الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

التاريخ الإسلامي.. نظرة كونيّة

التاريخ الإسلامي.. نظرة كونيّة
31 ديسمبر 2015 00:39
العادل خضر إذا نظرنا إلى تجربة الوحي من منظور «المصير العربي» ومن زاوية التّاريخ الكونيّ تصبح لحظةً فارقة في تاريخ الثّقافة الإسلاميّة لا يمكن فهم عبارات من قبيل «عنصر الثّقافة العليا المبدعة» خارج مرجعيّتها الشبنغلرية اليقظة عند جعيط لا تعني الانتقال من حال السّبات العميق إلى حال الإفاقة بل استعارة للّحظة المؤسّسة للوعي «الفكرة الوحدويّة العروبيّة» و«الطّوباويّة الإسلاميّة» و«المشروع الحضاري العربيّ» عند جعيّط وهمٌ وكلام فضفاض لحظة الإسلام الرّاهنة مأزومة بامتياز لأنّها تشهد في الآن نفسه تزامن نهاية حضارة الإسلام القديمة وبدايات الانخراط في الحداثة الثّالثة الثّقافة الإسلاميّة العليا ماتت حوالي العام 1500م ليس بسبب الغرب ولكن بمفعول انحطاط الطّموح الدّاخليّ الذي يجب البحث عن مصدره «وحنين الرّوح الأبديّ كان متّجها دوماً صوب الفضاء» ماكس بانس، Max Bense في الأطروحة التّاسعة من المقالة الشّهيرة «أطروحات في مفهوم التّاريخ» يتحدّث ولتر بنيامين عن «ملاك التّاريخ» وهو يتأمّل في لوحة لبول كليPaul Klee، كان قد رسمها في ميونيخ سنة 1920. يقول: «تجد لوحة لكليKlee تُسمّى«الملاك الجديد »Angelus Novus. وهي تمثّل ملاكا كأنّه يتأهّب ليبتعد عن شيء يشدّ نظره. لقد كانت عيناه جاحظتين، وفاه فاغرا، وهو باسط جناحيه. وبهذه [الصّورة] ينبغي أن يكون ملاك التّاريخ شبيها. لقد كان وجهه مُيمِّما شَطْرَ الماضي. هنالك، حيثما تتراءى لنا سلسلة من الأحداث، لا يرى هو سوى كارثة واحدة فريدة، مافتئت تكدّس الخراب على الخراب، وتلقيه أمام قدميه. وهو يريد أن يتريّث ويوقظ الموتى ويجمع ما تمزّق. بيد أنّه قد هبّت من الجنّة عاصفة نفخت في جناحيه، فلم يعد من فرط هيجانها قادرا على طيّهما. هذه العاصفة كانت تدفعه دفعا لا يقاوم إلى المستقبل الّذي أشاح عنه بظهره، بينما كانت كومة الخراب ترتفع حتّى السماء. هذه العاصفة هي ما نسمّيه نحن التقدم». ويورد هشام جعيّط في فصل «التّجلّي وانطلاق الوحي» من كتابه (الوحي والقرآن والنّبوّة، في السّيرة النّبوية1، دار الطليعة، بيروت، الطّبعة الأولى، 1999، ص.ص47-57.) ستّ أطروحات في خصوص «ملاك الوحي» لم يذكر فيها كلمة «ملاك» ولو لمرّة واحدة، إنّما اقتصر على ذكر وظيفته. فالملاك، كما جاء في كتب اللّغة، هو «الألوكة» أي الرّسالة، ويعني أيضا الرّسول، أو حامل الرّسائل. من هذه الأطروحات نقتطف ما له صلة مباشرة بالملاك، أو بوظيفته. يقول: «ورجوعا إلى التّجلّي الأوّل والثّاني، فيمكن بعد كلّ هذا التّحليل أن نثبت بكامل