الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

القرآن الكريم: كثافة وإيجاز

11 ديسمبر 2013 19:39
لكي نحاول فهم تأثير القرآن الكريم المكتوب باللغة العربية والذي جعل من اللغة العربية لغة حضارة بالنسبة لمئات الملايين من الناس، علينا أن نشير إلى خاصّيات النحو العربي، واللغات السامية. واللغة العربية في حدّ ذاتها تتخثر وتتكثف بصلابة معدنية وأحيانا بشفافية البلور، الفكرة التي تريد أن تعبر عنها دون أن تتنازل أمام ضغط الموضوع المعنيّ بالأمر، إيجازية وحكمية، متقطعة ومرتجة. تنبثق الفكرة من الجملة مثل الشرارة من حجر الصّوان. والخط العربي نفسه يؤكّد على هذه الكثافة وعلى هذا الإيجاز: من الكلمات هو لا يقدر إلاّ “الجسد”. أمّا الحروف الصّوامت فهي مكتوبة بالأسود فوق السطر في حين أن “روح” الكلمات وتصويتها وأداؤها لا يقدّر الا اختيارا (وفي الماضي كان يقع ذلك باللون الأحمر) خارج السطر. هذا المظهر من المفارقات المكثفة فرضت من قبل الأدب العربي على بلاغة كل الشعوب المسلمة (...). النصّ القرآني يقدم نفسه كنصّ أنزل من الله تعالى على الرسول في ساعات الوحي. لأنّ الرسول اكتفى بدور المُبلّغ للرسالة السماوية، فإنه ظل دائما وأبداً يؤكد أن الشكل الأدبيّ للقرآن الكريم هو الحجة القاطعة للوحي، ومعجزة في الأسلوب تسمو على جميع المعجزات الأخرى. وقد قدس الرسول محمد وجميع المسلمين من معاصريه ومن بعده القرآن الكريم كشكل راق للكلمة الإلهيّة. وبعد مرور خمسة وعشرين عاماً على وفاة الرسول، وعندما انقسم أصحابه، وقامت الفتنة بينهم إلى حد أنهم رفعوا السلاح وتأهّبوا للاقتتال، كان كافياً لواحد من الأطراف المتنازعة أن يرفع عاليا نسخا من القرآن فوق السيوف في “صفين” لكي يحصل على هدنة أفضت إلى تحكيم بين علي ومعاوية. إنّه- أي القرآن- الوسيط الوحيد الذي إليه يلجأ لمعرفة القدرة الإلهية. والنص القرآني بسوره التي عددها 114 وبآياته البالغ عددها 6226 آية، باق كما هو منذ أربعة عشر قرنا. وهو يعتبر أساس الشرع الموحى به لدولة عالمية. في قصص تاريخية مختصرة، تتضمن تلميحات عن ماضي اليهود والمسيحيين، أو القبائل العربية أو عن الواقع السياسي الراهن، يشير النص القرآني، هنا وهناك، الى رسل مجهولين والى كفّار نالوا جزاء كفرهم. ويتضمّن القرآن الكريم أيضا تشريعات اجتماعية، وصيغة توحي بوحدانية الله، وصلاة تتردّد يوميا، وصوما يستمرّ شهرا كلّ عام وصدقة وحجّا إلى مكة. بالإضافة إلى كلّ هذا، هناك قواعد حول الزّواج وحول الإرث. غير أن القرآن الكريم ليس تشريعا فقط. إنه ينتسب الى تلك الكتب المقدّسة الناّدرة جدّا التي تفتح أفقا على المصائر النهائية للغة التي ليست أداة تجارية بسيطة ولا لعبة جمالية او طاحونة أفكار، وإنّما هي بإمكانها أن تؤثر في الواقع، وأن تحلّق في الفضاء. لنأخذ مثلا سورة “الفاتحة” التي يفتتح بها القرآن الكريم: “بسم الله الرحمان الرحيم، الحمد لله رب العالمين، الرحمان الرحيم، مالك يوم الدين، إياك نعبد وإياك نستعين، اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم، غير المغضوب عليهم ولا الضالين”. في هذه السورة تتجلّى لنا صورة الفكرة المتقطعة المرتجة والتي تبلغ هنا كثافة لا مثيل لها. وهاكم الآن آيات من القرآن الكريم، حيث بإمكاننا أن نستمتع بروعة اللغة بدرجة أسمى من تلك التي نحصل عليها عند قراءاتنا لأرقى النماذج في الشعر العربي القديم. ففي سورة “ق” الآية 37 نقرأ: “ان في ذلك لذكرى لمن كان له قلب او القى السمع وهو شهيد”. والمبنى الذي أراد أن يبنيه في قلبه لابد أن يتأسس على التقوى وليس على “شفا جرف هاو” (التوبة- الآية 109). وفي الحج يقول الله تعالى: “لن ينال الله لحومها ولا دمائها، ولكن يناله التقوى منكم كذلك سخرها لكم لتكبروا الله على ما هداكم وبشر المحسنين”. (الحج- الآية 37). لنوضح الآن أن القرآن الكريم هو أوّل نصّ عربي معروف نثراً وليس شعراً. وكلما ظلت اللغات البدائية حبيسة النظم الشعري، كلما ظلت عاجزة عن تجسيم الفكرة بصفاء، وبالتالي عاجزة عن أن تكون لغات حضارة. وربما لهذا السبب لم يتردد الرسول الكريم في اتهام شعراء عصره بأنهم “غاوون”.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©