الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

تشكيلات المزاج والروح

تشكيلات المزاج والروح
11 ديسمبر 2013 19:38
ترجمة: حسونة المصباحي هذه النصوص الثلاثة: "في الإسلام: الرياض والجوامع"، و"الأرابيسك"، و"القرآن الكريم"، كان المستشرق الفرنسي الكبير لوي ماسينيون قد كتبها عام 1939 لكي تقرأ في إذاعة فرنسا ضمن برنامج خصّص لقضية "وضع الإسلام راهناً". وكان لوي ماسينيون يشغل آنذاك منصب أستاذ كرسي في الـ"الكوليدج دي فرانس".وفي ما يلي ترجمة للنصوص الثلاث، التي يتوغل فيها صاحبها، في تشكيلات المزاج العربي المسلم، والمؤثرات التي تصيغه، سواء في المعطيات المادية من عمران وإبداعات ملموسة، أو الأسس الروحية التي يعبر عنها القرآن الكريم بأحكامه ونصوصه: لكي تتقاسموا معنا المفاجأة والسّحر الذين نشعر بهما عند ولوجنا مناخ الثقافة الإسلامية عبر بوّابة الصحراء الأفريقية والعربية، علينا أن نزور أوّلا الواحتين اللتين تخفيهما هذه الصحراء لاستراحة العين وسلام الروح: الرّوض والجامع. على أيّة حال الفكرتان في اللغة العربية متلازمتان: ففي المدينة، الجامع، حيث الرسول مدفون يسمى “الروضة” أي الحديقة، وبقطع النظر عما إذا ما كان الأمر يخصّ حديقة “جنة العريف” في غرناطة، و”أجدال” في مراكش، وحدائق القاهرة أو دمشق أو بغداد أو أصفهان، فإن المفهوم الإسلامي للحديقة يذهلنا بثباته ودوامه. إنه أساساً مكان للحلم يأخذنا خارج العالم. وحتى وإن احتوى على نفس الأشجار ونفس الأزهار التي عندنا، فإنّ هذا النوع من الحدائق يتناقض كلّياً مع الحديقة في الغرب. في حديقتنا الكلاسيكية التي تبدأ مع الإمبراطورية الرومانية، وتتواصل مع أسرة “الميديسيس” ولويس الرابع عشر، كان الهدف هو الهيمنة على العالم من خلال وجه نظر مركزية: خطوط كبيرة تأخذنا باتجاه الأفق، مسابح كبيرة أيضا تعكس الأبعاد، تؤطرها أشجار مشذّبة جيداً، ترافق العين شيئا فشيئا نحو غزو كل البلاد المحيطة. عوض هذا، ففي الحديقة الإسلامية، أوّل شيء يلفت ويسترعي الانتياه هو إقفال يعزل عن الخارج. وعوض أن يمركز على المحيط، ينصبّ الاهتمام على المركز. هذه الحديقة تتكوّن حين نمتلك قطعة من الأرض، حين “نُحيي” مربّعاً في الصحراء نجلب الماء اليه داخل سور عال، لا يمكن للفضول أن يعبر إلى الداخل، نعثر على غرس من الأشجار والأزهار تتزاحم أكثر فأكثر كلما تقدّمنا من المحيط باتجاه المركز. وفي المركز توجد إلى جانب سبيل يتدفق ماء. هذه الحديقة، خلافاً للحديقة الكلاسيكية والحديقة اليابانية تجلب راحة للفكر المتوحّد بذاته،الجامع الذي هو مكان العبادة العام للمسلمين، يلفت نظرنا هو أيضاً باختلافه عن مكان العبادة عند المسيحيين، أي الكنيسة، حتى ولو استعمل بناؤه العناصر الخاصة بالزخرفة. وقد كان الجامع في البداية مفتوحاً على السماء. وهو يحتوي عادة على باحة مركزية واسعة. أمّا الجدران التي تحيط به، فهي تكاد تكون غير نافذة للعين الخارجية دون تلك الحيزات الهاضمة للضوء والتي هي الألواح الزجاجية الملونة في الكاتدرائريات. ونحن لا يمكن أن ندخل الجامع إلاّ بعد أن نكون قد مررنا بمغسل من أجل استكمال طقوس الصلاة. هناك كرسي للحقيقة، غير أنّ هذا الكرسي المتحرك يوجد في مكان ثانوي ذلك أنّ على المؤمنين الجالسين في صفوف متوازية مثل الجنود أن يحتفظوا طوال الصلاة أنظارهم مركّزة على وجهة محدّدة هي مشكاة محورية فارغة تسمى “القبلة” تحدّد وجهة مكة، وهي مكان التضحية السنوي للذبيحة المخصصة للفداء منذ زمن ابراهيم عليه السلام. وإذا ما كانت الأبواب الخشبية مزخرفة مثلما هو الحال عادة، أو فقرات العقد المخصصة بالتعاقب داكنة أم مميزة، فان الصّحن يظلّ عارياً مجرّداً دون تماثيل تجعل من جماليات الحياة الدنيا صلة الوصل التي ترفع روح العابد إلى ربّه الواحد، ذلك أنّ تمثيل الوجه البشري محرّم. وحدها الخطوط العربية تجري عبر الحيطان، محتفظة بطريقة صارمة ومتصلبة بالقانون. أخيرا مكان الناقوس في الكاتدرائية، هناك المئذنة التي ترتفع، ومنها ينبثق الصوت الإنساني نفسه، معوّضاً البرونز الجامد، داعياً إلى المواعيد الخمسة للصلاة. كلّ الاهتمام مركز عن طواعية واختيار، في هذا الأسلوب المجرد، باتجاه القبلة، رمز توجه القلب نحو الواحد الأحد.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©