القناعة عدّة أمور: رأى محمّد جِبْرَ – إيل، أي قوّة الله بالعبريّة، ولذا نعت ب«ذي قوّة»و«شديد القوى»ككيان يُدركه الحسّ معلّقا في الهواء أي كشخص هوائي، ورآه ثانية بـ«البصر». والأمر واضح فهي ليست رؤيا في المنام بل رؤية بعين الرّأس. ..... فالرّؤية تلعب الدّور الرّئيس في اللّقاء مع الماورائي وأكثر بكثير من السّمع الخارجيّ وتلقّي الصّوت الدّاخلي. فالمشاهدة هنا مشاهدة حسّيّة واقعيّة لكيان متموضع في المكان والزّمان.». الاتجاه إلى الماضي لا شيء يجمع بين المفكّرين ولتر بنيامين وهشام جعيّط، فكلاهما ينتمي إلى جغرافيّة وتاريخ مختلفين كلّ الاختلاف. الأوّل منهما فيلسوف يهوديّ ألمانيّ أوروبيّ كتب مقالته الأخيرة «أطروحات في مفهوم التّاريخ» في بدايات الحرب العالميّة الثّانية سنة 1940. أمّا ثانيهما فهو مؤرّخ تونسيّ عربيّ مسلم، كتب عن الوحي والسّيرة النّبويّة وهو في عزّ العطاء العلميّ، في ظرف سياسيّ متأجّج ينبئ بتحوّلات عميقة في العالم العربي، بدأت قبيل سقوط بغداد (2003) واكتملت بهبوب رياح ما يسمى بـ «الرّبيع العربي» (2011). والحقيقة أنّ وجوه الاختلاف والتّباين بين المفكّرين أكثر من أن تحصى، فلا جدوى من المقارنة بينهما، إلاّ أنّ ما كان يقرّب بين نصّيهما، هو أنّ كليهما كان يكتب بلغة تبحث عن ملاكها: «ملاك التّاريخ» و«ملاك الوحي». فبنيامين كان يبحث عن «ملاك التّاريخ» في لوحة بول كلي «الملاك الجديد» ليستنطق من صمته الغريب الباعث على القلق تصوّرا جديدا للتّاريخ يواجه به كارثة «التّقدّم» الّتي ترجمتها الحرب العالميّة الثّانية وظهور الأنظمة الفاشية في أوروبا أفظع ترجمة. أمّا جعيّط فكان يبحث عن «ملاك الوحي» في تجربة النّبوّة المحمّديّة كما تمثّلت في القرآن، بوصفها تجربة تمثّل اللّحظة التّأسيسيّة الأولى الّتي مكّنت العرب شعوبا وقبائل من ولوج التّاريخ، وتحوّلهم من «أمّة الثّقافة» إلى «أمّة الدّولة» بفضل الإسلام. ويتّضح من هذا كلّه أنّ الملاكين على اختلاف حامليهما الفنّيّ (لوحة بول كلي)، والدّينيّ (آيات القرآن) قد كانا متّجهين إلى الماضي لغايات مختلفة بسبب موقفهما المختلف من «التّقدّم». فملاك التّاريخ عند ولتر بنيامين كان يحاول باتّجاهه إلى الماضي مواجهة كارثة التّقدّم الّتي بشّرت بها فلسفة الأنوار، وكان بنيامين بالذّات ضحيّتها لمّا أقدم على الانتحار في بورتبو Port-Bou وهي قرية إسبانية صغيرة على الحدود الفرنسيّة. أمّا ملاك الوحي فهو تجربة من تجارب «التّجلّي» قد جرى تأويلها من منظورات مختلفة كمنظور التّحليل النّفسي، وعلم نفس الأعماق، وعلم الأديان المقارن، وتاريخ الأشكال، والميديولوجيا. وهي على اختلافها تتّفق على أنّ ملاك الوحي يندرج في «تجربة خاصّة» «من