الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

العيش في المستشفى

العيش في المستشفى
7 ديسمبر 2011 21:03
a.thani@live.com 1 حين أُحسّ بأيٍ من تلك الأعراض التي تتعلق بمرض القلب، فإنني أهرولُ مباشرة إلى قسم الطوارئ، ومن ثم سيقودني ذلك القسم إلى غياهب غرف المستشفى. صرتُ أعرفُ المراحل التي سأمرُّ بها في ذلك القسم حتى يصل الطبيب إلى قراره، فإما أن يطلق سراحي وأعود إلى البيت، أو أُستضاف عندهم ولأيام ستحدد لاحقاً. أيام يقالُ عنها عادة بأنها في “حكم الغيب”. أنواع الأبد الأولي، مجيء الطبيب، الفحوصات المبدئية، انتظار النتيجة ومن ثم انتظار الحكم، كل ذلك صار في مرتبة ما اعتدت عليه، وقد تختلف حالات الانتظار من مرة إلى أخرى. إذ أجيء مرة إلى المستشفى وأنا متعب جداً، ولم أكن قد نمت لأكثر من يومين. وفي هذه الحالة أغفو أثناء الانتظار، أما عندما أكون أقل تعباً فإنني أتحايل للجلوس، والحديث مع من يصاحبني، أو اللعب مع الممرضات، ولعل من أمتع تلك اللعب، لعبة أسميها لعبة السنارة، وهي لعبة بسيطة جداً، إلا أنها شيقة بالنسبة لي. فالممرضون يأتون في المرحلة الأولى كي يقيدون جسدك بالسرير عبر الإبر التي تفتح في جسدك أنفاقاً للأنابيب المربوطة والمعلقة بأجهزة عديدة تعلو رأسك. أجهزة تغذية وأجهزة تخطيط، وأجهزة تصوير، وسيتقدم الطب إلى الدرجة التي قد تعرض على المريض عوالم ما تحت جلده، ويدرب على دخولها، دخول هذا العالم الافتراضي الحقيقي. سيدخلها كمن يدخل مجهوله المعقد والشائك والذي نساه أو تنساه باستمرار، عصا الذاكرة ستضرب كل من لا يستمع لتعليمات الطب، ومثل هذه العلوم بقدر ما تقدم من ثواب، فإن عقابها المعنوي، أو خطاب ذاك العقاب يكاد يقترب من جحيم الخطاب الديني، وحقيقة ليس ذلك ببعيد عن الحقيقة، ولكن كل حقيقة مجاز. 2 في هذه المرة التي جئت فيها إلى الطوارئ، أُدخلت إلى جانب أو قسم جديد عليَّ، وبعد لحظات من إقامتي في إحدى غرف ذلك القسم، وبعد أن استطاعت عيوني أو صار بإمكانها، التجول كعادتها في النواحي التي يتيحها البصر، اكتشفت بأن هذا القسم من قبل كان مخصصاً للحالات الحرجة كالمتضررين من حوادث السير أو الحرائق أو أولئك الذين على وشك الموت، أو الذين ماتوا بالفعل حيث كان يتم التأكد في هذا القسم من موتهم لتحرير شهادة رسمية بذلك. ولقد حدث ذلك معي، بل إن ذلك حدث بالتحديد في السرير الذي على جواري الآن، وقبل ما يزيد بقليل عن سنة من الآن، هكذا قلت لنفسي، أو لمن كان يصاحبني، أو لإحدى الممرضات. فقبل ما يزيد عن سنة من الآن، وفي حدود الساعة السادسة صباحاً أيقظتني زوجتي لتقول بأن أمك ليست بحالة طبيعية، استيقظت وطلبنا الإسعاف، جاءت الإسعاف، واستدار المسعفون حولها، لم يقولوا لنا شيئاً، قالوا سننقلها إلى المستشفى، نقلوها، ووضعوها على ذلك السرير الذي يجاورني الآن، ومن ثم اجتمع عليها عدد كبير من المسعفين، وكنت مصلوباً حينها على ذلك الحائط أنتظر، أترى ذلك الحائط. ومن ثم خرج المسعفون جميعاً، وبينما كنت أتبع فلولهم، فإذا بشرطي أمامي يقول لي: ما علاقتك بالمريضة؟ قلت: أنا إبنها. قال: لك طولة العمر. فهمت، نعم فهمت الذي لا يمكن أن يُفهم أبداً، المستحيل على الفهم. ماذا فعلت؟ دخلت إلى الغرفة، أزحت الستارة، واقتربت من ذلك الجسد الذي أفل، ولقد كانت تلك هي المرة الأخيرة التي أرى فيها وجه أمي على الأرض. 3 قدم الطبيب، واستضفت هذه المرة أيضاً في إحدى غرف المستشفى، لقد حدث معي ذلك من قبل عدة مرات تكاد تتجاوز الآن الست، وربما كانت هذه هي المرة السابعة إذا لم تكن تُمارس على ذاكرتي خياناتها المعتادة، فقبل سبع سنوات تقريباً اكتشفت زوجتي انتفاخ قدمي، وكنت أيامها لا أنام جيداً ولا آكل جيداً ولا أشرب جيداً، وحتى حينما لاحظت اكتشاف زوجتي قللت من أهميته، فذلك بالتأكيد ناتج عن جلوسي الطويل على الكراسي، لكني سأذهب إلى المستشفى، أنا لا أحب المستشفيات، ولكني سأذهب على أية حال، وحين ذهبت، ورأى الطبيب حالتي قرر استضافتي وفوراً، وفي إحدى غرف العناية المركزة، وحين سألت عن سر كل هذا الانشغال بمجرد انتفاخ قدم قيل لي ولأول مرة بأنني مصاب بمرض قلبي يدعى القصور، وأن من سماته وعوارضه كذا وكذا، وإلى آخر كل تلك التحليلات التي سأكتشف لاحقاً بأنها ستنمو، حتى أن المرض نفسه سيأخذ في تفكيري شكل الشخصية، وأُعامله مع السنوات كرفيق. والذي أدهشني أنني لم أجزع أو أصدم أو أتأثر من اكتشاف الآخرين لذلك المرض في جسدي، حقاً كانت أسئلة الحياة والموت تراودني بوتيرة أعلى بعد ذلك الاكتشاف، ولكنها ليست بجديدة عليَّ، فهي أسئلة تنتابني منذ الطفولة، ولقد لاكت تفكيري ولاكها حتى أضحت على ما يبدو علكة جافة، غير هذا فإنني استسلمت، أو أحسست بسلام، لتلك الرعاية التي يدعيها ويمارسها المستشفى والأطباء والممرضون، خاصة الممرضات منهم على جسدي وحياتي، إنني يا جماعة الخير مفتقد للحنان، وأينما أجده آلف له، إحساس طفولي لم تبدده أبداً كل تلك السنوات والتجارب التي اجتاحت الروح، واستجابت في بعض تجلياتها لرغباتها، فحتى البروق ليس بإمكانها خياطة جروح الطفولة. 4 قال لي الشرطي: ما علاقتك بالمريضة؟ قلت: أنا إبنها. قال: لك طولة العمر. فعرفت بأن أمي حدث لها ما لا يحدث باستمرار، ما يحدث لأول مرة، ما لا يتكرر في حياة الفرد الإنساني حدث لها الموت، ما الذي لا يتكرر في الحياة؟ ثلاثة أشياء، يقول الحكيم: - الولادة والموت والفرد الإنساني. وبعد أن أعطاني الشرطي ورقة تثبت موتها، ذهبت إلى مركز الشرطة كي يصدق على تلك الورقة، وحين عُدت وجدتهم قد أخرجوا أمي من ذلك السرير، هذا الذي هو الآن على يميني، والتي ماتت عليه. لعلها ماتت في البيت وجيء بها هنا للتأكد، أو ماتت هنا على هذا السرير، هكذا قلت لنفسي، أو لمن كان يصاحبني، أو لإحدى الممرضات. حين عدت من مركز الشرطة، كانوا قد نقلوا أمي إلى مبنى غسيل الموتى، دخلت إلى ذلك المبنى البارد والذي يحوي طبقات من الأدراج الحديدية في كل درج صُفّت عدد من الجثث، إنه لمكتبة جثث، هكذا خطر في ذهني وأنا أبحث عن مسؤول المبنى، فإذا به حانوتي بجلابية مصرية: يا للعلاقة العجيبة بين الموت والفراعنة، ألاقي ذلك الشخص الذي يتحدث معي بعملية ليس لها علاقة بالموت أبداً، وقلت له أهلها القبليون في خورفكان يرفضون غسيلها هنا، إنهم يريدون أن يُغسِّلون ميتهم هناك، أن يُغسِّلونها هم، أخذ مني الأوراق التي تثبت موتها، وبلا شبهة جنائية، وأطلق سراح الجثة. 