الثلاثاء 16 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

مانديلا.. نضال سياسي بلا عنف

7 ديسمبر 2013 23:29
دور نيلسون مانديلا في إنهاء نظام التفرقة العنصرية الجبرية المتجذر بعمق من دون عنف أو حرب أهلية جعل منه واحداً من الشخصيات القليلة الحية ممن يحملون الطابع الأخلاقي لمارتن لوثر كينج أو المهاتما غاندي. لكنه أصبح الآن ينتمي إلى العصور الماضية. ويعني اسمه الأوسط “مسبب المتاعب”، وفي حقبة الستينيات من القرن المنصرم، وُصم مانديلا بالإرهابي، غير أنه في نهاية حياته بات يشار إليه بالبنان من القاصي والداني والغني والفقير يسارياً كان أو يمينياً ورئيساً أو عاملاً من البيض أو السود. وكان مانديلا بطلا من لا أبطال لهم في عصر التشكيك والتخوين. واتخذت حياته التي استمرت 95 عاماً منحى استثنائياً بكل المعايير، لدرجة أن أكثر إدراكاته الروحانية المتفردة يبدو الآن أنها نشأت معه أثناء الأعوام الطويلة التي قضاها سجيناً. وبالنسبة لكثير منا، ظهر مانديلا على الساحة العالمية في عام 1990 ريثما اتخذ التاريخ منعطفاً لم يكن لأحد أن يتصوره.. فكانت الصين تسأل نفسها عن الديمقراطية في مأساة ميدان تيانانمين، وكان الاتحاد السوفييتي يتداعى كقطع الدومينو عقب فترة قصيرة من انهيار سور برلين.. وفي جنوب أفريقيا انتهت عقود من الفصل العنصري. وجاء وقت المعجزات، والآمال غير المشهودة والمخاوف الجديدة.. كل ذلك اجتمع في آن واحد، لكن أحداً لم يتوقعه. وبزغ نجم مانديلا مع خروجه من زنزانته بابتسامة تعلو وجهه كيوم ربيعي مشرق بلمسة حانية، وبدا مفعماً بعبق التاريخ يزينه التواضع، ملوحاً للعالم بينما كانت ثقافة المشاهير تتجه إلى ذروتها. كان مانديلا الشخص المناسب لعصور العولمة، فهو المصلح ورجل الدولة الذي عبر عن المساواة العنصرية بأسلوب يصل إلى القلب مباشرة. وقال “مانديلا” لشعبه “لا أقف أمامكم هنا كنبي، ولكن عبد مطيع لكم، فتضحياتكم البطولية بلا كلل هي التي مكنتني من أن أكون هنا اليوم، لذا فإنني أضع الأعوام المتبقية في عمري بين أيديكم”. وقبل تلك اللحظة، فإن المرة الأخيرة التي سمع فيها مانديلا كانت في العام التالي لخطاب “الحلم” الذي ألقاه مارتن لوثر كينج في ذكرى لينكولن عام 1964، وكان مانديلا قابعاً في قفص الاتهام ويواجه عقوبة الإعدام قائلاً: “لقد حاربت هيمنة البيض كما واجهت هيمنة السود، وهذه هي المثالية التي أنا على استعداد للموت من أجلها”. وما انفك مانديلا أن اختفى عن أنظار العالم، وبدا وكأنه قد مات بشتى الطرق بالنسبة للكثيرين. وأثناء ستينيات وسبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، مكث في سجن جزيرة روبين، والذي كان يبدو مثل الوجه المظلم للقمر، وخلت تلك الأعوام من بصيص نور، فلا أزهار أو اجتماعات مع قادة العالم أو هتافات أو كاميرات أو حتى اهتمام. ولم يكن أحد يتكهن بأن الاتحاد السوفييتي سينهار أو أن الصين ستصبح ورشة العالم، أو أن رجلاً أسود سمي نسبة إلى الإدميرال البريطاني لورد نيلسون سيساعد على إنهاء التفرقة العنصرية بشكل سلمي. وبعد كل هذه الأعوام وتلك الأحداث الجسام خرج فكر مانديلا إلى النور، واشتهرت خطبه العامة الكثيرة، لكن لم تظهر أعماق نفسه أثناء مكوثه في غيابات السجن، غير أنها أفرزت رجلاً وجد القوة في نفسه كي لا يكره، ورغم إدراكه للعالم، كانت لديه أيضاً “حياة روحانية منفصلة”. وفي عام 1975 كتب: «إن الأمانة والإخلاص والبساطة والتواضع والكرم وغياب العجب والاستعداد لخدمة الآخرين ــ وهي ميزات يمكن أن يصل إليها كل إنسان ــ هي أسس الحياة الروحانية للبشر”. وتابع “إن تطور أمور بهذه الطبيعة لا تصدق من دون تأمل جاد للنفس، ومن غير معرفة الذات، ونقاط ضعفك وأخطائك.. وتمنحك الزنزانة ــ على الأقل إن لم يكن من أجل أي شيء آخر ــ فرصة للنظر يومياً في سلوكياتك بأسرها، والتغلب على الجوانب السيئة وتنمية الجوانب المضيئة فيك”. وأضاف “إن التأمل بانتظام لمدة خمس عشرة دقيقة يومياً على سبيل المثال قبل النوم يمكن أن يكون مثمراً بشكل كبير في هذا الشأن، وربما تجد من الصعب في البداية تحديد الملامح السلبية في حياتك، لكن تتمخض المحاولة العاشرة عن نتائج ثرية، ولا تنس أبداً أن الجميع خطاؤون، والجيدون فقط هم من يواظبون على المحاولة”. وأرسل مانديلا هذا الخطاب، الذي تضمنه كتابه “محادثات مع نفسي”، إلى زوجته آنذاك ويني مانديلا، التي كانت قد سجنت لتوها في سجن كرونستاد. وفي ذلك الوقت، تم اعتقال كثير من أصدقاء مانديلا وتعرضوا للضرب والتعذيب والقتل بأبشع الطرق وأفظعها، ورغم ذلك لم يتحدث عن الأحقاد أو مشاعر الثأثر، على الأقل في خطاباته، وإنما اتخذ مساراً مغايراً تماماً، حيث قال: “إن الزنزانة مكان مثالي للتعرف على ذاتك والبحث بواقعية وانتظام في مجريات عقلك ومشاعرك، وعند الحكم على تقدمنا كأفراد نميل إلى التركيز على العوامل الخارجية مثل الوضع الاجتماعي والنفوذ والشهرة والثورة والمستوى التعليمي”. وأضاف “بالطبع هذه أمور مهمة في قياس النجاح في الأمور المادية ومفهومة تماماً إذا كرس الناس أنفسهم بصورة رئيسة لتحقيقها، لكن العوامل الداخلية ربما تكون أكثر أهمية في تقييم تطور الفرد ككائن بشري”. ولم تتجسد أبداً المخاوف الكامنة من اندلاع حرب دامية أو عنصرية في جنوب أفريقيا، لا سيما أن التمييز العنصري في ذلك الوقت تعرض لانتقادات عارمة في جزء كبير من العالم. وربما من الصعب أن نقول إن مانديلا دعا إلى فكرة مارتن لوثر كينج في مواجهة الفصل العنصري في الجنوب الأميركي بحب المضطهد حقيقة بدرجة تجعله يتخلى عن الأذى الذي يرتكبه بسبب الكره. لكن مفهوم مانديلا ارتكز بالتأكيد على رأب الصدوع على أسس نبذ العنف واحترام الآخر. روبرت ماركواند بوسطن ينشر بترتيب خاص مع خدمة “كريستيان ساينس مونيتور”
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©