سماتها الأساسيّة أنّها تجري بين اثنين فقط، أحدهما يُرى والآخر لا يُرى، ولكنّه يتجلّى. فالآخر اللاّمرئي لا يتجلّى بذاته وعلى نحو مباشر في التّجارب الخاصّة، إنّما في صورة أو حدث يمثّله»، (العادل خضر، في الصّورة الوجه والكلمة، مقالات ميديولوجيّة، ص71). بيد أنّه إن نظرنا إلى هذه التّجربة من منظور «المصير العربي»، ومن زاوية التّاريخ الكونيّ، أضحت تجربة النّبيّ محمّد (عليه السلام) الخاصّة، لمّا تجلّى له ملاك الوحي، لحظةً فارقة في تاريخ الثّقافة الإسلاميّة، لأنّها تمثّل لحظة ولادتها ويقظةَ روحها وانفصالها «عن طفولة إنسانيتها الأبديّة»، وانبثاقَ شكلها المخصوص. وتفرض علينا زاوية النّظر هذه أن نؤوّل تلك الّلحظة تأويلا مورفولوجيّا يزجّ بها في تاريخ الثّقافات الكونيّ الّذي كان الفيلسوف الألماني أوزفالد شبنغلر ممثّله الأكبر. مثل هذا التّأويل له في رأينا ما يبرّره. فعندما يستعمل جعيّط عبارات من قبيل «عنصر الثّقافة العليا المبدعة»، فإنّه لا يمكن فهم معناها الحقيقيّ خارج مرجعيّتها الشبنغلريّة. وهي مرجعيّة مورفولوجيّة جرى فيها تصوّر الثّقافة كنبتة. فحين يقول شبنغلر: «هذه الثّقافة قد نمت على أرض ستظلّ مرتبطة بها كنبتة. هذه الثّقافة تموت لمّا تحقّق الرّوح كلّيا كامل إمكاناتها، على شاكلة شعوب، ولغات، ومذاهب دينيّة، وفنون ودول وعلوم، فتعود بذلك إلى حالها النّفسيّ الأوّل.»، فإنّ هذه الاستعارة النّباتيّة تجعل للثّقافة حياة تضاهي حياة النّبتة. فهي مثلها تولد وتحيا وتموت. علما بأنّ جذر الاستعارات النّباتيّ مطّرد بكثرة عند شبنغلر في كتابه الشّهير «انحطاط الحضارة الغربيّة»، وبواسطتها أمكن له أن يدمج في صلب المخطّط التّقليديّ ذاك التّعارض بين الثّقافة والحضارة، ويؤوّله تأويلا زمانيّا، فتغدو الحضارة حينئذ هي الثّقافة في لحظة انحطاطها، والثّقافة هي الحضارة في لحظة بزوغها. وعموما فإنّ شبنغلر يستعمل هذه الاستعارات لوصف الطّابع الفريد الّذي يسم على نحو لا يُحاكى الثّقافات العليا الثّمانية الّتي عرفتها الإنسانيّة. فهذه الثّقافات، المصريّة والبابليّة والهنديّة والصّينيّة والأبولونيّة والعربيّة والمكسيكيّة والغربيّة (أو الفاوستيّة)، هي عند شبنغلر عبارة عن أجهزة حيّة لا علاقات بينها ولا صلات. فلكلّ جهاز حيّ عناصر تُبنى في شكلٍ فريدٍ يمنح لثقافة مّا شكلها الخاصّ. ويقتضي هذا التّصوّر المورفولوجيّ أن لا توجد علاقات، وإنّما «الانقطاع وعدم الاتّصال بين مختلف الثّقافات» (جعيّط، أوروبا والإسلام، ص63). وحتّى إن كان بعضها متزامنا فهي لا تخضع لتطوّر متواز. فالمبدأ المتحكّم هو الانفصال الجذريّ بين الثّقافات. وهذا الانفصال هو ما يبرز خاصَّ الخاصِّ من كلّ ثقافة، كشكلها