السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

أتناول وجبتي الشعريّة من حساء القمر السومريّْ

أتناول وجبتي الشعريّة من حساء القمر السومريّْ
24 مارس 2016 13:17
على امتداد أكثر من 4 عقود، ظل شوقي عبد الأمير يبحث عن ذاته في الحرف والسفر والمنفى الاختياري. رجل مسكون برائحة المدن البعيدة، وموزع بين العواصم كنص منثور في الفضاءات المختلفة، وها هو اليوم يجمع أوراقه ومسوداته المتعددة لتصدر في أعمال كاملة تترجم مسيرة طويلة مع الحرف، بدأها باكراً، ولعله جمعها باكراً، فالرجل لا يزال يعيش في اللغة وحولها، ولا يجد كبير عناء في تطويعها كما يريد. ولد العام 1949 في الناصرية - العراق. حاصل على الماجستير في الأدب المقارن من السوربون 1974. عمل مدرساً في الجزائر 1970، ثم سكرتير تحرير لمجلة «العالم العربي في الصحافة الفرنسية» 1975، وعمل مستشاراً صحفياً في سفارة اليمن الديمقراطية «اليمن الجنوبي سابقاً» في باريس 1976، ويعمل منذ 1991 مديراً للمركز الثقافي اليمني في باريس. وله: حديث لمغني الجزيرة العربية 1976، أجنة وسراويل صحراوية 1978، حدود 1980 - أبابيل 1985، حديث النهر 1986، حديث القرمطي 1987، حجر ما بعد الطوفان 1990، كتاب الرقائم السبع 1992، وله ديوان مترجم بعنوان: سنبلة الحقول الوثنية 1990، يوميات شعر في المنفى، والأعمال الكاملة في مجلدين 2016. في هذا الحوار نسافر مع شوقي في مدى أكثر اتساعاً وفي أفق أعلى من الجدران والحدود التي تكبل عالمنا العربي. حوار - ساسي جبيل * قال بعضهم لو أن دجلة كف عن تدفقه، لما عرف الشاعر العراقي شوقي عبد الأمير... ما علاقتك بدجلة وتدفقه وهل تكتب الماء فعلاً؟ ** علاقتي برافدي العراق يمتزج فيها اليومي بالأسطوري والرمزي بالتاريخي ولهذا، فهي شعرية بامتياز.. ومن هنا، فأنا ابن الفرات الذي ولد في الناصرية جنوب العراق، وهي المدينة النائمة على الفرات، لكني انتقلت مع عائلتي إلى بغداد على دجلة وأنا ابن عشر سنين قبل أن أترك العراق، وعمري عشرون عاماً، وهكذا اقتسم الرافدان حياتي في العراق بالتساوي... من هنا يعود الفرات، كما دجلة في شعري باستمرار. التلة القمرية * مسيرة حرف امتدت لعقود، هل ما زال للشعر سطوة وحضور في هذا العالم المتغير والدموي حد الثمالة؟ ** بالطبع وأنا في منتصف العقد السادس اليوم، أستطيع أن أقول إن الشعر احتل الرقعة الأكبر من حياتي، حيث كانت أولى القصائد التي كتبتها وأنا في عمر الرابعة عشرة، أي مضى نصف قرن. هذه المساحة من الزمن أسميها أحياناً في قصائدي «التلة القمرية»، ولهذا علاقة بسومر لأن السومريين كانوا يعبدون القمر، ولما يزل الطابق الأول من معبد القمر موجوداً في أور، وقد زرته منذ سنيّ الأولى، وانطبع في الذاكرة كرمز شعري بامتياز، فصرت أتصور كيف كانوا يتسلقون طبقاته الخمس ليناجوا القمر، هذه الصورة صارت رمزاً للكتابة الشعرية عندي. من هنا بدأ الشعر ولم يزل.. طفت العالم، وعبرت إلى لغات أخرى، لكني في لحظة القصيدة أقف على تلة القمر السومري وأتناول وجبتي من حسائه القمري. الشعر عندي هو المنطقة الوحيدة في الكائن، والكون التي أمارس فيها حقيقتي، وأصرخ، أو أبكي، أو أناجي، أدلق لساني بوجه الكون والتاريخ أو أسجد.. هي المساحة التي يتحول فيها المطلق إلى ورقة بيضاء... «أن تكتبَ، يعني، أن تكتشفَ البياض/‏ وأنت تنفث السواد..». لا تعيقني في الشعر الحياة اليومية بكل تفاصيلها.. كتبت، على سبيل المثال، أكثر من نصف قصيدة «أبابيل» التي صارت ديواناً، وأنا أقود سيارتي في باريس في يوم مزدحم... يبقى الشعر، لأنه أبو اللغة الذي يجددها وهو جنينها في نفس الوقت. أثر المنفى * الحركة الأدبية العراقية باتت في أمس الحاجة اليوم إلى أبناء العراق في الخارج، هل ساهمت المنافي القسرية والاختيارية في كتابة نص عراقي مختلف؟ ** بالنسبة لي، الجواب طبعاً ودون شك. لولا المنفى لما كنت أنا الذي تراه الآن.. المنفى ولادة جديدة. يوم 3-10-1970 وهو يوم أوَّل مغادرة لي للعراق وكانت إلى الجزائر، يجب أن يسجل كميلاد جديد وأنا أحتفل به كذلك ولو مع نفسي فقط.. المنفى كلمة سلبية في اللغة العربية، وكذلك في اللغات الأخرى. والسبب يعود إلى أن اللغات، كل اللغات، منشأها عائلي، ولهذا تسمى اللغة الأولى اللغة الأم، وبهذا المعنى، فإن مغادرة الحضن الأمومية هو اغتراب أو نفي لأن مفهوم السعادة عائلي. لكن ليس بالنسبة لي على الإطلاق. السعادة عندي هي في اكتشاف العالم والاختلاف.. كم أعشق الدخول الأول للمدن والمشاهد، كم أحب أن أصغي لأصوات وإيقاعات ومفردات أولى.. الكون والإنسان يتجدد عبر تنفس هواء جديد والاستحمام ببحار لم تطأها قدماك من قبل. وكان الراحل الكبير آلان جوفروا آخر السرياليين الفرنسيين الذي غادرنا منذ شهور فقط، يقول: «المرأة الأبهى أجدها في العشق المقتلع الجذور..»، وقد عَنْوَن مجموعته الشعرية المهداة إلى زوجته اليابانية (جنس مقتلع من جذره... Eros Déraciné). لحظة توقف الشعر عندي هي لحظة الرماد الأسود.. من هنا أقول، بالطبع ساهم المنفى بكتابة نص مختلف بالنسبة لي، وبالتأكيد بالنسبة للشعراء العراقيين في الخارج تلك حتمية. وفيما يتعلق بي، فإن قصيدتي تحولت إلى حالة رؤيوية أكثر منها لغوية.. لقد اكتشفت الحشو في لغتنا، وصرت أتجنب ذلك حتى لو كان جميلاً... لأن الحشو مضاد للشعر لديَّ وفي اللغة العربية حشو ممكن أن يكون جميلاً، لكنه ترف لفظي يفسد الرؤية الشعرية، ويحولها إلى نوع من التطريز. لا توجد لغة فيها الحشو بلاغة..!؟ هذا ما نسميه بالعربية الإطناب والمرادفات وتكرار المعنى عبر مفردات وصور لا جدوى منها.. فأنت تقول مثلاً «تمد الشجرة جذورها في الأرض»، ولا تعتقد أن في هذا حشو لا يقبله الشعر.. ولكنك لو سألت نفسك هل هناك ضرورة لإضافة «في الأرض»...؟ ستجد أن هذه الإضافة حشو لا داعي له لأن الشجرة لا تمد جذورها في مكان آخر... هذا النوع من العلاقة مع اللغة وسواه الكثير لا تكتشفه إلا عبر لغة أخرى، وهو عامل مهم في التأثير على الشعر. تفكيك المنطقة * مر العراق بأكثر من محنة، ولكنه ينهض في كل مرة، كمبدع كيف ترى مستقبله؟ ** عن مستقبل العراق.. أعتقد أن الأزمة الحالية أعمق بكثير مما نتصور في العراق وخارجه.. وأن تداعياتها لن تتوقف وستعيد، وبدعم قوى عظمى إقليمية وعالمية، رسم خارطة الشرق الأوسط، لكن ليس على المدى القريب، بل المتوسط والبعيد إذ سيظل الحال «يتعفن» أكثر وأكثر حتى يسهل تفكك الكتل العرقية والطائفية والدينية التي تتكون منها دول المنطقة بدءاً بالعراق وسوريا.. وكما ترى فقد أخذ الصراع منحى طائفياً واضحاً.. ماذا يعني هذا؟ بكل بساطة قاد التحول الطائفي للصراعات السياسية في المنطقة إلى تغيير المرجعيات من قومية وطنية إلى دينية طائفية، ومن هنا، فإن الانتماء للوطن الواحد تراجع لصالح الانتماء للطائفة الواحدة، ولهذا فإن الخارطة السياسية للعراق ولكل الدول ذات التكوين الطائفي المتعدد ستخضع إلى تحول جذري في خرائطها الجغرافية باتجاه التفكك والتجزئة. لا يمكن مواجهة مثل هذا التوجه إلا بتغليب المواطنة كقيمة عليا وكمرجع نهائي لهذه الأوطان، ولكن للأسف ليس هذا ما يرشح من ممارسة الحكم ومن الصراع في العراق اليوم.. هيمنة السرد * هيمنت الرواية العربية اليوم على المشهد الأدبي وباتت كتاب العصر، واتجه الشعراء إليها تاركين ديوان العرب لكتابة السرد، ألا ترى أن ذلك دليل على تقصير في حق القصيدة مقابل دخول غمار السرد من باب آخر، أم أنه يؤكد فشل الشعر اليوم في توصيل المعنى؟ ** هناك ظاهرة واحدة وأكثر من فهم لها. الظاهرة تقول بـ «هيمنة» النص السردي على غالبية القرّاء في العالم، وليس العرب فقط.. إذن هي حالة إنسانية يعيشها البشر في هذه المرحلة من تطور الحضارة. لكن لفهم هذه الظاهرة أوجه عدة؛ هناك من يفسر ذلك بـ «عصر الرواية»، ويخلص إلى أن الشعر يتراجع لحساب الرواية في الأنواع الأدبية. وهناك من يعتبر أن السردية مرتبطة بالشاشة أي «المرئي والمسموع» الذي يتغذى على السرد ومن هنا، وبسبب طغيان الصورة، تطورت العلاقة مع السرد واستفادت الرواية من ذلك على حساب الشعر.. لهذا السبب وليس لهيمنة الرواية على الشعر بصفتها نوعاً أدبياً متفوقاً. هذا كما أن الشاشة تحل معضلة انحسار القراءة في العالم وبالأخص عند العرب لأنها توفر لعدم الراغبين بالقراءة التواصل مع احد الأنواع الأدبية «الرواية» دون الحاجة إلى القراءة. كل هذه الأسباب تجعلنا ننظر إلى هذه الظاهرة بشكل مختلف. وأنا اعتبرها جزءاً من تراجع القراءة الورقية بشكل عام، كما أن الشعر، خاصة الحديث، يظل حالة نخبوية شئنا أم أبينا. خاصة وأنا أعتقد مهما قلنا من تضاؤل جماهيريته بين عموم القرّاء، لا يمكن إلا أن نقر بأنه في العقود الأخيرة من القرن العشرين قد قطع أشواطاً هائلة في التطور والتعقيد في آن. * ترجمة بعض نصوصك إلى لغات أخرى هل حقق لك الانتشار المطلوب كشاعر، وإلى أي مدى استطاعت الترجمة أن تكون أمينة على النص الأصلي؟ ** بالطبع عشت، ولا زلت أعيش في باريس منذ قرابة أربعين عاماً.. وقد قلت يوماً: بسبب هذه العلاقة الوثيقة مع اللغة والحياة في فرنسا، إنني شاعر بأم عربية وأب فرنسي.. أقصد بذلك الانتماء الشعري لا العرقي. فقد ولدت من رحم اللغة العربية كشاعر، لكني تربيت برعاية أبوية فرنسية لأنني نشرت أول ديوان لي في باريس «حديث لمغني الجزيرة العربية»، وكان عمري 22 عاماً.. ثم توالت دواويني تصدر من باريس ولكن مع ناشرين عرب.. أنا لا أكتب الشعر إلا باللغة العربية، بعد محاولات بالفرنسية لم أقتنع بها.. السبب يعود، برأيي، إلى أن الفرنسية لدي هي لغة معرفة وفكر وتقنيات ولا يكتب الشعر بكل هذه الأشياء.. أما العربية، فهي لغة الذكرى والنسيان واللاوعي وبهذه الأشياء يكتب الشعر.. أما كيف أثرت الفرنسية كلغة على نصي الشعري العربي، فقد جاء ذلك، انطلاقاً من أن الفرنسية لغة منطقية دقيقة لا مجال فيها للإفراط بجماليات النسيج والتراكيب، كما هو الحال في العربية.. ومنها تعلمت الاقتصاد في اللغة وكتابة القصيدة خارج الغنائية العربية التي ولدت عليها. أما عن الترجمة، فأنا أعتقد أن ترجمة الشعر هي من أصعب الترجمات ولا مكان فيها لغير الشاعر... كما أن الوفاء «الأعمى» للنص الأصلي قاتل. ولا بد من إعادة تحرير باللغة الجديدة.. وقد كتبت يوماً أصف عملية الترجمة الشعرية: «كيف تكتب القصيدة ثانية في لغة أخرى.؟ كيف تولد الولادة ثانيةً؟ كيف تحل جبال البيرينيس محل جبل قاسيونْ؟ ذلك يعني أننا يجب أن نصرخ بالصوت ونصمت بالصمت، أن نكتب الماء في الينابيع كي ننقل إلى الحبر قشعريرة اللغة الجديدة كما يقول فيكتور هيجو...». ذلك هو الرهان، وتلك هي المعضلة. الشاعر والدبلوماسي * أين الشاعر من الدبلوماسي فيك، وهل نجحت التجارب الدبلوماسية العربية في تقديم شعراء أضافوا بمدوناتهم للمشهد الإبداعي العربي؟ ** هل تعرف أن الشاعر اليوناني جورج سيفيروس الحائز جائزة نوبل كان سفيراً لليونان في بغداد عام 1949، سنة ولادتي.....؟ ثم انتقل إلى بيروت؟ وهل تصدق أن سان جون بيرس هو الاسم الشعري للدبلوماسي العريق اليكسس ليجيه الذي كان يشغل منصب الأمين العام لوزارة الخارجية الفرنسية، وقد اندلعت الحرب العالمية الثانية بعد أن وقع هو باسم فرنسا ما صار يعرف فيما بعد بـ «معاهدة الخجل»، والتي بموجبها سمحت فرنسا لهتلر أن يحتل بولونيا..؟! ولهذا كان ديجول لا يحبه، وعندما فاز بجائزة نوبل، وكان أندريه مالرو وزيراً للثقافة، فذهب ليخبر ديجول بأن شاعراً فرنسياً مهماً هو سان جون بيرس مترجم اً إلى لغات العالم قد فاز بنوبل، رد عليه ديجول بقوله: «آه، إذن سأنتظر أن يترجم إلى اللغة الفرنسية..». أذكر لك هذه الأمثلة عن الشعر والديبلوماسية والقائمة تطول... وأهم الدبلوماسيين الشعراء العرب هم نزار قباني وعمر أبو ريشة وصلاح ستيتيية... لكن هناك علاقة خفية لا يعرفها الجميع بين الدبلوماسية والشعر ألا، وهي اللغة.. كلاهما يتحققان عبر اللغة. الديبلوماسي بحاجة إلى اللغة مثل الشاعر والديبلوماسي الذي لا يمتلك لغته ولغة أخرى لا يستطيع أداء دوره بشكل صحيح... * هل من كلمة أخيرة؟ ** إنني أعتقد أن العرب يعيشون أخطر مراحل تاريخهم ووجودهم على الأرض وبين الأمم.. ذلك لأنهم تحولوا إلى كائنات استهلاكية غير قادرة على التفكير ولا على الإنتاج. لا يوجد اليوم أي بلد عربي يعيش على إنتاج أبنائه، ومن عبقرية عطائهم في الابتكار والصناعة والتكنولوجيا. ولهذا، فإنهم يديرون ظهراً للحضارة إلا فيما يتعلق بـ «التسوق» لأنها الطاقة الوحيدة التي في أيديهم، وهي طاقة جغرافية منّت عليهم بها أرضهم وليس لها أي دور فيها إلا أنهم لا يحسنون استخدامها. هذه الأمة أخشى أن تعود هذه الأمة إلى أكثر مراحل البشرية بدائيةً وتخلفاً... وبهذا المعنى ستنقرض. أنشودة المطر عيناكِ غابتا نخيلٍ ساعةَ السحَرْ أو شُرفتان راح ينأى عنهما القمر عيناك حين تبسمان تورق الكرومْ وترقص الأضواء... كالأقمار في نهَرْ يرجّه المجذاف وهْناً ساعة السَّحَر كأنما تنبض في غوريهما، النّجومْ... وتغرقان في ضبابٍ من أسىً شفيفْ كالبحر سرَّح اليدين فوقه المساء دفء الشتاء فيه وارتعاشة الخريف والموت، والميلاد، والظلام، والضياء فتستفيق ملء روحي، رعشة البكاء ونشوةٌ وحشيَّةٌ تعانق السماء كنشوة الطفل إِذا خاف من القمر ! كأن أقواس السحاب تشرب الغيومْ وقطرةً فقطرةً تذوب في المطر... وكركر الأطفالُ في عرائش الكروم، ودغدغت صمت العصافير على الشجر أنشودةُ المطر... مطر... مطر... مطر... بدر شاكر السياب
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©