الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

وجه إدْغار آلن بّو.. الغراب الإسكتلندي

وجه إدْغار آلن بّو.. الغراب الإسكتلندي
10 ديسمبر 2015 13:21
إسماعيل غزالي (1) حزمةٌ خشنةٌ من الجمال الصّارم تدلقها نظرةُ إدغار آلن بو الباردة. برودٌ وإنْ كان يوهم بجليدٍ قطبيّ فخلفه يتوارى سعيرُ البركان. الوجه الشارد الذي يتجلل به إدغار ألن بو، ينضح بلوثة حمّى غير محمودة العواقب. هذا الانطباع السيئ، توحي به جبهته العريضة، المنذورة لبلل الرشح الهذياني. أما الأنف الحاد، فيتقدم بكتلة الوجه الارتيابية، جهة خطب ما، مع الاحتفاظ برباطة جأش ولو على سبيل الوهم. علّة المرض التي تخيّم على وجه «بو»، إيحائية بشكل ملازم، ربما مصدرها اعتلال أمه التي أنجبته وهي مسلولة (عن أمه «إليزابيث أرلوند»، الممثلة المسرحية ورث مس الفن والبؤس معا). لا يزهر اليتم في ملامح إدغار، كقسطل معضلة ما، أو كغبار مأساة، فالرجل منذور للعزلة الأبدية، يتناغم مع قسوة وحدتها. ما يشطر هذه الملامح، أكثر، هي لعبة انصراف النساء اللواتي ضمَّخنه بسديم أنوثتهن وأريج حدائقهن، بدءا بأمه إليزابيث ومربيته فرانسيس ألن وهيلانة جين أم صديقه ثم زوجته فيرجينيا... ثمة توهج سحري يرتكن خلف شحوب إدغار آل بو، توهجٌ يضاعف من ارتيابية الوجه التي لا تنحو بأثر الفزع إلى توحشٍ فرانكشتاينيٍّ، بل تقذف به إلى جهة الهذيان المضطرم والجنون المحتدم. (2) أيّ سهرة، تأنقتَ لها بهذه البدلة الفاخرة؟!؟ تبدو كما لو تلبسُ حلّة نادلٍ على أهبة الخروج إلى صالة الموْتى. أجل يا نادل الموتى، انظرْ إلى ربطة عنقكَ الشبيهة بجثة عقعق. انظرْ إلى البياض المشعّ من قميصك كما لو غسلته امرأة إيرلندية بصابون إنجليزي في بحيْرة إسكتلندية. انظرْ إلى السواد الفاحم الذي يتناغم بين شَعرك والبدلة الغدافية. تبدو بهيئة موسيقار خذلته فرقة العزْف. تبدو بهيئة شابّ دمث تُخفي أناقته أفدح الشرور. تماما هدوءك الكاسحُ هو هدوءُ الجريمة اللامتوقعة أيّها القاتل المحترفُ. في أيّ جيبٍ تدسّ قصيدة الغراب التي صارت تميمتك؟ ولم شاربك مصقولٌ بكل هذه الشراهة؟ تلك الانحناءة لحاجبك الأيسر توحي بمعادلة مختلة، وهذا التفاوت المعتل بين النّصف الشمال لوجهك والنّصف الأيمن هو ما يضفي مسّ الإثارة لمحيّاك القوطي. أظنكَ ابتهجتَ لمشهد الخفافيش داخل فنجان قهوتكَ الصباحية، وترنمتَ بنشوةٍ لانكسار نافذة جارتك عند الظهيرة وباركتَ نفوق خنازير في مزرعة الضاحية. كم تطربُ لصرير تهشم السفن على صخر الجزر البعيدة في أتون السّهرة، حيث الموسيقى ذاهبةٌ إلى نباتات الشرفة وأنت ذاهب إلى هدير الشاطئ. لم تشرب الكأس السّابعة بعد، ويدك اليمنى التي تدسّها بمهارة قاتل محترف داخل بدلتك، كأنها تتحسّس أو تداعب شيئا خطيرا في الداخل: هل هو السكين الذي ستنحر به القطط السوداء؟ تراك تجسّ دقات قلبك التي استفحل نبضُها بشكل غير مفهوم؟ أم يتعلق الأمر بعلبة حبوب اللودانوم؟ ربّما يكون الأمر نقيضا، فما يُهسْهسُ في يدك محض رسالة ستحشو بها زجاجة نبيذك بعد أن تفرغ، كي ترمي بها في بحر لا وجود له إلا في مخيلة غرفتك!). (3) شطحات بيرونية يتموّج بها وجه إدغار آلن بو، تموجات لا علاقة لها بالحذلقة، بل هو الإفراط في الإغراب أيضا. تتراجع سطوة البيرونية أمام بزوغ شخصية أشدّ قوة في الحضور والتقمص، هي شخصية إشمائيل بطل رواية موبي دك لهرمان ميلفل (ولعه بمصارع الحوت الأبيض، جعله يتماهى معه في حياته ويتوهم أنه هو بالفعل). لا ينزاح خيال إشمائيل عن وجه إدغار ألن بو إلا فيما ندر، إذ يعزز من صخب الدوار البحري في ملامحه الهستيرية، ويحيل على الأفق المظلم لأغوار المحيط. هذا الدوار البحري، يجعل من إدغار ألن بو قبطان سفينة ضالة في دياميس المحيط، قبطانٌ سكّيرٌ، يدمن التنزه في أنواء المياه السوداء، وهو يلاحق حوتا خرافيا لا وجود له إلا في قعر مناماته الشعواء. اختلال ساعة وجه إدغار آلان بو، وميلانها الرملي، يبدو كما لو كان سببه هو أثر الدوامات العملاقة، للتيه في البحر، كأن أذيال قروش صفعته، فجعلت نزول الحاجب الأيمن، ينتكس بالجهة اليمنى، مما يؤهله بقوة إيحائية ليتطابق مع المنزل الآيل للسقوط في قصته الشهيرة: سقوط منزل آشر. هناك إذن علاقة هندسية بين معمار وجه «بو» ومعمار منزل آشر العجيب. منزل آشر ليس إلا خطاطة مصغرة، لبناية أضخم وأشد رعبا، تظل قائمة بظلها الهائل خلف وجه إدغار آلن بو، هي بناية قصر كيلمانروك الخرائبي المأهول بالأشباح. ليست وحدها ظلال قصر كليمانروك ما ينحفر كعلامة غائرة في وجه آلن بو، بل قرية «ستوغ نيوينغري» بأكملها، فالسنوات الخمس التي قضاها صاحب القط الأسود خارج أمريكا، في هذه القرية الإنجليزية العتيقة، ذات الأنقاض العملاقة والأشجار الشاهقة، تبدو كشيفرة منسية لهوية «بو» الضبابية والغامضة. إذ ليس صدفة أن يتبناه رجل اسكتلندي، يعمل مجهزا للسفن وتاجرا للأحصنة والكحول، ففي سفنه تغذى بأساطير البحارة المفزعة، وتلك الأحصنة جمحت به إلى تاريخ الحكايات الأسكتلندية السحرية، وأما الكحول فسيغدو ملاذا يوميا لمجاورة أطياف الهاوية. إنها الهاوية التي طالما حاول أن يتخطاها صوب الميناء الذي يتوارى خلفها كما رآه وهجس به في احتضاره الصاعق. يستدعي وجه «بو» بقوة، حضور غراب ملازم له بالضرورة. إما يقف على كتفه كما صورته مخيلة الرسامين والقراء، أو يحوّم فوق رأسه، لقد فات هؤلاء أن يكتشفوا أن إدغار آلن بو هو الغراب نفسه، غراب إسكتلندي يلوح كدليل للسفن الضالة في أبدية محيط بلا شطآن.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©