الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

ثقافة الغيلة

ثقافة الغيلة
18 ديسمبر 2014 01:30
في ظل الإقطاعية ظهر نظام الفروسية بأرقى صوره أيضاً. طبعاً كان ربيعة بن المكدم فارساً ويتحلى بصفات الفروسية المطلوبة، ولكنه كان فارساً عفوياً، تدرب على يد فرسان قبيلته، ولم يتعلم في القلعة أصول الفروسية وكيف يتعامل مع الناس، وكيف يقف إلى جانب المظلومين ويدافع عن (الليدي). كان الفارس الأوروبي يقضي فترة تقارب خمسة عشر عاماً، حتى يتخرج فارساً حقيقياً. كان شرط الفارس أن يكون ابن عائلة معروفة بسلوكها الأخلاقي الرفيع، وظل الأمر على هذا النحو حتى بعد الأسلحة النارية لفترة طويلة، ثم تسيبت الأمور وشاعت البلقنة في البلدان المتخلفة في القارات الثلاث: آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية. سلاح خطير في القرن الرابع عشر تغيّر كل شيء تقريباً، وتغيّرت الفروسية نفسها، بعد أن نقل العرب البارود إلى أوروبا من الصين، فاخترعت أوروبا السلاح الناري الذي طرد وبسرعة كبيرة السلاح الأبيض، وصارت الدورات التدريبية على السلاح الناري عبارة عن بضعة أشهر يقضيها المتطوع فيتخرج وهو يجيد إطلاق النار، من دون حاجة إلى تحديات المبارزة وبقية التقاليد الفروسية من شهود وتحكيم ووجود قاض.. هذا السلاح أخطر سلاح عرفته البشرية، فقد غيّر كل الأخلاق الفروسية السابقة واستبدلها بسلوك دنيء بعيد عن الفروسية. لم يعد هناك فارس، فلا حاجة إليه. يمكن لنذل أن يكمن على بعد خمسين أو خمسمئة أو ألف متر، وبرصاصة يردي أنبل الفرسان. إن ثقافة الغيلة حلت محل ثقافة الفروسية. في القرن التاسع عشر ظهر مصطلح جديد وهو البلقنة، أي الانقلابات العسكرية التي كانت تجري في البلقان للسيطرة على أكبر قسم من البلاد. وانتشرت البلقنة في القرن العشرين في ثلاث قارات هي آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية. فالمرء كان ينام على انقلاب عسكري هنا أو هناك ويستيقظ على انقلاب عسكري هنا أو هناك. وعندما يدرس الباحثون أسباب تخلف هذه البلدان «الانقلابية» لا يتريثون كثيراً عند تلك الانقلابات العسكرية المريعة، بل يركزون على الاقتصاد وسياسة الدولة وأجهزتها. والبلقنة لا تعني فقط انقلاباً عسكرياً، فقد تؤدي إلى تقسيم البلاد، وخلق مناطق نزاع، لا يحل بالتفاهم أو الاتفاقيات أو الحوار. ولكن هذا لا يعني أن عهد الفروسية كان نقياً بالكامل، كما لا يعني أن عهد الغيلة كان فاسداً بالكامل. فمسرحية شكسبير «مكبث» نموذج للغيلة في العهد الفروسي مع نبل ينتصر في النهاية. وهذه طريقة عامة لاستخدام التناقضات في تطوير الحدث، لكن مكبث مسرحية لها طريقتها الخاصة في تقديم نموذج للبلقنة التي ظهرت فيما بعد. من تاريخ بريطانياقصة مكبث وردت في تاريخ بريطانيا الذي أشرف عليه رفائيل هولينشيد. كل ما يهمنا من هذه القصة أن أحداثها وقعت في العهد الفروسي؛ عهد السلاح الأبيض. فولادة مكبث كانت في عام 1005م. وبعد خمسين عاماً لقي مصرعه، وهو على العرش. والليدي مكبث في تاريخ بريطانيا هي بنت خالته، وهي حفيدة ملكية أيضاً، ولم يذكر التاريخ دورها الكبير الذي ركز عليه شكسبير في دفع مكبث إلى العرش، واقتراف جريمة قتل قريبه الملك دنكان. وهذه هي المرة الأولى التي يكثر فيها شكسبير من الاعتماد على التاريخ، فقد أخذ بعض الأسماء كما هي، ولم يغيّر حرفاً منها، كما جرت العادة لديه ولدى معظم كتاب المسرح. ولم يغيّر أيضاً من المجرى العام للأحداث. فماذا فعل؟ ما فعله في هذه المسرحية كان بتأثير «مؤامرة البارود» فأي تمرد يعني البلقنة، وتعريض وحدة البلاد للخطر. وسنشير إلى أهم الوسائل الفنية التي استخدمها في هذه المسرحية. الوسائل الفنية هذه الوسائل هي: 1- الدخول إلى الأعماق النفسية وتحليل «شهوة السلطة». وهذه نقطة مكبث المركزية. 2- استخدم الدين الوثني الذي كان سائداً في معظم أرجاء بريطانيا في بداية القرن الحادي عشر. 3- استخدم شخصية هيكاتي من التراث اليوناني، ولكن لم يكن لها دور فني ملحوظ. 4- استقى عادة الصراع مع الآلهة من المسرح القديم، الذي أخذ يقف في وجه ما تفرضه الآلهة. ومنذ البداية نلاحظ الضابط يخبر الملك بأن قائده مكبث يحارب «ربة الحظ». 5- استخدم اللغة الرفيعة الراقية، كما هي العادة في المآسي اليونانية، لأنها كلها تدور بين شخصيات بلاطية، فحتى الخدم البلاطي يعتاد لغة راقية. ويكثر شكسبير من هذه اللغة التشويقية فيجعل القتلة الذين يستأجرهم مكبث يتكلمون اللغة الرفيعة. 6- استخدم التحريض الأنثوي. وهو التحريض المنسوب إلى المرأة، أو ما يوازيها في النصوص البابلية أو اليونانية أو المصرية أو المكسيكية... فالليدي مكبث ملحاحة في دفع مكبث إلى البلقنة، كأنها الخطيئة الأولى التي ارتكبتها حواء. كتبت هذه المسرحية بعد حادثة «مؤامرة البارود» ضد جيمس الأول. فشلت المؤامرة فتجمع الناس حول ملكهم. وصار هدفهم حماية الشرعية. وقد سار شكسبير في هذا الاتجاه، فهو يظهر دنكان ملكياً شرعياً حقيقياً. والشرعية هي أن يرث الملك ولي عهد مهيأ أصلاً للحكم. لا يجوز تولية أي شخص، عسكرياً كان مثل مكبث أو غير عسكري. الملك ابن بيئة وتربية. ولذلك عندما لم تجد أسبانيا في الأسرة المالكة من يستحق العرش كتبت إلى دول أوروبا لترشيح ملك يحكم أسبانيا، فحكمها فرنسي. العرش تربية وليس طموحاً طارئاً، أو شهوة من الشهوات الكثيرة التي تبرعم وتنمو في أعماق الأنا العدوانية. فالغرض إظهار الملك جيمس بأنه مثل دنكان: خادم الشعب والعامل من أجل بريطانيا الغنية الموحدة. التحليل النفسيإذا نحينا كل الشخصيات واقتصرنا على مكبث وحده، وجدنا أن السلاح والنجاح بداية الانقلابات العسكرية، ليس في القرن الحادي عشر، بل في كل القرون. وفي هذه الناحية يبلغ شكسبير قمة النجاح في تحليل نفسية الانقلابيين العسكريين. إن «البلقنة» التي سادت مسرح البلدان المتخلفة تخضع لمبضع شكسبير في شخصية مكبث قبل ظهور البلقنة بقرنين وأكثر. ولم يختر شخصية قريبة من عصره، بل عاد إلى القرون الغابرة جداً، كأنما يريد إثبات أن البلقنة شهوة سلطة لا تتأثر بالزمن. يستخدم شكسبير ثلاث ساحرات، كتجسيد لما يدور في نفس مكبث. فعندما تشتعل شهوة السلطة لا بد أن يكون موقدها (النفس) مهيأ تماماً. والساحرات صورة للموقد المهيأ الذي منه اندلعت نار البلقنة، فأوحت له الساحرة الأولى بأنه سيصير ملكاً، والثانية أنه لن يقتله رجل ولدته امرأة، وأنه لن يموت إلا إذا تحركت ومشت غابة برنام. هذه هي الخلفية النفسية للبلقنة: شهوة السلطة والاغترار بالقوة والإيمان بمناعة ضد القتل وخلود ضد الموت. الساحرات الثلاث كان شكسبير موفقاً في استخدام رموز من الدين القديم تجلى في الساحرات الثلاث، ولكنه أضاف مشهداً أدخل فيه الشخصية الميثولوجية الكبرى هيكاتي، وهي من أعظم الشخصيات الميثولوجية في الدين القديم، لكن دخولها هنا لم يؤثر في شيء، لا على مكبث ولا على غير مكبث، ولا ندري لماذا عمد شكسبير إلى استخدامها. ربما لأنه ترك الساحرات من غير تسمية، وخشي أن يتهم في دينه، فأدخل هيكاتي ليجعل