الثلاثاء 23 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الغيث بعد طول جفاف

الغيث بعد طول جفاف
23 نوفمبر 2012
نورا محمد (القاهرة) - أحلامي وطموحاتي كلها تتركز في جلباب جديد وقلم رصاص وممحاة وحقيبة من القماش القديم وحذاء، فقد اقترب العام الدراسي ولم يبق من الإجازة الصيفية إلا أقل من أسبوعين، وبعد أن انقضيا لم يتحقق من ذلك إلا القلم الرصاص وتوجهت الى المدرسة بحذاء وجلباب قديمين وبلا حقيبة وكانت النتيجة أن تعرضت الكتب للتلف سريعا بسبب الحرارة والرطوبة وهذا يتكرر كل عام. قبيل المرحلة الإعدادية ازداد حجم طموحاتي قيلا وتمنيت قميصا وبنطالا وحقيبة من البلاستيك وقلما من النوع الحبر الذي كان سائدا حينذاك، وجوربا وحذاء ومنديلا من القماش وقد تحققت بعض هذه الأمنيات فكان عندي هذه الأشياء لكن كلها فرادى بلا بديل ولابد أن أستخدمها هي نفسها صيفا وشتاء وجدتني أذهب الى المدرسة كل يوم بنفس الملابس بلا تغيير فلم يكن عندي بديل فتظل الملابس المتسخة طوال الأسبوع لأنه لا يمكن تنظيفها وإلا فإنها لن تجف، خاصة في الشتاء وهذا معناه أنني لن أذهب الى المدرسة. لم يكن ذلك خافيا على زملائي ولاحظوه جميعا لكنهم لم يجرحوا مشاعري بشكل مباشر ولم يتحدثوا أمامي وإنما من وراء ظهري، وبالطبع يصلني الكلام ويحز في نفسي أن يتحول الفقر الى مادة للسخرية والتندر وكأنني مذنب أرتكب جريمة أو كأنني بخيل يكنز المال ولا يريد أن ينفق منه خشية أن ينقص وهم لا يعلمون أنني وأسرتي لا نملك من حطام الدنيا شيئا ونعيش على هامش الحياة. انهم لا يعلمون أنني منذ كنت في السادسة من عمري وانا أخرج للعمل في أعمال صعبة وقاسية ولم أعش الطفولة مثلهم وأخوتي وأخواتي مثلي نعمل هنا وهناك من أجل توفير لقمة العيش وأجرنا لا يذكر وعملنا أقرب الى السخرة لكن الحاجة تجعلنا نقبل ونحن نعلم أننا نتعرض لظلم كبير وللإهانة والضرب ونتحمل فوق ما نطيق. عند المرحلة الثانوية كبرت أحلامي وزاد عليها أنني أريد ساعة يد ونظارة حتى من البلاستيك الرديء، وقد انتقلت الى العمل عند أحد متعهدي المقاصف أرسلني أبي اليه فقد كانت بينهما صداقة قديمة، استقبلني الرجل بترحاب كدت أحسد نفسي عليه فلم أتعامل بمثله من قبل وضرب لي موعدا في اليوم التالي لنلتقي ونحدد أسلوب العمل، وقضيت ليلتي أحلم بتحقيق كل الأحلام والطموحات التي تقف كلها عند المستحيل، وأتخيل نفسي وأنا أرتدي الملابس الجديدة ومنها ما هو للصيف ومنها ما هو للشتاء، ومعصمي يتزين بساعة أنيقة، وفوق عيني نظارة الشمس السوداء. في الصباح توجهت اليه قبل الموعد المحدد وأخبرني بأنني سأعمل بائعا للمشروبات المثلجة والمياه الغازية في مستشفى، حيث أحمل على كتفي كمية كبيرة من الزجاجات أجوب بها بين الغرف وأصعد الى الطوابق العليا على السلم حيث لا يوجد إلا مصعد واحد مخصص للمرضى حسب العبارة المكتوبة عليه، وفي أغلب الأحوال يكون معطلا، العمل كان بالنسبة لي فرصة بكل المقاييس رغم أنني صدمت من طبيعته ومكانه وقد