الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

فضّة النون.. صرختها المكتومة

فضّة النون.. صرختها المكتومة
18 ديسمبر 2014 01:30
ما الذي يمكن أن تفعله صورة تستوي فجأة على خط القلب، وخطّ الضوء الواقف على مسافة بهجة متوارية؟ أزعم أن بإمكانها أن تنسف عتمة كاملة، عتمة من ذلك الطراز الذي لا يعرف سطوته المرعبة إلا النساء.. ذلك أن العتمة، على كثرتها وحلكتها، لا تستطيع أن تهزم فضة قررت عن سابق إصرار وتصميم أن تدوخ في الخيوط.. ولا تستطيع أن تعلّق عينين باهرتين على مشنقة الصمت من دون أن يرفَّ أو يتمرّد خيط.. كما أن الخيوط لا تملك في النهاية ذاكرتها، بل ذاكرة الأصابع التي غزلتها، ثم الأصابع التي اختارتها، هي بعينها، لكي تلفّها على الوجه مانحة إياها دلالات جديدة، معلنةً إياها ضد الغياب. الفضة وما أدراك ما الفضة! هي لمسة الروح الباهرة في انْجِدالها أو التفافها على الوجه المغيّب، وملامحه المتوارية.. هي السعي الحثيث للبوح عبر لغة جديدة، بشكل مختلف، بأداة مختلفة تنتمي إلى المكان فعلاً وممارسة.. هي سردٌ للاقتران بين الماضي والراهن عبر حالة من اللعب التصويري المقترن بالتخفّي والممعن في الإيهام.. إنها اللعبة الساحرة التي تتقن الصورة ممارستها بلا كلل.. لعبة التجلي والخفاء.. تخفي الوجه فيما هي تجلّي مناجم الفرح المكبوت، تفتحها على آخرها للمريدين والعشاق الراغبين في العيش بين مساقط المعنى في صورة تمدّنا بطاقة الصمت الذي يفرح القلب، ويمنح الروح قدرة الطيران في باحاتها الخلفية... ربما يقول قائل إن الفكرة لا الخيوط هي صاحبة البطولة الكاسحة هنا.. صحيح لكن استخدام هذا النوع من الخيوط المرتبط بالمكان وذاكرته، والمرأة وتاريخها العتيق، منح الفكرة قوة إضافية.. هل أقول إنه جعل الصرخة المكتومة صرخة تاريخية؟! فخيوط «التلّي» التي كانت المرأة الإماراتية تغزل بها حضورها الحياتي في المجتمع تمتلك من الأبعاد الرمزية والغنى الدلالي ما يجعلها قادرة على القول بإن النساء يعزفن على كل حال؛ فأصابعهنّ عزف على خيط.. وصورتهنّ عزف على العين. على مهل بُنيتْ هذه الصورة. بهدوء يستدعي الأنموذج النَّمْليّ في دأبه وإصراره على تحقيق الهدف. بحنكة الجدّات والأمهات اللواتي راوَدْنَ الحياة عن نفسها لكي يحظين منها بما يعين على تحصيل قوت الأبدان والأرواح. هكذا، بضربة حب يمكن للحياة أن تستجيب، وتعلن الخضوع بين أيدي النساء، اللواتي ينفخن الروح في كل مكان يحللن فيه أو يعدن صياغة الأشياء لتبدو أكثر ألفة. هنّ القادرات على أن يسرقن، في غفلة عشقية واحدة، من الصبابات التي يخفينها وراء الأصابع المحنّاة بالشغف والشظف أيضاً، ما تنوء به العصبة أولي البأس. بأسهنّ مع الفنّ شديد، مع فن تدبير العيش على وجه الدقة، ذلك الذي أتاح لهنّ في الزمن الصعب أن يصنعنَ لأرواحهنّ وأرواح أسرهنّ أسرّة من راحة كانت عزيزة المنال، وأن يكسين العراء لحماً وعظاماً.. ففي العراء الصحراوي الواسع لم تكن الخيمة إلا حيلة النساء، كيدهنّ الجميل، لاختراع البيت.. أما ما في الخيمة، وما حولها، وما بين يديها، وما على جدرانها من مغزولات المغازل الأنثوية فليس سوى ثمار حكمة الغازلات، العاشقات، المتواريات خلف خيوط مضفورة بالوجع العميق.. وبونّات تؤجج الشوق إلى غائب منتظر أو تصنع للحنين مسارب تتحايل على الفقد. حول الخيوط لا تدور الصورة.. بل حول الأصابع المفكّرة.. الأصابع التي تذهب في الفتنة إلى آخرها ثم تعود خاوية إلا من حضور النساء أو استحضارهنّ من الغياب! الأصابع المحمولة على رغبة عاتية في سحب الأحلام من آذانها لكي تتجسد في المكان والزمان، في الحكي والصمت، في الليالي المحمولة على الخيال وفي الصورة التي تسعى على محموليْن أو رمزيْن، تراثي/ خيط الغَزْل، وفني/ كاميرا، يراوحان بين ظل/ أسود، وضوء/ فضي، لتروي الصورة أو تبوح بما كانت عليه الأنثى في هذه الأرض ذات عزلة... الأنثى المسكونة بالضرورة الوجودية التي تغزل الحياة رغم كل قسوتها، وتفترع سبلاً شتى لكي تقول روحها على هواها.. على هوى «كاجوجة» أدارها الزمن العتيق فأدار معها الأرواح في أتون ألم عتيق.. لتأتي حفيدة ما، في القرن الواحد والعشرين، اسمها هند الأشرم الفلاسي، فتستعيد اللحظة الغاربة، وتشرف على روحها المغزولة بوجع الأنثى، المسكونة بعذاباتها الطويلة، تدوزن الصورة، تؤطر المشهد، وتلتقط «صرختها المكبوتة»... هامش «صرخة مكبوتة» هو عنوان هذه الصورة للفنانة هند الأشرم الفلاسي.. شاركت بها في مسابقة الإمارات للتصوير الفوتوغرافي عام 2007، وحصلت على الجائزة الأولى في فرع المسابقة الرئيسي. أقيمت المسابقة التي تنظمها هيئة أبوظبي للسياحة والثقافة بشكل سنوي تحت شعار: «صورتنا .. هويتنا».
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©