الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

استراتيجية التأسيس والتجذير

استراتيجية التأسيس والتجذير
11 ديسمبر 2013 19:32
كتاب الدكتور منير يوسف طه: «الكشف عن الأبجدية الأولى لتاريخ الإمارات»، الصادر حديثاً عن «اتحاد كتّاب وأدباء الإمارات»، يتألف من نحو 350 صفحة من القطع الوسط، ويضم تسعة فصول، ومقدمة وتمهيداً. القراءة الأولى في الكتاب، تكشف عمق الوعي والاهتمام المبكر، لدى المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، بتاريخ الدولة الفتية، حيث كان الهم التاريخي، بمعنى التشبث بجذور الهُوية الوطنية والقومية، والانتماء للأرض، والمحافظة على إرث الآباء والأجداد، فضلاً عن البعد الثقافي والحضاري بالمعنى الإنساني الشامل، لا يقل أهمية في استراتيجيته المستقبلية، لجهة ترسيخ السيادة وضمان البقاء الحر، أو في أولوياته المرحلية، لجهة التحديث والتطوير الاقتصادي، وعملية البناء الشاملة، في إطار تنموي مستدام. لهذه الأسباب مجتمعة، وجدنا على أجندة الشيخ زايد منذ إعلان التأسيس وقيام الاتحاد، هم التنقيب عن الآثار بسواعد عربية، لأن عمليات التنقيب خلال المرحلة الاستعمارية، التي قام به علماء الآثار الغربيون، انتهت بمعظم المكتشفات الآثارية ـ إن لم يكن جميعها ـ إلى متاحفهم، وأسواقهم في بعض الأحيان، فاتجه سموه إلى العراق الشقيق، وحرص على عقد أول اتفاقية للتنقيب عن الآثار في دولة الإمارات الناشئة مع الحكومة العراقية عام 1972، ليَصِل بموجبها فريق متخصص من دائرة الآثار العراقية إلى أبوظبي في خريف العام الأول، من عمر الدولة الفتية. وبناءً على طلب إدارة الآثار في العين، التي شكلها الشيخ زايد بنفسه، تم في الحال تقسيم فريق الآثاريين العراقيين إلى مجموعتين، حيث تعمل الأولى على صيانة بعض المدافن، التي عثر عليها الدنماركيون في ظل الانتداب البريطاني بمنطقة “هيلي” في مدينة العين، التي تعود إلى ما بين الألف الثالث والثاني قبل الميلاد، حسب الآثاريين الدانماركيين. بينما تتولى المجموعة الثانية عمليات المسح الآثاري في منطقتي “جبل حفيت” الواقعة في العين، ومنطقة “ليوا”، الواقعة في أقصى الجنوب الإماراتي. متابعة مباشرة ولم يتوقف اهتمام الشيخ زايد رحمة الله عليه على استقدام الآثاريين العراقيين، الذين كانوا يعتبرون في ذلك الوقت، من أهم الآثاريين العرب فقط، وإنما في متابعته الميدانية المتواصلة لمجمل نشاطهم على هذا الصعيد. فيقول الكاتب إن البعثة العراقية الثانية، التي وصلت إلى الإمارات مطلع العام التالي، انقسمت أيضاً إلى فريقين، الأول (تحت إدارة الكاتب الدكتور منير يوسف طه)، حيث بدأ التنقيب في موقع “مليحة” في الشارقة، في حين واصل الثاني صيانة المدافن في موقعي “هيلي” و”أم النار”. وبعد مرور بضعة أسابيع على عمليات التنقيب، ذكر الدكتور طه أن الشيخ زايد بنفسه، أمضى يوماً بحاله مع الفريق في موقع مليحة، استهله من الصباح الباكر باستقبال العاملين بالفريق من العراقيين، ومساعديهم من الإماراتيين في خيمة أعدت لسموه بالقرب من الموقع. فاطمأن بادئ ذي بدء على أحوالهم، وإذا ما كانت تتوافر لهم كل الوسائل المساعدة لقيامهم بمهمتهم على أحسن ما يكون. بعدها عُرضت على سموه اللقى