وأهوائها حياتها ومماتها، والأرض الّتي نشأت فيها، وترعرعت بحيث لا يمكنها الخلاص منها أو الفكاك. فشبنغلر يفنّد فكرة وجود علاقة بين هذه الثّقافات، ويقصي كلّ تأثير ممكن لثقافة في ثقافة أخرى، طالما أنّ كلّ ثقافة تحمل في ذاتها تكوينها الخاصّ، ومورفولوجيتها على نحو لا يقبل النّقل والوراثة بأيّ حال من الأحوال. إذا وضعنا في الحسبان كلّ هذه الاعتبارات أضحت الأحكام الّتي نصدرها اليوم على ثقافات الأمس، فنجرّدها من كلّ وجاهة وفضل، أحكاما من ثمار الثّقافة، أو بالأحرى أحكام الحضارة الّتي نعيش فيها، أو الثّقافة وهي في طور انحطاطها. يجرّنا هذا إلى أن ننظر إلى مفهوم «الانحطاط» من منظور غير سلبيّ، لأنّ «الانحطاط» عند شبنغلر عنوان اكتمال حين تبلغ الثّقافة طور اكتمالها وتمامها. وبذلك لا يمكن لأيّ ثقافة أن تتخلّص من هذا التّطوّر الضّروريّ، لأنّه مصيرها، بل قدرها. اليقظة ليست إفاقة إذا اعتبرنا الحاضر هو الموقع الّذي يتكلّم منه كلّ مؤرّخ ويزاول عمله التّاريخيّ فإنّ الحاضر يمثّل عند جعيّط لحظة «يقظة». وليس المقصود من اليقظة ذاك الانتقال من حال السّبات العميق إلى حال الإفاقة، بل ذاك التّحوّل النّوعيّ في الوعي. فاليقظة هي استعارة للّحظة المؤسّسة للوعي، وهي لحظة ذات طابع تطهيريّ تزول فيها كلّ الغشاوات بعنف وتتطاير الأوهام، كـ«الفكرة الوحدويّة العروبيّة»، و«الطّوباويّة الإسلاميّة»، و«المشروع الحضاري العربيّ»... فكلّ هذا عند جعيّط «وهم وكلام فضفاض»، (أزمة الثّقافة الإسلاميّة، ص198). هذه اليقظة تبدأ من حاضر المؤرّخ بوصفه مكان الحقيقة ذاتها. وهي كذلك يقظة قد اتّخذت من التّقدّم أفقا للتّفكير في المصير العربي الإسلاميّ الّذي مثّلت لحظة الوحي في الإسلام المبكّر بدايته الكبرى، و«انحطاط الطّموح الدّاخليّ» للثّقافة الإسلاميّة أزمته، وبوادر نهايته. وليس التّقدّم عند جعيّط بكارثة على غرار تصوّر بنيامين له، ولا هو باللّحظة المأزومة، لأنّ تقدّم الغرب وتأخّر العرب لا يفسّره على النّحو الشّائع، وإنّما يعالجه بمنطق مورفولوجيّ متحكّم في التّاريخ الكوني للثّقافات. وعلى هذا الأساس كان لأزمة الثّقافة الإسلاميّة وجهان: يتعلّق أوّلهما بنهاية الحضارات وانحطاطها. فالإسلام بوصفه ثقافة من الثّقافات العليا، قد أضحى بعد ازدهاره حضارةً، شأنه في ذلك شأن الحضارات الأخرى الّتي «شهدت من الدّاخل اهتراء لقوى الخلق والإبداع والتّغيير وحتّى التّنظيم [...] فما زلنا نشهد منذ أكثر من قرن آثاره: احتضار الحضارات القديمة مع الإبقاء على الأساسيّ منها من خلال عملية تغيير عميقة.»