الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

سجن الذاكرات المنهكة وسط جغرافيا الخرائب

سجن الذاكرات المنهكة وسط جغرافيا الخرائب
17 ديسمبر 2014 00:19
إبراهيم الملا (دبي) يفتح فيلم «مردان» مشهديته العامة بزوايا مفتوحة على الطبيعة ومكوناتها، حيث ينمو الجمال بتدرج في البراري الخضراء، ويجري مع الأنهار المتدافعة وسط جبال يصدح فيها الهواء البارد قبيل حلول فصل الشتاء القارس، ولكن هذه الزوايا المشرعة سرعان ما تضيق، عندما تنقل الكاميرا ملامح الشخصيات المتأزمة في الفيلم، وكأن ثمة تضادا وتناقضا وإشكاليات غامضة بين المكان المحتفل بفتنته، وبين البشر المنتمين لهذا المكان، حيث يحتفظ كل فرد بأسراره وحكاياته المغلقة في كنف العزلة الاضطرارية والصمت المكتمل. فيلم «مردان» عرض مساء أمس الأول، ضمن برنامج «ليالٍ عربية» في الدورة 11 من مهرجان دبي السينمائي الدولي، وهو من إخراج باتين قوبادي شقيق المخرج الشهير بهمن قوبادي، وسبق لباتين تنفيذ مجموعة من الأفلام الروائية القصيرة، منها «الرسام» 1997 و»اليوم بالتأكيد» 2002 و«الجندي المكسور» 2004، وفاز فيلمه: «اسأل الريح» بجائزة الدب الكريستالي في مهرجان برلين السينمائي عام 2010، وفيلم «مردان» هو عمله الروائي الطويل الأول، وتم تصويره في إقليم كردستان العراق. منطقة حسّية تتأرجح حكاية الفيلم في تلك المنطقة الحسّية الداكنة، التي تكون فيها كل بارقة ضوء بحاجة لانتباه مضاعف حتى لا تنفلت من قبضة الإيهام بأن ثمة مخرجا آمنا للنفوس الحائرة في هذا السجن الواسع من الذاكرات المنهكة والخبرات المؤلمة وسط جغرافيا وعرة ومسكونة بخرائب غير مرئية. وتبدو شخصية (مردان) القائد في قوات البشمركة (الممثل الكردي حسين حسن) هي البؤرة المركزية لكل المسارات والأحداث التي تسعى للتخلص من هيمنة هذه الشخصية، ولكنها سرعان ما تعود إليها، مثلما تعود فراشات الليل إلى نقطة الضوء المحرقة. يحقق مردان في الحوادث المتعلقة بتهريب النفط والمخدرات قرب الحدود المتاخمة لتركيا، لكن اختفاء عامل المنجم (مراد) في البلدة سوف يعيد إليه الذكريات السوداء التي طالما هرب منها، تلك الذكريات التي تعود إلى طفولته البعيدة، عندما فشل في إنقاذ شقيقه الأصغر من الغرق في النهر، ما جعله أسيرا لعقد ذنب غائرة في أعماقه، ويصعب الفكاك منها، يحاول مردان مساعدة (ليلى) زوجة (مراد) ومعها ابنها الصغير حتى يرمم جانبا من عذاباته الذاتية، فيأخذهما في رحلة بحث مرهقة وتطهّرية في ذات الوقت، فيأخذهم أولاً إلى المكان الذي يعمل به (مراد)، ثم يرتحل إلى المناطق الحدودية للتفتيش عن اسمه في سجل المسافرين، ولكن كل هذه المحاولات تبوء بالفشل، ويترك ليلى وابنها عند أشخاص يعرفهم لحين اكتشاف سر اختفاء زوجها. وفي مشهد منفصل، ضمن أسلوب القطع المقصود لتراتبية الزمن ـ والذي لجأ إليه المخرج أكثر في مرة ونجح في توظيفه ـ نرى (كرزان) الذي يصنع الشواهد الرخامية في مقبرة البلدة وهو يقود سيارته ليلا لمقابلة عشيقته السرية، وعند انشغاله بمحادثتها في الهاتف النقال يصطدم بجسم غريب، وبعد