الآثارية من السيوف والفخار ومقابض الجرار المزخرفة بالنقوش والكتابات اليونانية، التي عثر عليها، فراح يستعرضها قطعة إثر قطعة، مستفسراً عن طبيعة تصنيعها، ومدققاً بتاريخها، وأي الشعوب مارست تجارتها، “فأعلمناه أن الكتابة على المقابض تؤكد أنها تعود إلى القرنين الثالث والثاني قبل الميلاد، أي الفترة المعروفة بـ”العصر الهلنستي”. وبعد أن علم سموه بما تم الكشف عنه، أخذ يحدث الفريق عن تاريخ المنطقة بالتفصيل، ومن بين ما ذكره “أن هذه المنطقة عموماً كانت بوتقة لانصهار كثير من الثقافات، لذلك تميزت ثقافاتها عن غيرها من المناطق المحيطة بها”، وراح يحدث الفريق عن أهمية الكشوفات الآثارية الدانماركية في “جبل حفيت” و”أم النار” و”هيلي”، وما ألقته من ضوء كبير على الحضارات المتعاقبة في دولة الإمارات. ولم يكن سموه مستعجلاً معرفة تفاصيل اكتشافات الفريق العراقي ميدانياً، رغم ما أبداه من اهتمام، حينما عاينها لاحقاً، وإنما كان يبدي حرصه الشديد على راحة الفريق، وتشجيعه ومساندته على كل المستويات، وبالدرجة الأولى على المستوى المعنوي، لما يعوّل من أهمية قصوى على نتائج التنقيب، ماجعله يتباسط معهم على جري عادته، حيث دعاهم إلى مشاركته شراب حليب النوق، ومن ثم شاركهم الإفطار الصباحي بحدب الأب على أبنائه دون تمييز بين عراقي وإماراتي، صغير أو كبير. ويبدي الكاتب دهشته من سهولة تعامل الجميع مع سموه، وخصوصاً مواطنيه الإماراتيين، الذين ينادونه في بعض الأحيان باسمه المفرد مجرداً من أي لقب أو صفة، من دون أدنى خوف أو تردد. وكان سموه يستجيب لهم بأريحية منقطعة النظير، كأنهم أصحابه من المقربين، أو من أهله وعزوته. تفقد ميداني ويضيف الكاتب أن الشيخ زايد شرع عقب الإفطار بتفقد بقايا المدفن المكتشف ميدانياً، فقضى وقتاً طويلاً يتفحص ويسأل عن مواد البناء المستخدمة، وإلى أي الأشخاص، أو الشعوب يعود المدفن، وإذا ما كان تأريخه محدداً بدقة أكثر؟ وانتقل سموه بعد ذلك إلى القصر، وجال في وحداته، مدققاً بالأمكنة التي اكتشفت بها اللقى الآثارية. وحينما لاحظ بعض نواة التمر المتفحمة، قال: لابد أن أشجار النخيل كانت سائدة في هذا الموقع آنذاك. واستنتج أنها كانت منطقة زراعية بدليل الأنوية المتفحمة، وأن سكانها كانوا يمارسون التجارة بدليل أن معظم اللقى المكتشفة يونانية، ولأن اليونانيين في ذلك العصر كانوا يسيطرون على التجارة عبر العالم القديم. وهي ملاحظة دقيقة من دون شك، وتؤكد أن سموه كان على دراية وخبرة واسعتين، بكل ما كتب عن تاريخ المنطقة، أو معظمه على الأقل. ويؤكد الكاتب أن دراسة أدبيات الفترة الهلنستية في مناطق الشرق القديم على وجه العموم، وفي منطقة شبه الجزيرة العربية على وجه الخصوص، جعلته يتوصل إلى نتيجة مفادها أن “موقع مليحة ماهو إلا إقليم أو منطقة (عمانة) (ommana) التي ورد اسمها في نصوص وأدبيات الكتاب والجغرافيين الكلاسيكيين” أي اليونانيين والرومان بشكل خاص. وإذا صحت استنتاجات الكاتب بهذا الخصوص، فهذا يعني بداهة أن ساحل الإمارات كان مأهولاً منذ أقدم العصور، وأن سكانه كانوا على تواصل مع حضارات وادي الرافدين منذ فجر التاريخ، وبالتالي يصبح من غير المستبعد، اعتقاد بعض المؤرخين أن الفينيقيين ـ الكنعانيين خرجوا