، (أزمة الثّقافة الإسلاميّة، ص34). أمّا الثّاني فيتعلّق بالحداثة. فالإنسانيّة في هذا التّصوّر قد عرفت ثلاث حداثات كبرى «الأولى حداثة الإنسان العارف العارف [...] منذ خمسين ألف سنة، والثّانية حداثة الفترة النيوليتيّة منذ عشرة آلاف سنة حيث ابتدع هذا الإنسان الزّراعة والقرية والدّين البدائي والاستقرار [...] أمّا الحداثة الثّالثة فقد تفجّرت في أوروبا الغربيّة مطلع القرن السّابع عشر بشتّى الإبداعات المادّيّة والرّمزيّة»، (أزمة الثّقافة الإسلاميّة، ص193). ومعنى ذلك أنّ لحظة الإسلام الرّاهنة مأزومة بامتياز لأنّها تشهد في الآن نفسه تزامن نهاية حضارة الإسلام القديمة، وبدايات الانخراط في الحداثة الثّالثة. وهي حداثة لا تخصّ أوروبا وحدها، إنّما هي حركة كونيّة شبيهة بالثّورة الصّناعيّة والتّكنولوجيا والعلم الطّبيعيّ «سيستوعبها يوما المسلمون ولو بتأخّر عن الصّين واليابان وكوريا، كما حصل الأمر في الماضي فصار قانونا تاريخيّا.». ومن النّتائج الممكنة المترتّبة على نسق الحداثة الحتميّ، بوصفها قانونا تاريخيّا سيشمل كلّ المجتمعات، هو «القطع مع كلّ دين وليس استبدال أو تعويض دين بآخر. والمفترض أنّ هذا الاتّجاه سينتشر ويطال الإسلام والهندوسيّة ولو بعد زمن طويل»، (أزمة الثّقافة الإسلاميّة، ص194). إنّ تفسير التّاريخ بالقانون، يجعل الكتابة التّاريخيّة بالضّرورة منخرطة في التّاريخ الكونيّ طالما أنّ ما يميّز القانون هو طابعه الكونيّ، كقوانين الطّبيعة الحتميّة الكونيّة. هذا الضّرب من التّفسير يحملنا على أن نتساءل: ما هو أسلوب جعيّط في كتابة التّاريخ؟ ما هو موضوع التّاريخ الّذي كتبه؟ يمكن أن نجيب بشيء من التّعميم: سواء أكتب جعيّط عن «الكوفة» أو «الفتنة» أو «السّيرة النّبويّة» أو عن «تاريخ المغرب العربي»، فإنّه في كلّ الأحوال كان يكتب عن الثّقافة الإسلاميّة بأساليب مختلفة. تارة من منظور الطّوبغرافيا التّاريخيّة (الكوفة)، وتارة من منظور جدلي بين الديني والسياسي (الفتنة)، وطورا آخر من منظور تاريخ الأديان (السيرة). بيد أنّ الكتابة عن الثّقافة الإسلاميّة بمعناها الخاصّ، ومقارنتها بثقافات أخرى كأوروبا أو الصّين واليابان، وبيان ما بينها من علاقات مأزومة قائمة على الصّدام والاختلاف، لا يجعل من جعيّط مجرّد مؤرّخ محترف، وإنّما يزجّ به في اختصاص يتعلّق بتاريخٍ كونيٍّ للحضارات والثّقافات برع في كتابته بعض الفلاسفة، لأنّه قريب من فلسفة التّاريخ. ينبغي أن نذكّر في هذا المقام بأنّ بدايات كتابة تاريخ الحضارات الكوني قد كانت مع هيغل في «دروس في فلسفة التّاريخ، ثمّ أينع مع أوزوالد شبنغلر بكتابه الشّهير«تدهور الحضارة الغربيّة»، ثمّ انقطع التّأليف فيه لفترة، قبل أن ينبعث من جديد مع ثلّة من الفلاسفة الألمان كتبوا في تاريخ الحضارات من منظورات شديدة التّباين، نذكر منهم على الأقلّ فرانز