عن «التجارة المكّية» هامشاً نقديّاً مطوّلًا ولاذعاً في كتابه (في السيرة، ج 2، ص 334-336)، أويوافقهم أحياناً أخرى (مثل الفرنسية «جاكلين شابي»)، وهو يلومهم بالخصوص على عدم جرأتهم في نقد المصادر الإسلامية دون نفيها بالجملة كما يفعل بعضهم، ويلومهم أيضاً على عدم جرأتهم في الربط بين الظاهرة الإسلامية والظاهرة الدينية في العالم، وخاصة منها المسيحية. فتأثير المسيحية لديه بدهي من المنظور التاريخي التطوري (البيولوجي لا الميكانيكي). ولئن كان جعَيْط ينقد المصادر الإسلامية بأسلوب ذكيّ وعميق، فإنّه لا يفصّلها في الهوامش. وقد يعود اختياره عدم تفصيلها إلى ضخامة الملفات التي بحث فيها في عمله هذا وتشعّبها اللامتناهي، إضافة إلى استهدافه الجمهور الواسع من القرّاء، مع الملاحظ أنه انتقل من عرض الإحالات البيبليوغرافية في آخر الكتاب في الجزءين الأوّلين إلى وضعها في أسفل الصفحات في الجزء الثالث من ثلاثيّته في السيرة النبوية، وأعتقد أنّ هذا الاختيار هو الأفضل كي يتسنّى للقارئ المختصّ تحديداً متابعته والتحاور مع أطروحاته. كما نجد نفس هذا التمشّي المُجمِل في تعامله مع المراجع أيضاً، حيث لم يتعرّض إلاّ لما رآه الأهمّ، ولم يوسّع بذلك دائرة الإشارة أو الاعتماد على الكثير ممّا كنّا نودّ أن يشير إليه أو يعتمده في مواضيع عديدة، وخاصّة منها الدراسات العربية التي كاد يهملها تماماً عدا ذكر بعضها النادر مثل: عمل صالح أحمد العلي عن «دولة الرسول في المدينة». لكن، بصفة عامة، يتميز جعَيْط بسعة اطلاع واسعة جداً، وبقدرة نادرة الوجود على استيعاب مختلف الأعمال في مجالات علمية متنوعة ممّا يدل على تفتحه الفكري والمعرفي واللغوي المثالي وسعيه الصادق نحو تطوير جذريّ لعمل المؤرخ العربي والمسلم، فهو بذلك يدعم الرافد التونسي المساهم في تأسيس مدرسة تاريخية عربية معاصرة نجد بين أبرز الأسماء التي تمثلها في روافد المشرق بشكل خاص مؤرّخو العراق الكبار أمثال: صالح أحمد العلي وعبد العزيز الدوري وجواد علي، وإن كان جعَيْط لا يكاد يعير هذا الأخير نفس الاهتمام رغم أنّني سمعته يصرّح بتقديره الكبير لعمله غير المكتمل عن السيرة النبوية. أسلوب الخطاب في خصوص الأسلوب الخطابي، نلاحظ بيسر أنّ لجعَيْط أسلوباً غير معقّد أي أنه لا يرغب في تعجيز القارئ العادي أمام صرامة المنهج التاريخي الأكاديمي ودقة اللغة الاصطلاحية التي يلتزم بها كبار المتخصصين في العلوم الإنسانية عموماً. بل يسعى أن يكون أسلوبه جذّاباً، ممتعاً، مستفزّاً، قريباً من الروائية، مبدعاً بذلك جملاً تقع تراكيبها في الوسط بين النسق التقريري والأفق الإيحائي. وكثيراً ما تستبطن تراكيب جمله تركيب الجملة الفرنسية، فهو لا يهتم كثيراً بقواعد الكتابة «المعيارية» في التقليد العربي بل يشغله أساساً إبلاغ الفكرة الجديدة والطرح الإشكالي المحيّر. كذلك ينحت