من هذه المنطقة إلى بلاد الشام، واستوطنوا السواحل اللبنانية والسورية، ومنها جابوا البحر المتوسط، وباتوا أسياده عسكرياً وتجارياً، ولاحقاً غزوا أوروبا. ويتابع الكاتب أن البعثة العراقية الثالثة وصلت إلى الإمارات نهاية عام 1973، وانقسمت بدورها إلى ثلاث فرق، فذهبت الأولى للتنقيب بموقع “جلفار” في إمارة رأس الخيمة، والثانية بموقع “الزورة” في إمارة عجمان، والثالثة بموقع “الدورة” في إمارة أم القيوين. وبعد ستة شهور من العمل، تم العثور على فخاريات متنوعة التصنيع والأشكال والأنماط، إلى جانب كميات من الخزف الصيني، الذي يعود تاريخه إلى سلالة (مينغ) ومسكوكات برونزية، وقطع من الحديد والبرونز، وعدد من حبات اللؤلؤ والخرز الملون، المصنوع من الأحجار الكريمة، وبعض الحلي النسائية. وتبين من نتائج التنقيب والبحث أن جلفار المدينة التاريخية، التي “ذكرتها المصادر العربية إبّان صدر الإسلام والعصر العباسي، لم نعثر على مدلولاتها الحضارية خلال عمليات التنقيب، وما حصلنا عليه من آثار وبقايا بنائية، يمكن أن يؤرخ لبدايات القرن الخامس عشر الميلادي، وأبعد تقدير القرن الرابع عشر الميلادي، أي أنها مخلفات تتزامن مع تأسيس هرمز الجديدة، أو في بدايات الغزو البرتغالي لشبه جزيرة عمان”. وهي آثار بمعظمها مغمورة تحت الماء، بسبب زحف مياه الخليج على اليابسة، خلال القرون الثلاثة الماضية. زايد وإخوانه والتاريخ ويلاحظ الكاتب أن المغفور له الشيخ زايد استدعاهم للقائه مرة أخرى في قلعة الذيد، بغرض الاطلاع على مجريات التنقيب، ومعاينة اللقى الآثارية بنفسه. وهذه المرة وجد الفريق العراقي أن الشيخ زايد أحضر معه بقية إخوانه من حكام الإمارات، فكان يجلس على يمينه، نائبه المغفور له الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، حاكم دبي، وعلى يساره يجلس الشيخ حميد بن راشد النعيمي حاكم عجمان، وحولهم بقية حكام الإمارات. وراح الشيخ زايد يعاين اللقى ويتفحصها بتؤددة، مدققاً في كل ما يتعلق بنوعية موادها، وتصنيعها، وأهميتها الحضارية والتاريخية، وكانت تزيد على ثلاثمائة قطعة، دون أن يتجاهل قطعة واحدة مهما تضاءلت أهميتها. وقبل أن نغادر شدد على ضرورة نشر نتائج الحفريات “كي يطلع عليها أهل الإمارات وبقية العالم، ليعرفوا حضارة هذه الدولة. مكرراً قوله المأثور، الذي كرره على مسامعنا في الزيارة الأولى: إن الدول التي لا ماضي لها لا مستقبل لها”. ويذكر الكاتب أن الشيخ راشد بن سعيد، أشار إلى مواقع آثارية مهمة في الجميرة وقرب مقبرة القصيص، التي عُثر فيها على بعض الفخاريات، معتقداً أنها تعود إلى صدر الإسلام وما قبل ذلك التاريخ، ما تطلب تمديد عمل البعثة ستة شهور إضافية. وتبين من خلال الكشوفات أن امتدادات جميرا تتعدى الكيلومترين، وعرضها نصف كيلومتر، وتتضمن منازل سكنية من الحجر والجص، إلى جانب كتابات عربية على فخاريات وحلي معمارية وهندسية ونباتية تعود إلى بداية العصر الإسلامي، فضلاً عن طاسة برونزية، يعتقد أنها كانت تستخدم لشرب المياه، تم العثور عليها بموازاة الطريق، على سطح الأرض من دون عناء “وبذلك يكون هذا الموقع من أكبر المواقع الأثرية، التي تنسب إلى العصور الإسلامية الأولى في الإمارات”. مدافن القصيص أما في