بوركنو Franz Borkenau (1900-1957) في كتابه»النّهاية والبداية، في أجيال الحضارات الضّاربة في القدم، وأصول الغرب«حيث نظر إلى أفول الحضارات وبزوغها من زاوية علاقتها بالموت. انحطاط الطموح الداخلي ضمن هذا الاختصاص الّذي ينقلب فيه المؤرّخ المحترف إلى مؤرّخ كبير macro-historien، كِبَرَ المجال الّذي يتحرّك فيه، أي تاريخ الحضارات والثّقافات الكونيّ، ننزّل معظم أعمال هشام جعيّط. وإن كان كتاباه«أوروبا والإسلام»و«أزمة الثّقافة الإسلاميّة»يمثّلان أنموذجين منخرطين في مجال الكتابة التّاريخيّة الكونيّة الّتي تتّخذ من الثّقافات والحضارات موضوعها، فإنّ كتابه البكر«الشّخصيّة العربيّة الإسلاميّة والمصير العربيّ»لا يبتعد كثيرا عن هذا المجال، لأنّ مفهوم المصير devenirلا يطابق هاهنا مفهوم القدر destin، وإنّما التّغيّر الحتميّ الّذي يصيب الأفراد والجماعات والمجتمعات بوصفها عناصر مكوّنة للثّقافة. ولمّا كانت الثّقافة شبيهة بالكائن الحيّ صارت بحكم المشابهة تولد وقت بزوغها، وتزدهر في شبابها، وتنحطّ في شيخوختها وتندثر. فالمصير العربي لا يمكن أن يفهم إلاّ داخل الصّيرورة الدّاخليّة للثّقافة العربيّة الإسلاميّة. ولعلّ ما يميّز هذا الضّرب من الكتابة التّاريخيّة عن الكتابات التّاريخيّة الأخرى أنّها ليست كتابة لتاريخ حوليّ، أو تاريخ حوادث ووقائع يحتلّ فيه الحدث وتأريخ الحدث، مركز الاهتمام الأوّل، وهو ما يفرض على المؤرّخ أن يكتشف في سلاسل الوقائع والأحداث مقبوليتها السّرديّة لتفسير معقوليتها التّاريخيّة. هذه الأهميّة البالغة الّتي يوليها المؤرّخ للحدث مفقودة عند فيلسوف التّاريخ لأنّ الوحدة الدّنيا في كتابة التّاريخ الكونيّ على نحو مورفولوجيّ هي«الثّقافة»لا «الحدث». وبهذا المعنى يمكن أن نعتبر جعيّط مؤرّخ ثقافات على منوال شبنغلر، جاعلا من الثّقافة العربيّة الإسلاميّة مجال بحثه الأثير واختصاصه الأكبر. في هذا المقام يمكننا أن نتساءل: هل كان جعيّط متأثّرا بمنهج شبنغلر المورفولوجيّ في كتابة التّاريخ الكونيّ؟ هل طال هذا التّأثير مفهوم الثّقافة المحوريّ في كتابات جعيّط المختلفة؟ إنّ ما يبرّر طرح هذا السّؤال هو أنّ جعيّط قد تحدّث في كتابه «أوروبا والإسلام» عن شبنغلر مباشرة إثر حديثه عن هيغل، حديثا ينمّ عن معرفة عميقة بهذا الفيلسوف تجلّت بوضوح في اعتماده مفهوم «الانحطاط» طريقةً في التّفكير في بعض الظّواهر الخاصّة بالثّقافة العربيّة الإسلاميّة. ذلك أنّ شبنغلر كان يعتبر أنّ تشخيص ظواهر زمن مّا من الأزمنة يقتضي من المؤرّخ أن يكون منظّرا للانحطاط. ويبدو أنّ كتاب «أزمة الثّقافة الإسلاميّة» قد كان تطبيقا جيّدا لهذه القاعدة. فهو رصد عميق لمظاهر الانحطاط في العالم العربي