كنت محقا خاصة عندما حملت الزجاجات الثقيلة وتجولت بها بحثا عن الزبائن أو توصيل الطلبات لهم حيثما كانوا في أماكنهم ففي الغالب أجد أشخاصا يتألمون من المرض أو ذويهم بجانبهم اكثر ألما والجميع هنا على اي حال ليسوا في نزهة كي يتناولوا المشروبات او غيرها المهم أجدني في نهاية اليوم أخرج خالي الوفاض بمبيعات لا تذكر ولا عائد من ورائها كل ما أجنيه هو التعب من كثرة التجوال وبلا فائدة فأنام مثل الموتى لأعاود الكرة في اليوم التالي وبنفس النتيجة. لم يكن من المنطقي أن استمر في العمل بعد أسبوع على هذا المنوال حيث لم أحقق من ورائه أي عائد، ولولا أن الرجل الذي كنت أعمل عنده يتولى تقديم وجبة غداء من «الفول» كل يوم ما وجدت ما أقتات به، لكن النتيجة أنني أضعت جهدي ووقتي بلا فائدة وقد اعتذرت له وتركت العمل ورحلت أبحث عن عمل آخر في الصيف قبل أن يولي لألحق ما تبقى منه كي أشتري بعض الملابس اللازمة للمدرسة وطرقت أبواب كل الأشخاص الذين أعرفهم وفي النهاية لم أجد إلا الوعود والتسويف من دون أن يتحقق منها شيء وجميعهم بعد ذلك ساقوا الأعذار سواء كانت حقيقية أو وهمية وخرجت من كل المحاولات صفر اليدين. في الجامعة زادت طموحاتي وأحلامي ومازالت أبواب العمل مغلقة أمامي وحتى الآن وقد بلغت الثامنة عشرة لم تتحقق لي أمنية واحدة ولم تتحسن أحوال أسرتي ومازلت أرتدي قميصا واحدا وبنطالا واحدا أيضا طوال العام أتمسك بالأمل فيما بعد التخرج والحصول على وظيفة جيدة فأنا في كلية الحقوق وأتعلق بكل أمل إما أن أعمل معيدا في الجامعة او التحق بإحدى الهيئات القضائية وتلك كلها وظائف مهمة أنتظر اليوم الذي أنتهي فيه من الدراسة وأتحمل الظروف والأيام وهي تمضي. بعدما تخرجت لم يتح لي العمل او الالتحاق بأي وظيفة من كل هذه الوظائف التي فاز بها آخرون لست أقل منهم في شيء إلا أنني ليس لدي «واسطة» او شخصية كبيرة تدعمني واستمر ضياع واستنزاف أمنياتي وجهودي وعدت أبحث عن أي عمل متواضع وأنا أشعر بالهزيمة والانكسار والتحقت بمهنة نادل أحمل المشروبات للزبائن وأتحمل سخافاتهم وهم يتعاملون معي مثل الخادم يأمرون فأطيع ولم تكن أمامي اختيارات أخرى. ووجدت فرصة جيدة للتدريب على المحاماة في مكتب أحد المحامين لكن لم تكن الحال أفضل من العمل في كل المهن الحرة الأخرى، فالرجل لم يكن ايضا مختلفا وإنما يستغل ظروفي ويمن عليّ بأنه يقبل ان أتدرب لديه وبالطبع بلا أي مقابل ووددت ألا تضيع الفرصة وان أصبر الى ان تتحسن الظروف إما ان أحصل على أجر او أستطيع ان أفتتح مكتبا خاصا بي، وبعد عدة اشهر لم يتحقق هذا ولا ذاك وكان لابد ان أبحث عن عمل إضافي بجانب ذلك لأنفق على نفسي ووجدت فرصة في مطعم أغسل الاطباق ورضيت بها من دون ان يعلم زملائي فيه بأنني حاصل على مؤهل عال وأعمل محاميا بلا أجر وقد وقع المحذور وعرفوا ذلك وكنت في موقف محرج واضطررت الى ترك هذا العمل رغم انه مربح نسبيا. مازلت أبحث في الدائرة الضيقة عن عمل حرفي رغم حصولي على مؤهل حقوقي يمكن