السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

وجه أسمهان: نجمة القطب

وجه أسمهان: نجمة القطب
18 ديسمبر 2014 01:30
ما يشبه مخاضا عاتيا عاشته القاهرة في أوائل القرن العشرين وهي تنتظر بزوغ وجه ساحرة كوجه أسمهان، الوجه الذي كانت تفتقده العاصمة المصرية كي يكتمل صخب لحظتها التاريخية ويتحقق المعنى لما يعتمل فيها من حوادث مضطرمة ووقائع هادرة وتوتر شاهق التموج... إنها اللحظة الملتبسة والغامضة التي يحتاجها العصر ليكون رواية بوليسية عظيمة. هكذا بزغ وجه أسمهان في معترك الصخب والعنف كنجمة قطبية، فتحقق لليل المصري أن يشهد أعتى المسرحيات التراجيدية، الشبيهة بأعمال يوربيديس وأسخيلوس وسوفوكوليس... لم يكن لأنطولوجيا الغناء أن تأخذ منحاها المفزع والمرعب لولا أن حلّت فيه الرياح السحرية لأسمهان، فما الفزع إلا بداية الجمال كما يقول الشاعر ريلكه (كلمة ريلكه منحولة عن مقولة أفلاطون: الفزع هو الهدية الأولى للجمال). جمال أسمهان المريب، لم يكن خطيا وأفقيا على مقاس الجمال السائد لمطربات مصر آنئذ، بل كان جمالا عموديا كزلزال، تضمر براءتهُ وحشيةً وشراسةً ستكشف عنه ضراوةُ أسلوبِ حياتها فيما بعد... يُحسَب لهذا الوجه المثخن بالألق، أنْ خرج بمأساة نساء تاريخه من مدار محليّ ضيّق، إلى مدار كوني مفتوح ولانهائي... يكشف وجه أسمهان عن قوة استثنائية لأميرة جبل، تدحرجت من ذروة الملكات في أعالي جبل الدروز إلى حضيض الفقر المدقع في حي الفجالة بالقاهرة. الجمال الغريب والبؤس الفاحش يتّحدان مع ضراوة الحلم وشراهة الطموح، في هذا الوجه الخالد إلى صوتٍ مبتدؤهُ أزليةُ الماء ومنتهاهُ أبدية الماء (ليس محض اعتباط أن تولد أسمهان على متن باخرة مسافرة من تركيا إلى بيروت، كما ليس محض صدفة أن تموت غرقا في مياه ترعة في رأس البر، ترعة ساحل مدينة طلخا). ما يعزز رصيد الغرابة البهيجة لوجه أسمهان وسموق اسمها الغنائي، هو مأساة حياتها المتوترة والمتحولة والمرعبة، فالمرأة تعي تماما أن جمالها لا تحتكم سحريته إلى البراءة الخالصة، بل هو مشفوع بذكاء خارق. إنه ذكاء نساء نادرات دمغ أثرهن التاريخ الكوني، مثل كليوباتره وبلقيس والكاهنة ديهيا الخ.. ذكاء مأساوي لا تحمد عواقبه، ختم على حياتها بنهاية مفزعة، كأنما كانت تنتظرها وتحدس وشوكها، وهي لذلك كانت تفترس الحياة بشهوة ألف نمرة، افتراسا مبينا. لا يستحق وجه أسمهان أن يمهر طابع بريد القاهرة أو بيروت أو حلب وفقط، بل نقود هذه المدن المنتصبة كأقطاب ذات جاذبية مميتة. 1 - ما يقوله البحر لوجه أسمهان: مظفّرٌ وجهكِ بألقِ الحلم كأنما بياضه الدّامغ مصنوعٌ من زبد الماء. بحيرتان درزيتان (زمرديتان) تشعّان في عينيك النّاعستين. أمثقلتان بندى فجر الخليقة الأول؟ كأنّ زرقتهما ترتّل ظلمات المحيط. لا مستقر للتائه في بحر خضرتهما العاتية. هل قلت خضرة يا أسمهان؟ شعركِ يفوح بغابة سمر، سمر ليلة لانهائية، وثغرك نبيذ شيطان، وأما الخالة المزحزحة شماله بالأسفل فعلامة الكنز المفقود. منذورٌ وجهكِ للبرق. أميرةٌ أنت مجدُها عرْش الماء. أعلم تماما أن انصراف وجهكِ جهة اليمين، بسبب حضور طارئ لطائر غريب حطّ على النافذة استرعى انتباهك. استأثر بنظرتك الوارفة في هذه الصورة. تمتلكين نظرة ميدوزا أميرتي، وما يتحجّر لرؤيتكِ العاتية أثرٌ قمريٌّ، يوقظه صوتك الزمردي داخل حياة ثانية. صوتك الذي خلقتْ منه هزاراتُ الجنّة. ما من طائر لا يحلم بحنجرتك ملاذا، وطنا ومنفى. 2 - ما يقوله النهر لوجه أسمهان: ثمة شهقةُ نهرٍ يعتورُ صداها مسامعكِ. تحُولُ بينك وبين نقاء الرنة والنغمة الخالصة. طالما خِلْتِها شهقة كأس لا غير. كأسٌ عزَلتْكِ عن غبار اللحظة ودلّتْكِ على نجمة القطب التي تضيء شاطئ أغنيتك. ثمة حصانٌ أبيض شارد في خلاء أغنيتك. يقتفي صدى الخرير المتواري في ظلال الكلمات. هذا وجهكِ سرابُ غامضٌ تجلّى. صباحٌ فيروزيٌّ غسله ضباب الشهوة. غابة سديم من لهاث الغزلان. شرهٌ وجودكِ الأنيق العارف بسرّ «الأبدية التي تسكن لمح البرق». وجودكِ الضالعُ في أحزان البلور، كم بدّد بريق أصابعكِ غيمته في معترك الجنون. بالجنون تخطّيتِ حدود اللعبة وهزمتِ الوحش في ضاحية الوردة. هذه نظرتكِ المصوبة خارج عروض اللحظة، مشحوذةٌ بنسور ونمور وأيائل، تلسع النهار وتمهر الأفق بلازورد صقيل. ـ ليس عدلا أن يشيخ مثلك هسْهس الموت لعشيقته الحياة! 3 ـ ما تقوله الموسيقى لوجه أسمهان: لوجهك استعار (الموت) شكل طائر غريب، وظلّ يلوح لك بين الحين والآخر وكلما لاح لك، سدّدتِ له هذه النظرة التموزية الخالدة. كأنّه يذكركِ بموعد انصرافك قبل الأوان من السّهرة. للماء سيرة ضاريةُ تجلّل أنوثتك. بدءا بغرق الوجود في عينيك الزّرقاوين كما في تحديقتك الأوقيانوسية هذه. للماء هسيسٌ خفيّ في غنائك. ماءٌ شذّب الحجر المعدنيّ الذي يرتطم به صوتك قبل أن يندلع من أعشاب حنجرتك البلورية. ولم يكنْ غريبا أن يظفر بنهايتك بعد أن أغبطه ميلادك على صفحة تموجه. الماء توأمكِ يا أميرتي الضالة، مهووس بوجهك ما يزال يلهج بصوتك: في قعر النهر، في قعر البحيرة، في قعر البحر، وجهك يترقرق كحصى أبيض، فيما: عيناك تشدوان بنداء مجوسيّ للغرق البهيج. ومع ذلك أميرتي الضالة، لم يفلح الماء حتى الآن في أن يزهق نار وجودك العاتي. هذا الماء العاتي، هو أحد أسرار خلودك البهيج يا سلطانة الشجن في ذاكرة الموسيقى.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©