والإسلاميّ. وهو يرى أنّ أسبابه الأولى بعيدة ضاربة في الماضي. فهي تكمن عنده في قرون من التّأخّر طال العالم الإسلاميّ كلّه منذ عام 1700م، ولم يكن من الممكن أن تجري الأمور على غير ما جرت عليه إلى حدود 1920م حيث برزت نهضة في مجالات عديدة«(أزمة الثّقافة الإسلاميّة، ص16). وإذا كانت«الضّربات المغوليّة والتّيموريّة ثمّ الاحتلال العثمانيّ» قد أحدث في الثّقافة العربيّة الإسلاميّة انهيارا ثمّ سباتا عميقا استمرّ أربعة قرون كانت فيه بلدان الرّقعة العربيّة (الشّامّ والعراق ومصر وبلاد المغرب) جاهلة تماما بما كان يجري في العالم من تحوّلات في القرون السّادس عشر، والسّابع عشر، والثّامن عشر، والتّاسع عشر، حتّى باغتها الاستعمار. فنحن كعرب خرجنا شيئا فشيئا ومنذ قرن أو ما يزيد من هوّة سحيقة، ومن الصّعب أن نطالب أنفسنا بالكثير والعظيم (أزمة الثّقافة الإسلاميّة، ص7). ولا يفسّر جعيّط هذه الكارثة بالعوامل السّياسيّة فحسب، ك غياب الدّولة وتنامي الخصوصيات المحلّيّة، وإنّما بعامل الانحطاط التّاريخيّ. فإذا صحّ ما يقوله ابن خلدون من أنّ الانحطاط إذا حلّ بقوم «فإنّه لا يرتفع»، وهذه قاعدة تاريخيّة لا جدال فيها، فإنّ الحضارات تتغيّر لتبقى إلى حدّ مّا«(أزمة الثّقافة الإسلاميّة، ص7). ينضاف إلى هذا العامل التّاريخي عامل آخر متّصل ب«عنصر الثّقافة العليا المبدعة». فبعد جهود أجيال وأجيال من الإبداع والعطاء داخل منظومة العلوم الإسلاميّة، كعلوم القرآن والحديث والفقه وأصول الفقه، والكلام والفلسفة الإسلاميّة، والتّصوّف دامت إلى حدود القرن الخامس عشر ميلادي، انقطع هذا العطاء ولم يبق منه سوى خيط ضعيف إلى حدود القرن العشرين في الأزهر والزّيتونة والقرويّين وفي إسطنبول، وكادت العلاقة تموت مع أمّهات الكتب القديمة من الوجهة المعرفيّة، أو هي ماتت فعلا . وفي نهاية هذا التّشخيص يصل جعيّط إلى النّتيجة التّالية: ويمكن بالتّالي أن نعتبر الثّقافة الإسلاميّة العليا قد ماتت عام 1500م في رافديها الدّيني والدّنيوي (لغة، نحو، فلسفة، تاريخ، علم مادّي...) ولم يكن هذا من تلقاء الغرب، ولكن بمفعول انحطاط الطّموح الدّاخليّ لهذه الثّقافة الّذي يجب البحث عن مصدره، ولم يحصل هذا بعد«(أزمة الثّقافة الإسلاميّة، ص17). بعد صياغة مظاهر هذه الكارثة الّتي يطلق عليها جعيّط اسم «الانحطاط» أو «انحطاط الطّموح الدّاخليّ لهذه الثّقافة»، نراه يعاجل قارئه بهذا الحلّ:«لا يمكن أبدا للعرب والمسلمين أن يلجوا باب الحداثة والمشاركة في العالم المعاصر، إلاّ إذا كوّنوا لأنفسهم طموحا عاليا في مجالات الفكر والمعرفة والعلم والفنّ والأدب، وقرّروا بصفة جدّيّة الأخذ عن الغير، وما أبدعته الحداثة في كلّ هذه الميادين.