موقع القصيص فتم العثور على 24 مدفناً تعود إلى بدايات ومنتصف الألف الأول قبل الميلاد، إلى جانب لقى آثارية متعددة، أبرزها ثلاثة خناجر، عثر عليها في مدفنين، أحدهما به خنجرين، وطوق فضي يحيط بجمجمة، وصفيحة ذهبية وأخرى فضية، يعتقد أنهما فرعونيتان، لأن النقوش التي عليهما أشبه بصورة الجعران، الذي يعيش في وادي النيل. بالإضافة إلى مجموعة خرز من المرمر، والأحجار الكريمة معظمه من العقيق، وبعضها محلى بالذهب والفضة، وخواتم، ودلايات، ومجموعة كبيرة من رؤوس السهام الحربية، المصنوعة من البرونز. وفي المدفن الآخر، تم العثور على خنجر، وسبعة رؤوس سهام برونزية، تعود جميعا إلى الألف الثالث والثاني قبل الميلاد. ما يجعل الكاتب يعتقد أن العمق الحضاري لدبي، يواكب حضارتي “ام النار” و”هيلي”، وأن تأريخها مرتبط بتاريخ الخليج العربي وبلاد الرافدين ووادي السند والهند. ويلاحظ الكاتب أن توقعات الشيخ راشد بن سعيد رحمة الله عليه كانت صحيحة، وأنه سعد كثيراً باللقى، واستبشر خيراً، خلال استقباله، ومعاينته جميع القطع التي تم العثور عليها، مؤكداً أهمية مواصلة التنقيب في موقع القصيص، حيث وصل العدد المكتشف بنهاية العملية إلى 171 قطعة. وأوفدت دائرة الآثار العراقية بعثة جديدة إلى الإمارات مطلع عام 1976، ليعمل فريق منها في إمارة الفجيرة للتنقيب بموقع يعاصر “جلفار”، وآخر في جزيرتي “أم النار” و”داس”. ولكن الكاتب لم يذكر تفاصيل عمل هذه البعثة، وإنما يقفز إلى دعوته شخصياً من قبل بلدية دبي عام 1979 وبناءً على طلب جامعة كامبريدج، حينما كان الكاتب يعد لنيل شهادة الدكتوراه، معتمداً على نتائج التنقيبات في القصيص، فاستمرت أعمال التنقيب في موقع “جميرا” لمدة أربعة شهور تقريباً، كشف خلالها عن مستوطن، يحتوي على ست طبقات سكنية، الطبقات الأولى منه تعود إلى ما يعرف بحضارة أم النار، وأما الطبقات العليا فتعود إلى ما يعرف بالعصر الحديدي. تلتها دعوة ثانية من بلدية دبي للكاتب عام 1981، فتمت مواصلة عمليات التنقيب في “جميرا” حيث اكتشف عدد آخر من “البيوت السكنية، المحلاة بشتى أنواع الزخارف الجصية، إلى جانب الفخاريات وكسر الحديد”. معبد الثعابين في الفصل الثامن يتناول الكاتب عمليات التنقيب في “تل الثعابين” بالقصيص، حيت اكتشف الكثير من الكسر الفخارية، التي يتراوح طولها بين 30 و35 سنتيمتراً، وسماكتها بين 3 و4 سنتمترات، مزينة برسوم الثعابين، “بعضها بارزة أجسامها، ومطعمة بحجارة ملونة، للدلالة على الحراشف”. وفي الجهة الثانية من التل عُثر على غطاء لإناء مصنوع من الفخار، على جزئه الأعلى ثعبان بارز مطعّم جسمه وعيناه بقطع صغيرة من الحجر أسود اللون. وبلغ مجموع ما عثر عليه من رؤوس الرماح البرونزية (622)، وأربعة ثعابين من البرونز طولها بين 10 و15 سنتيمتراً، وأربعة مثاقب مصنوعة من البرونز، يتراوح طولها بين 10 و12 سنتيمتراً، وثلاث صنارات صيد سمك، ومسلتين من البرونز، طول كل منهما 7 سنتيمترات، وثلاثة سكاكين من النحاس، وخرزة كبيرة الحجم مطلية بالأزرق الباهت، ومراود كحل برونزية، وخرزاً مصنوعاً من الحجر الكريم، وحلقة أنف، ودلاية مصنوعة من الرصاص، على هيئة جمل وعليه راكب. وخلال التنقيب عثر على جمجمة ثعبان له ناب معكوف إلى