العمل به في أعلى المناصب ولكن لأصحاب السلطة والحظوة ووجدت عملا من نفس الأعمال التي أبحث عنها كان في شركة خاصة أقدم الشاي والقهوة والمشروبات للعملاء والموظفين، ورضيت به وقد كنت أحصل على أجر معقول حيث إن صاحب الشركة رجل طيب يقدر العمل والجهد ويتعامل مع الموظفين جميعا بروح الإنسانية ولا يتكبر أبدا رغم ثرائه وجدت فيه شخصية مختلفة عن جميع الذين عملت لديهم وقد أحاطني برعايته خاصة بعد أن عرف ظروفي امتن علي بالعطايا والهدايا لي ولأفراد أسرتي حتى كدت أترك عملي الأساسي بمكتب المحاماة وأتفرغ للعمل معه. المرة الوحيدة التي استشاط مني غضبا فيها عندما تجرأت وشاركت بالرأي في نقاش بينه وبين محامي الشركة حول الموقف القانوني في إحدى القضايا نهرني بشدة وهو يستنكر تدخلي فيما لا يعنيني فانسحبت من أمامه في هدوء معتذرا لكن لم أستطع أن أمسك دموعي التي سالت رغم أنفي غزيرة فشلت في إيقافها وجدتها فرصة لأبكي ايضا وأخفف عن نفسي ما يدور بداخلي الى أن استدعاني ومازلت الدموع وآثرها في عيني أراد أن يعتذر لي عن تعامله معي بصوت عال خاصة بعد ان تأكد أن الرأي الذي قلته هو الصواب من الناحية القانونية ثم سألني من أين لي بهذه الخبرة فقلت له إنني درست القانون وأعمل محاميا تحت التمرين. كانت المفاجأة السارة الأولى عندما قرر الرجل تعييني مستشارا قانونيا للشركة ونال ثقتي وأنا أحقق نجاحات تلو الأخرى في القضايا وأغدق على بمرتب مجز لا أحلم به ولا يحصل عليه أي موظف في أي موقع، وللمرة الأولى في حياتي أرتدي الملابس الفاخرة وأشتري نظارة من الماركات المشهورة وحقيبة غالية الثمن وخصص لي سيارة وسائقا لسرعة التنقل بين المحاكم والحضور الى العمل وقد تغيرت بذلك حياة كل أفراد أسرتي فقد نالهم النصيب الأكبر من هذا النعيم. وكما كان الحرمان بلا حدود جاء الغيث من عند الله بلا حدود وحدث ما لم يكن أبدا في إطار الأحلام لا في النوم ولا في اليقظة ولا في الخيالات ولا الوهم، فقد وجدت الرجل يعرض علي تزويجي من ابنته الوحيدة المفاجأة عقدت لساني فلم تصدق أذناي ما اسمع ولم يستوعب تفكيري الكلمات كنت مثل الطفل الذي يتعلم الحبو ويرى نفسه فجأة يجري، فما يحدث خارج حدود المنطق والمعقول فقد يحدث في الأفلام والخيال البعيد عن الواقع أو يأتي من سيناريوهات تعتمد على الصدفة وليس بالضرورة أن تكون مبنية على العقل. تم الزواج من الفتاة الجميلة وحيدة أبيها الذي ترك لي إدارة الشركة بالكامل بل قام بتقسيمها مناصفة بيني وبين ابنته التي هي زوجتي وأصبحت واحدا من كبار رجال الأعمال لكن كان المهم عندي ان أحمل الرجل وابنته فوق رأسي وارد له الجميل وبالطبع لن استطيع أن أكافئه بمثل ما اعطاني مهما فعلت لكنني أحاول قدر جهدي. كأن طموحاتي في الصغر كانت أحلاما وتحقق أكثر منها في الكبر فلا تفقدوا الأمل مهما طال سواد الليل فالأمنيات ليست دائما مستحيلة او ممنوعة، والغيث آت لا محالة بعد طول جفاف.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©