جعَيْط تعابير خاصة به مثل قوله: «قبل كلّ حساب» (مثلا: في السيرة، ج2، ص 7). وهو كثيراً ما يعبّر عن وثوقه بما يقدمه للقارئ في مثل قوله: «من دون شك كانت خزاعة مسيطرة على المكان، كما سيطرت على مقر العزى في نخلة، ومن دون شك كانت هي القبيلة الدينية..» (ج2، ص 120). ولعلّ الوثوق والقطعيّة في استعماله: «إنّ..» و «لا شكّ..» (مثلا ص 145) يعطي القارئ طمأنينة معرفية لكنّ جعَيْط كثيراً ما يعدّل مواقفه الصارمة باعتماد الخطاب الذاتي:«رأيي أنّ..» (ص 144)، والتنسيب: «.. من الممكن»، وكذلك بطرح التساؤلات الكثيرة، وخاصة بالعودة المستمرة إلى المصادر: «كلّ مصادرنا تتّفق على أنّ..» (ص 144). هذا مع الملاحظ أنّ تعبير «بلا شكّ» في الفرنسية يضمر في حقيقته وجود بعض الشكّ (على عكس التعبير: «من دون أيّ شك» الذي نجده مثلاً في الجزء2، ص 117)، وهو ما قد لا ينتبه إليه القارئ العربي. ويقول في مقدمة الجزء الأوّل من عمله في السيرة النبوية: «ولقد أكّدت كثيراً في هذا المشروع على الدقة وجزالة الخطاب، وابتعدت عن الأسلوب الوهّاج المشوب دوماً بالضبابية. وحده القرآن جمع بين دقة التعبير والكلمة المثيرة والعمق الكوسمي والوضوح الكامل البيّن. وهذا من أهمّ خصائصه» (ج1، ص 7). ولعلّ الأسلوب القرآني الذي أشاد به هنا كان ملهمه في نحت أسلوبه الخاص. وجعَيْط، بالتأكيد، عاشق للحكايات الكبرى، تستهويه الروح الأسطورية أو الملحمية، لذلك تراه يركّز على وحدات حكائية نجدها تتكرر على امتداد عمله. ويستعرض المحاور الرئيسية لهذه الوحدات منذ البداية بقوله: «..لذا اتجهت أكثر فأكثر إلى تصوّر أغراض معينة لا بدّ من التعمّق فيها: الوحي والنبوة، معاني القرآن، تاريخيّة النبوّة والنبيّ..» (في السيرة، ج 1، ص 7). كما أنّه يميل بحكائيّته المغرية للقارئ إلى الدوران به عبر مسارات متشعّبة حتى ينتهي به إلى تجلية المعاني الرئيسية تدريجياً، دون أن يرهقه في التفكير المعمّق لربط الوحدات ببعضها والبحث عن مفاتيح الحكاية (مثلاً في طرحه لمسألة الوثنية العربية وتأثير الدين المسيحي في الجزءين الأول والثاني أو في بيانه المتدرج في الجزء الثالث لطبيعة الصراع بين المسلمين في المدينة وما حولها ومختلف المجموعات المعادية لهم: قريش والقبائل اليهودية والمنافقون والأعراب). لكنّ التوجّه الحكائي لديه لا يعني السرديّة الخطيّة التي ينبذها. وهو ينأى بنفسه عن اجترار الروايات التقليدية التي تحفل بها كتب السير والمغازي والتاريخ الإخباري. إنّما الذي يسعى إليه هو استخراج لبّها واستصفاء شهدها وتنقية شوائبها ثم تقديمها في سياق إشكالي عقلاني مجدّد. ومن منطلق شغفه بالنفَس الملحمي في كتابة التاريخ، يبدو الأستاذ جعَيْط، حتى عند تحليله السوسيولوجي للجماعات المختلفة، ميّالًا إلى إسناد دور مميّز للأفراد وللنخبة، وخاصة ما يسمّيه بالأرستقراطية (ج 3، ص 