الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

وجه جبران خليل جبران.. النبي

وجه جبران خليل جبران.. النبي
24 ديسمبر 2014 20:50
سيظلُّ العالم المنصرفُ لضجةِ العواصم والمدن العملاقة، مدينا للقرى المنسية والمهملة، التي بزغتْ منها وجوهُ الأنبياء الجدد، فأضاءتْ كمصابيح عجيبة غسق البشرية المطبق. قرى شبيهة بجيوب الساحر، ما أنْ يدسّ يده فيها حتى يأتي بما يدهش ويذهل ويفزع. هذا الوجه المغترب من قرية «بشرّي» اللبنانية، واحد من العلامات المشرقية التي سمقتْ أدبياً وفكرياً وجمالياً في أميركا، فاضطلعت بالقيمة السحرية لشخصية نبيّ، وتحولتْ إلى أسطورة. ( يبدو تخييل صورة جبران في أميركا مقروناً برمزية الشرق الذي هجر معه، فسكن معه في آخر طابق بعمارة في بوسطن، شقة معلقة تشبه صومعة متصوف، كأن جبران كان يرصد من علوها ضفة الشرق عبر تلك المسافة الضوئية). وجه جبران خليل جبران، رؤيويّ، بالمعنى الذي يبدو فيه كما لو ينظر إليك من داخل رؤيا، من داخل حلم، لنقل أن الحاجز الشفيف والسديمي بيننا وبين وجهه هو الحلم، وجدار الحلم النابت بين وجهه وبيننا تبدو مادته كما لو صنعتْ من مارج النار. هل هو ضوء شمعة ما يطهّم وجهه في الصورة؟ خلف قناع الضوء الموهوم في وجهه، ثمة طيفٌ لوجهِ امرأةٍ مندمغ بكيميائه الأولية، امرأة كأنها تحرسه كملاك، هو طيف وجه أمّه «كاميليا»، هل هي محض مصادفة أن يحوّر اسم أمه من «كاملة» إلى «كاميليا»؟ إنها الوردة الغامضة التي تضمّخ جلال بياضه إذا...لأنّ أم جبران اشتغلت كخياطة في أميركا لكي تعول الأسرة، فثمة تخييل مارق يهجس لي، بأن الموسيقى التي تحدثها إبرة ماكينتها هي الإيقاع المبهم الذي احتكم إليه جبران بشكل لا واعٍ في كتابة أشعاره. شيء جدير بالبحث والتأويل: ثمة أسرار عجيبة للمفكرين والشعراء والفنانين كامنة في هيولى طرُزٍ وتصاميم وأصوات ماكينات أمهاتهم الخياطات. يخطر في بالي مثلا: علاقة غناء أسمهان بإيقاعات إبرة ماكينة أمها «علياء». هل هذا هو السر وراء امتلاك جبران خليل جبران لوجه موسيقي؟ أم الأمر له علاقة ملتبسة أيضاً بهسيس ماء أودية شمال لبنان المهلوسة؟ بالإضافة إلى ظل الموسيقيّ الذي يهوّم في مخيلة وجه جبران، هناك الحضور القوي لكيمياء العاشق الثوري، أو الرومانسي البديع والمأساوي في آن، عاشق يزجّ بتجربة حبه في منطقة الخطر، إذ يغدو حبه لمرأة قضية كونية، قضية تقف بشكل تراجيدي في صدام مع منظومة التقاليد الدينية والطبقية وتقاوم آلة قمعها الشرسة، ووحشية قوانينها بوردة. إنها كيمياء مزدوجة للوجه العاشق والمعشوق هنا، كيمياء لها علاقة ذات جاذبية منتجة ومؤثرة إن واقعا أو تخييلا: تخييلا تطفو على سطح رؤيتنا أو تأملنا لوجه جبران، مزنة وجه سلمى كرامة في الأجنحة المتكسرة (وواقعا هي الفتاة حلا ضاهر)، كما تطفو بعدها في صورة مضاعفة، مزنة مي