ترجّله من السيارة يكتشف إنه أودى بحياة شخص غريب كان عابرا بالمصادفة في هذا المكان المظلم، تنتاب (كرزان) حالة شديدة من الخوف والندم، ويضطر لأخذ الجثة إلى منزل زوجته التي اعتاد خيانتها، ويقوم بغسل الجثة وتكفينها والصلاة عليها ليدفنها بعد ذلك في مكان مجهول. تشعبات سردية ومع عدة تنويعات وتشعبات سردية تتناوب فيها الكاميرا على نقل الانتكاسات المتلاحقة والأحاسيس المشتركة بين (مردان) و(كرزان)، يكشف لنا الفيلم عن مشاهد أخرى تفضح أخطاءهما وخطاياهما وممارستهما المشبوهة ـ خيانة كرزان لزوجته، وأخذ مردان للرشاوي من مهربي النفط إلى تركيا ـ ليأخذنا القطع الزمني إلى الوراء قليلا وفي مسار معاكس، نرى فيه الشخص المفقود (مراد) يستقل سيارة (مردان) لإيصاله، وفي الطريق يصاب مردان بنوبة صرع وتشنج عصبي فيصطدم بصخرة كبيرة ليستفيق بعد هذه الحادثة ويرى كرزان مغمياً عليه وشبه ميت فينقله إلى جانب الطريق ويترك المكان، وكأن شيئا لم يحدث. وهذه الإضاءة المشهدية على حقيقة اختفاء مراد سوف تعيد ترتيب الأحداث مجددا، وكأننا نعود إلى ذات الحلقة الجهنمية الضاغطة التي تضع الشخصيات الرئيسية هنا في موضع الإدانة، وانتظار عقوبة القانون أو العقوبة الإلهية في أي وقت. يحاول مردان وكرزان ـ اللذان يتبادلان هنا موقع الجاني والضحية ـ البحث عن وسيلة تعويضية للخلاص والتطهر، فيعتقل مردان طريدته الجاهزة كرزان، ولكنه يطلق سراحه في آخر لحظه ويوصيه بضرورة مغادرة البلدة لأن تهمة التستر على الجريمة تصل مدة عقوبتها إلى عشرين عاما في السجن، وفي خطوة تطهّرية تالية يقوم مردان بالتصرف في أموال الرشى التي أخذها من المهربين ليوزعها على المحتاجين والفقراء في البلدة ومن ضمنهم عائلة مراد الذي يعيد حفر قبره البعيد وسط الجبال ويصطحبه معه في سيارته نحو رحلة ستكون هي خاتمة كل العذابات التي مرّ بها في حياته المضطربة، يتصل مردان بليلى، ويقول لها إن مراد في السيارة وإنه لا يستطيع التحدث إليها، وفي مشهد النهاية المروع نرى مردان مندفعا بعربته نحو ذات النهر الذي غرق فيه شقيقه الأصغر، ليدفن في هذه المياه الجارفة ذلك الألم الثقيل، والوجع الشخصي الذي لم يفلح في إسكات عوائه حتى آخر لحظة من حياته البائسة. استطاع مخرج فيلم «مردان» أن يحاكي الاضطرابات الداخلية للشخصيات بتوليف مشاهد ذات إيقاع متمهل وبكادرات بصرية مصاغة بدقة تنقل تشوهات النفس والملامح الذاوية في فراغ الماضي، ومستثمرا أيضا العناصر ذات الإسقاطات الموحية والدلالات الرمزية، مثل الفراشات الليلية التي كان يحتفظ بها مردان في مكتبه ويحبسها في زجاجات مغلقة، وكانت هذه الفراشات حاضرة في أغلب اللقطات المعبرة عن العزلة والتوحد والمكاشفة الجّوانية أمام الأخطاء والآثام، وكأن المخرج أراد الزجّ بنا في فضاء المعادل الموضوعي والبصري للبشر الذين اختاروا طوعا السقوط في نيران التجربة الأخيرة والمحرقة، لأنهم فقدوا ومنذ البداية بوصلة ضمائرهم في فوضى الحواسّ المحتشدة بالغرائز والجشع والأنانية القصوى.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©