100)- أو «النبلاء» في الطبعة الفرنسية (ج3، ص 192) مقابل «الأشراف» في الطبعة العربية (ج3، ص 132)- التي يراها عند البدو أكثر حتى من السكان الحضر (ص 116)، وهو يتعاطف معها ومع الأقليّات اليهودية بالأساس في مقابل نقده ممارسات يعتبرها سلبية من قبل الجماعة المسلمة في الفترة المدنيّة (انظر خاصة الجزء الثالث من عمله في السيرة، البابان الثاني والثالث). يبقى السؤال البديهي التالي: إلى أيّ مدى التزم جعَيْط عبر أسلوبه المبتكر والمميّز بهذا التوجّه المنهجي والمبدئي العلمي الموضوعي والمحايد والبعيد عن الأحكام الأخلاقية أو الذاتيَّة؟ يبدو لي شخصياً أنّه كان صادقاً في توجّهه العقلاني المتّزن على امتداد كامل عمله، وإن كانت جرأته تصدم التقليد السائد والفكر المحنّط. يبقى أن الرجل ألقى بحجرٍ في مياه التراث الراكدة، دون تردّد أو وجل في زمن الرداءة الفكرية والشعوذة الدينية. وما على المنتقدين له بحدّة ودون تمييز إلاّ أن يقدّموا البديل في نفس المستوى من الجرأة النقدية والموضوعيّة العلمية. حذَرْ إذا كان التاريخ كأحد العلوم الإنسانية لا يتسم بالمصداقية الكافية كعلوم الطبيعة، أو الدقة والصرامة كالرياضيات، وإذا صح أنه لا ينفلت من التأويلات، فإن المؤرخ الصميم لا بد له من أن يلتزم بما لديه من مصادر وأن يتسم بالحذر في تأويلاته. بل إن همَّه كما قلنا هو التفهم وإخراج واقع الماضي من سديم النصوص، أي إكسابه نظاماً وهيكلة من دون إخضاعه لأية نظرة مسبقة. في السيرة النبوية 2 ، ص 8 موقف علميّ يجب على القارئ أن يقتنع بأنّ هدفنا ليس المسّ بالمقدّسات الإسلامية ولا بالذات النبوية، وليس إقامة أحكام تقريظيّة ولا سلبيّة بالمثل. فالعلم يحاول أن يفسّر الأمور لا أن يحكم عليها. وكم جُرحنا من بعض كتابات المستشرقين الذين سمحوا لأنفسهم أن يسلّطوا آراءهم على شخص محمد من وجهة أخلاقية أو دينية. جعَيْط: في السيرة، ج2، ص 6 مسافة .. لعلم التاريخ ذاته تاريخاً، فقد تأسست في ألمانيا وفرنسا في القرن التاسع عشر مناهجه المعروفة في التعامل مع المصادر، وازداد ثراء في القرن العشرين، حتى وصل إلى نوع من النضج بتكافل المعارف التي تصب فيه، من اقتصاد وأنثروبولوجيا وسوسيولوجيا. وإذ يحاول المؤرخ اتخاذ المسافة اللازمة مع واقعه هو، والتزام الحياد والموضوعية بكل صرامة، فإن هذا العلم يبقى في لبّه معرفة حول الإنسان والمجتمع تمسّ في بعض الأحيان رهانات حيوية أو تخضع، من جهة أخرى، إلى روح الزمنية التي تنتجها، وإلى الصورة الذاتية لمجتمع ما. وبصفته علماً، فالتاريخ يتجه الى المختصين في ميدان معين قبل كل حساب. لكن مع هذا إذا اتسع أفقه، فهو يمس من ينتمي الى الحضارة المدروسة أو المجتمع المدروس بصفة قد تكون وجودية فتجلب إليه اهتماماً خاصاً. في السيرة النبوية2، ص 7
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©