زيادة، فضلا عن سحائب عشيقات أميركيات كماري هاكسل وباربارة يونج، وأخريات أغلبهن مجهولات... في المجمل هن يلازمن مصباح وجهه ويحلقن حوله كفراشات، كأن صلاتهنّ هي الاحتراق بناره . إنهن عرائس مروجه اللواتي يصاحبن وجهه أنّى حلّ أو ارتحل. يصعب على من يعرف العلاقة المتماهية بين جبران خليل جبران والشاعر الإنجليزي وليام بليك، أن يفصل بين وجهيهما أو يقيم مسافة بالأحرى فيما بين شاهدتيهما. طبعاً جبران هنا هو المتأثر بوليم بليك، الذي حاكاه في كل شيء، شعرا ونثرا ورسما. كأن جبران لبس وتقمص وذاب في شخصية وليم بليك حتى صار وجه هذا الأخير مندمغاً بملامحه، بكينونته وشكله، كما لو بعث في جسده من جديد. إن كانت الصعوبة أكيدة في الفصل بين الوجهين معاً، إذ يشكلان ذاتاً واحدة مع فوارق دقيقة جداً شبيهة بشرايين في جناح يعسوب، فهناك ما هو أشد التباسا عند تأمل وجه جبران ... الرؤية الملتبسة هذه كامنة في الأجساد العارية وأطياف النساء ومسوخ الأرواح التي تعج بها لوحاته، محتكمة في ذلك إلى متخيل مسيحي، متخيل لا يتقيد بعقائدية النص اليسوعي أو يبدع داخل منظومة تعاليمه الدينية، بل يفجر لاوعيها – أي المنظومة - ويخرج بها من ربقة انغلاقها إلى تصور أشمل له علاقة بتخييل ميتافيزيقي شخصي، تخييل جمالي حول الجحيم والجنة . تلك الأجساد والأطياف والمسوخ ( التي نجد لها ما تحاكيه في الأصل عند وليام بليك الرسام) تظل تحلق وتتطاير وتهوم في مدار فلكي خفي حول وجه جبران في صوره، كما في النموذج أعلاه، مما يجعل وجهه كما لو يشرق من عالم آخر، هو عالم هوسه بالماورائيات. قلما نجد شاعرا أو كاتبا عربيا قبله - ينتمي بحكم النسب والولادة إلى الديانة المسيحية - تجاسر على متخيل الإنجيل، واستنبت من جمالياته أفقا خاصا، مستقلا وغريبا، أثرى به بلاغة الأدب وفن الأشكال الجديدة، وكيفما بدا وجه جبران ممهورا بطيف إنجيلي، فكيمياؤه منفلتة، غير أحادية، تتطابق وفسيفساء فكرته المتعددة، إنه وجه مكتنز لثراء المارونية والشامية والعربية والشرقية والأندلسية، تتحاور في رمزيته الأديان (كحساسية جمالية و ليس كمعتقد) ... هكذا يتغذى وجه العاشق الرؤيوي بسحرية من تجارب عشقه الخاصة التي تصادمت مع الموروث فصارت قضايا عامة لها خطورة مسألة حضارية، ويعزز ذلك تشربه الواعي لروافد هويته المتشعبة، فضلا عن قلقه الوجودي والجمالي المحتدم في ذاته كفنان ... كل هذه التجاذبات الشاهقة لوجه جبران، المتأرجح بين ضفة الشرق وضفة الغرب، جعلته يبتكر دليله الخاص ليشكل الضفة الثالثة للنهر. ثمة موسيقى تفخّخ اسم جبران الثلاثي، لها أثر سحري، هذا الأثر يتضاعف ليخلق صورة راسخة، يستدعيها نطق اسمه من جهة، ويعززها تخييل وجهه الرؤيوي من جهة ثانية، هي صورة النبي (عنوان أشهر كتبه) التي تستبق كل التوصيفات .
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©