5 حين استفقت في إحدى غرف هذا المستشفى، كانت تلك هي المرة الأولى التي أقضي فيها ليل وأنام أو حتى لا أنام، في إحدى غرف مستشفى، فعمري لم أدخل مستشفى إلا لمعالجة سريعة، وهذه هي المرة الأولى التي أسكنه، وأسكن فيه. ومنذ تلك المرة تعددت المرات، ولا أدري هل ذلك يعود للسن الذي وصلته، أم أن المستشفى كمياه النيل من شربها مرة، كما يقال، يحدث ويشربها باستمرار. ولقد امتدت الفترات التي سكنت فيها المستشفى (أو هذا المستشفى بالتحديد، إذ أنني لم أتعامل مع مستشفى غيره)، من شهر ونصف أحياناً، وتلك أطول فترة، إلى ثلاثة أيام، وسواء امتدت الفترة أو قلّت فإنني كنت أتعامل مع نفسي، وكأنني في سفر ما، رحلة أجبرتني الظروف على القيام بها، وعليَّ التحلي بأخلاق الرحّالة، إذ ليس سيئاً كلياً العيش في مستشفى، السيء أن لا تستطيع العيش فيه، ألا يمكنك هو كمستشفى من التواطؤ مع العيش، أو ألا يمكنك قلقك على الحياة، أو تعتقد بأن العيش كمريض في المستشفى أقرب إلى اللاعيش، وهذه حقيقة، ولكن كيف بإمكانك تقبلها كي تعيش في مستشفى. سقراط لم يمت، سقراط يتلألأ في عين السؤال. 6 أُصيبت أمي بجلطة عنيفة أورثتها الشلل، كان ذلك قبل ثلاث سنوات من وفاتها، وحين نجحت في المجيء بها إلى أبوظبي ومعالجتها في هذا المستشفى (المستشفى الذي أرقد فيه الآن، أنا إبنها المصاب بجلطة في القلب) ظلّت أكثر من شهر في إحدى غرفه إلى أن نقلناها إلى البيت، وهناك وفّر لها المستشفى كل الأجهزة اللازمة لمثل حالتها من سرير وغيره، هذا غير زيارة منتظمة لها، وصرف دواء وحاجيات مثل هكذا مرضى وبشكل شهري. من هنا كان عليّ، وعلى الأقل مرة في الشهر الالتفاف من خلف المستشفى والمرور على مبنى غسيل الموتى، ومن ثم الاتجاه نحو القسم الخاص للعناية بمرضى المنازل. وفي أغلب الحالات كنت أمرُّ في الصباح، وأبداً أجد على المقاعد التي تقابل مبنى غسيل الموتى منتظرين لجثمان أحد الموتى، ولقد فكرت حقيقة ولعدة مرات، أن أجيء بكوب شاي “كرك” أو قهوة وأجلس على أحد المقاعد في هذه الساحة الخالية إلا من أشجار قليلة، خاصة قبيل الغروب كي أتأمل الحياة والموت، بل وأُسمِّي ذلك مقهى الموت. بالطبع لم أنفذ حلم اليقظة هذا، ووجدتني بعدها بشهور أقفُ مع المنتظرين كي أستلم جثة أمي من هذا المبنى الذي أبيضّ من التجلد. 7 في هذه المرة، وحينما استيقظت في صباح اليوم التالي، استطعت عند الظهيرة الوقوف عند النافذة. كانت النافذة تطلُّ على المسجد القريب من مبنى غسيل الموتى، ولاحظت عددا كبيرا من السيارات تقف أمام المسجد، ولأن من بينها سيارتي إسعاف قدرت بأنهم سيصلّون على موتى بعد انتهائهم من صلاة الظهر، وبالفعل وبعد أن انتهت الصلوات خرج المشيعون ومن ثم انطلقت سيارتي الإسعاف وخلفهما السيارات. كنت قد تعبت من الوقفة أمام النافذة، فعدت إلى السرير وارتميت عليه: ـ ... إنه الموت، هذا الذي لا يكف أبداً عن العمل.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©