(أزمة الثّقافة الإسلاميّة، ص17). ليس هذا الحلّ طوباويّا وإنّما هو متناغم مع التّصّوّر المورفولوجي للتّاريخ الكونيّ. ولمّا كانت الثّقافات فيه مستقلّ بعضها عن بعض لا تأثّر بينها ولا تأثير، فإنّ ولوج العرب والمسلمين ليس خيارا يملكونه وإنّما هو أمر حتميّ وإن تأخّر وقوعه. وبهذا المثال وغيره من الأمثلة يتجلّى بوضوح أسلوب جعيّط المورفولوجيّ في دراساته المختلفة للثّقافة العربيّة الإسلاميّة. وهي دراسات بدا لنا فيها تأثّره بأسلوب شبنغلر في تفسير التّاريخ واضحا، ولكنّه مازال يحتاج إلى تحاليل دقيقة لإثباته. هذا فضلا عن تأثّره الكبير بالفلسفة الظّواهريّة، وبالتّصوّر التّطوّريّ للتّاريخ. وفي النّهاية يمكن أن نقول: إنّ هذا الأسلوب الطّريف، والجديد، في كتابات جعيّط لم يسلّط عليه الضّوء البتّة، على حدّ علمنا، لأنّ أسلوب الكتابة التّاريخيّة المورفولوجيّ لم يمارسه بوعي متفاوت به إلاّ قلّة من المفكّرين العرب والمسلمين على غرار عبد الله العروي. ما هو الغرب الإسلامي؟ بالنسبة للمؤرخين الأوائل، الغرب الإسلامي يبتدئ من مصر ويحويها، وهو يناقض مفهوم الشرق الذي يبتدئ من خراسان، ويتجه صور بلاد ما وراء النهر الشاسة الى تخوم الصين. أما القلب، فمن الواضح أنه كان يضم الجزيرة العربية والشام والعراق، حيث انطلقت الدعوة وتركزت الخلافة الأولى والثانية والثالثة. وهكذا أقحمتُ مصر في دراستي للمصادر المكتوبة، كما أقحمتُ افريقيا الإسلامية جنوب الصحراء التي تأسلمت قبل العصر الحديث، كما هو معروف. إن كل هذا الفضاء الشاسع الأفريقي يمثل إذاً الغرب الإسلامي، وإن إسبانيا في الواقع الجغرافي والمناخي ليست إلا جزءاً من افريقيا. هشام جعَيْط كتاب: تأسيس الغرب الإسلامي، ص 8 أسلوب غير مدروس إنّ هذا الأسلوب الطّريف، والجديد، في كتابات جعيّط لم يسلّط عليه الضّوء البتّة، على حدّ علمنا، لأنّ أسلوب الكتابة التّاريخيّة المورفولوجيّ لم يمارسه بوعي متفاوت به إلاّ قلّة من المفكّرين العرب والمسلمين على غرار عبد الله العروي. أزمة إن غياب الانتاج الثقافي واضح جلي في بلداننا بالعالم الثالث، أي في ثلاثة أرباع البشرية، وذلك منذ أن تفككت الرقاع الحضارية الكبرى بمفعول صدام الحداثة والاختراق الغربي، أي منذ قرون تقريباً. والثقافة المقصودة هنا هي الثقافة الفكرية والروحية والعلمية والفنية، إذ إن الثقافة الشعبية ما زالت حية الى حد ما، وبالتالي يمكن القول إن الثقافة الإسلامية تمر بأزمة خطرة تجلت في تراجع الفكر العربي، وتقدم ركب الثقافة الحديثة العربية الأصل والشكل، والتي أصبحت قادرة على احتضان البشرية كافة. هشام جعَيْط كتاب: أزمة الثقافة الإسلامية، ص 5
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©