الساحرات ينتمين إلى الدين القديم، كما فعل في عدة مسرحيات، ولكن هيكاتي في مكبث لم توظف التوظيف المناسب، كما جرى مع الشخصيات الميثولوجية في المسرحيات الأخرى. لكن مكبث مسرحية لا تنطبق ظاهرياً على البلقنة كل الانطباق، فالبلقنة تعقب حكماً أجنبياً، فيسرع العسكر إلى اقتسام السلطة وتوزيع البلاد حسب ميزان القوى. مكبث نمط أولي يقوم على دافع (شهوة السلطة) ووسيلة (استخدام السلاح للوصول) وأسلوب (استبدادي) وخاتمة (الموت). فمكبث نموذج نقيض للثورة. الثورة تعبير عن ظلم واقع، ومكبث تعبير عن شهوة سلطة. واغتصاب السلطة تمهيد أكيد لثورة شاملة. وليس من الضروري أن تكون البلقنة على يد الضباط الكبار، ففي زنجيبار السابقة قام رقيب أول بانقلاب، وعندما صوّره المراسلون وضع على رأسه قبعة ضابط، وأمسك بيده عصا المارشالية، لكنه نسي خلع شارة الرقيب الأول من على زنده الأيسر. فهناك أشكال وألوان للبلقنة، لكن الأغلب أن يكون القائد من رعاع الفلاحين، غير مثقف، ولا بد أن يكون تحت يديه سلاح يستخدمه في فرض إرادته، وبالسلاح والنجاح تتحقق البلقنة، بعد انطلاق «شهوة السلطة». إذن، ليس من الضروري أن يكون هناك حكم أجنبي، وليس من الضروري دائماً أن يكون من رعاع الفلاحين. هناك أشكال متنوعة، كثيرة، ومكبث أحد هذه الأشكال. شهوة السلطةبالطبع يختلف الوضع في هذه الأيام، فهناك أوضاع دولية لم تكن سائدة في أيام مكبث ولا في أيام شكسبير، فقد يكون العسكري عميلاً سرياً أو عميلاً علنياً، ويقوم بالانقلاب. وشكسبير لم يعن بكل هذا وإنما ركز أمره على القاع النفسي الذي لخصنا أهم مظاهره. أما المظاهر العملية فلا يختلف مكبث عن غيره، فهو لم يعد يثق بأحد، وعمد إلى التخلص حتى من أقرب أصدقائه العسكريين (بانكو). لم يغفل شكسبير عن المسلك العملي لكل عسكري انقلابي، لكن هذا لم يكن يعنيه كثيراً. إن هذا المسلك يعمل بصورة ميكانيكية عند الجميع. أما القاع النفسي للبلقنة، شهوة السلطة، فربما كان شكسبير أول من حللها بعمق. فشهوة السلطة خطوة أولى نحو انحدار العمل البشري إلى الدناءة. فتقف هذه الشهوة في وجه أي ثقافة نبيلة؛ ثقافة مستنيرة؛ ثقافة القيم المطلقة لا القيم الذاتية، ضد التربية الملكية المتوارثة، بل هي انفلات من كل تربية. كما تقف في وجه العلاقة السليمة بين الذات والأخر، فيشك قائد الانقلاب حتى بأخيه، وإن لزم يبعده بطريقة أو بأخرى، أو ينفيه صراحة أو يسجنه، أو يقتله. شهوة السلطة دافع، والسلاح وسيلة، والاستبداد أسلوب والفشل خاتمة. والفشل مصير كل الانقلابيين، وأي نجاح للانقلابيين يعني التخلف والدمار للبلاد. وكنا نتوقع أن يستحضر شكسبير ربات الانتقام اليونانيات Erinyes بعد أن يرتكب جريمته، ليطاردنه ليلاً ونهاراً، ولكنه جعل الحلم المزعج بديلاً. ولو خصص للإيرينات اليونانية مشهداً بدلاً من هيكاتي، لأبدع من دون شك. وبالطبع لا تصلح اليومينيدات Eumenides هنا؛ لأن الإيرينات (المرعبات) ينتقمن ممن اقترف جريمة عن سابق تصوّر وتصميم، بينما اليومينيدات (الشفوقات) يلاحقن من اقترف خطأ نتيجة تنفيذ واجب. ومهما كانت المعالجة سريعة تبقى أفضل من إقحام ربة المفارق هيكاتي، في مشهد لا تأثير له على الأحداث. لولا الليدي مكبث لركز شكسبير على شخصية مكبث وحدها، ولكن الاعتقاد الشائع أن حواء وراء كل خطيئة جعله يركز على الليدي، فظهرت شخصية من أهم الشخصيات المسرحية، تضاهي الشخصيات اليونانية: هيكوبيا وإلكترا وكليتنمنسترا...
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©