الداخل، وبعد تحليلها في جامعة كامبريدج، تبين أنها لأفعى من نوع كوبرا قاتلة. ويستنتج الكاتب أن رعية المعبد ربما كانوا يميلون إلى نوع من الاشتراكية، يقودها كهنة المعبد، لأن جميع الأدوات المكتشفة هي وسائل إما للدفاع مثل رؤوس الأسهم البرونزية، أو للمعيشة مثل صنارات صيد الأسماك والمثاقب والسكاكين، أو للأفراح ومناسبات الزواج مثل الخرز والحلي ومراود الكحل وغيرها، معتقداً أن “تل الثعابين” كان معبداً لقوم يعبدون الثعابين، وأن المعبد تعرض لعملية تهديم وتخريب، وأن أبناء الرعية التابعة للمعبد، لم يعاودوا بناءه، وربما لم يعودوا لمزاولة طقوس عبادتهم في هذا المكان ثانية، بسبب شدة بأس القوم الذين خربوه. قلب العالم في الفصل التاسع، الذي حمل عنوان “الزاوية الحرجة الأكثر حيوية ونشاطاً في خريطة الجزيرة العربية”، يتناول الدكتور منير يوسف طه، تاريخ جنوب شرق الجزيرة العربية، أي المنطقة الممتدة حالياً من دولة الإمارات إلى سلطنة عمان، منذ سقوط السلالة السلوقية على يد الفرثيين في عام (126 قبل الميلاد)، ومن ثم قيام الدولة الساسانية ما بين(220 قبل الميلاد و637 ميلادية)، ومروراً بجميع مراحل التاريخ العربي والإسلامي، وصولاً إلى الاستعمار البرتغالي، ومن بعده الهولندي، ومن ثم البريطاني. ويلاحظ الكاتب أن خريطة شبه الجزيرة العربية هي عبارة عن ثلاث مناطق نفوذ رئيسية، تشكل مثلثاً متساوي الزوايا والأضلاع، وتتمثل هذه المناطق، أولاً برأس المثلث، وتضم كلاً من بلاد الشام، وبلاد ما بين النهرين. أما زاويتا قاعدة المثلث، فتمثلان في الجهة الجنوبية الغربية بلاد اليمن، وفي الجهة الجنوبية الشرقية شبه جزيرة عمان. أي بمعنى أكثر وضوحاً أن شبه الجزيرة العربية، شاءت لها الأقدار، أن تكون في قلب العالم القديم، وتربط بين ممراته البرية والبحرية. لذلك مثلت على الدوام مجالا للتنافس والاقتتال على موقعها الجغرافي المميز، فيما بين الحضارات والامبراطوريات التي قامت منذ فجر التاريخ حتى اللحظة الراهنة. فالسيطرة عليها كانت على الدوام، تعني السيطرة على التجارة البرية والبحرية في العالم القديم. ولم يختلف الأمر كثيراً في الوقت الراهن، كون المخزون النفطي الذي تحتويه يشكل أكبر احتياطي للطاقة في العالم، ما عوض تراجع أهمية الممرات البحرية والبرية للتجارة العالمية. ولما كان المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان يدرك الأهمية الاستراتيجية للمنطقة سواء أكان ذلك بموقعها الجيوبوليتكي التاريخي، كهمزة وصل بين القارات الثلاث القديمة، أو كان ذلك بموقعها الاقتصادي كأكبر مخزون احتياطي للطاقة في العالم حاضراً ومستقبلاً، وما زالت تشكل بوابة هرمز في الخليج، المعبر الأهم دولياً لتدفق النفط، الذي يعتبر شريان الحياة الأول للصناعات العالمية، كان سموه على الدوام ينطلق في مشروع الاتحاد وتأسيس الدولة وبناء قواعدها على أسس علمية صلبة، من رؤية استراتيجية شاملة، توازي بين أهمية العمل الحثيث على مسارات متعددة: أولاً: كان سموه يدرك أهمية الاستجابة للتحديات السياسية المحيطة بالمنطقة، ومدى خطرها الداهم على الأمن الوطني والقومي على كل المستويات، لذلك كان لابد من السهر المتواصل لجمع الشمل، وعدم ترك الفرصة لتخريب الأغيار محلياً وعربياً. ثانياً: كان سموه يدرك مدى الحاجة الملحة للتنمية الاقتصادية، وتطوير البنى التحتية للدولة، بغرض تحقيق الرفاه الاجتماعي لمواطنيه، وهذه من أهم التحديات التي تواجه رجال الدولة، لأن تحصين الوضع الداخلي هو الشرط الأساس لمواجهة الأخطار الخارجية في كل الميادين، وعلى مختلف الصعد. ثالثاً: كان سموه يدرك أهمية البعد الثقافي في الماضي والحاضر، بالمعنى الحضاري الشامل، في ترسيخ الهوية الوطنية ومفهوم الانتماء للدولة أو الأمة، وبناء اللحمة الوطنية، الكفيلة بالصمود ومواجهة التحديات. رابعاً: كان سموه يدرك ضرورة العبور بالدولة ـ بالمعنى السياسي ـ ضمن مطبات الحدود والأطماع مع الجيران، التي يمكن لأقل واحدة منها، تفلت من زمام السيطرة، أن تنسف الاتحاد وتقوض الحلم الأرقى والأبقى عربياً. في زحمة هذه السياقات الضاغطة، وتشابك هذه المسارات المعقدة، كان الشيخ زايد يرى أهمية وضرورة التنقيب عن الآثار، لحماية التاريخ الثقافي والحضاري للدولة الوليدة، وكان يجد الوقت الكافي لمتابعة عملية التنقيب عن الآثار أسوة بمتابعته لبقية ملفات التوحيد والسياسة الداخلية والخارجية، والتنمية الاقتصادية المستدامة، في عملية التحديث والتطوير العلمي والصناعي في كل المجالات، وعلى كل المستويات الإنسانية؟!. هكذا هو شأن الرجال، الرجال. هكذا تحفظهم الذاكرة. وهكذا هو زايد... وهكذا يكون التاريخ... آثار ولقى إماراتية في متحف مشكارد الدانماركي في الفصل السادس، يتحدث الدكتور منير يوسف طه عن زيارته متحف مشكارد، في مدينة آرخوس الدانماركية، الذي يحتوي على جميع اللقى الأثرية التي عثرها عليها المنقبون الآثاريون الدانماركيون خلال الأعوام 1959 ـ 1969 في الإمارات ومناطق أخرى من الخليج. فيذكر أنه شاهد العديد من القطع التي تشبه ما تم العثور عليه في موقع القصيص، ومنها رأس الفأس، الذي توضح بطاقته، أنه تم العثور عليه في موقع “جرن بنت مسعود” في مدينة العين، وعدد من رؤوس السهام البرونزية، عثر عليها في البريمي ودبا. وأهم ما شاهده هو “آثار المدفن رقم 20 في جبل حفيت، الذي نشرت محتوياته، العالمة الآثارية السويدية كارن فرايفلت (frifelt) في مجلة “كومل” عام 1970، حيث إن الكثير من اللقى لها ما يشابهها في موق القصيص، وخاصة الإناء الحجري، ذا المصب المفتوح، والإناء البرونزي. ويذكر الكاتب نتائج رحلته إلى البحرين، ملتحقاً ببعثة تنقيب آثارية بريطانية بتوصية من المشرفة على رسالة الدكتوراه التي يعدها الكاتب في جامعة كامبريدج، لعله يعثر على ما يعزز مكتشفاته في القصيص، لأن بحثه يقوم عليها، فتنتهي نتيجة التنقيب بالعثور على أختام ونقوش تعود إلى حضارة دلمون. الأمر الذي دفعه للعودة مجدداً للتنقيب في القصيص بناءً على دعوة جديدة من بلدية دبي. حيث اكتشف فخاريات مختلفة، عما عثر عليه في السابق بالموقع عينه، وبعد دراستها “دراسة وافية، ومقارنتها مع مثيلات لها، كُشف عنها في جزيرة أم النار ومنطقة هيلي، تبين أن تاريخها يوازي تاريخ جزيرة أم النار”. ما يؤكد الوحدة التاريخية والحضارية لدولة الإمارات وعموم منطقة الخليج العربي. حسب الكاتب الآثاري الدكتور منير يوسف طه.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©