الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

هنري ميشو.. حليف الفراغ

هنري ميشو.. حليف الفراغ
10 ديسمبر 2015 13:59
ترجمة: أحمد حميدة هذا الذي يعتبره صديقه جول سوبرفيال «أمير الغرابة»، شاد لنفسه أسطورة شاعر على هامش الوجود، منطوياً على ذاته، موزّعاً بين الغضب والعزلة، منسحباً من العالم وشراكه، لا يريد أن يكون غير خيال يمضي لتحويل آلامه إلى قسوة؛ هذا الذي كان يقول عن نفسه «أنا رياضيّ الآلام»، كان قد جعل من كتاباته القويّة طقساً من طقوس طرد الأرواح الشرّيرة. تنشد كتابته الشّعريّة أن تكون في منأى عن كلّ تأثير محيط قد يأتي من عالم بارد ومتحفّظ «إنّي أكتب لأجوب ذاتي، أكتب، أؤلّف، أرسم وأجول بداخلي؛ وتلك هي مغامرة أن نبقى على قيد الحياة» هنري ميشو لقد أحاط هنري ميشو نفسه بطائفة من الحيوانات العجائبيّة وبمجموعات بشريّة غريبة، لذلك يبقى هو وموريس بلنشو، الكاتب الأكثر سريّة في زمننا الرّاهن، كما يظلّ صوتاً بالغ الغرابة. أمّا الآن فقد تحوّل إلى تمثال للقائد في الشّعر المعاصر، مهيب وجافّ أحياناً في شدّته. هو اليوم مطيّب في الأوساط الأدبيّة، وتحتفي به الكثير من الدّراسات، فضلاً عن دور النّشر؛ فيكون بذلك قد تحقّق خوفه الأكبر «أنت الذي غدا لديك هنري ميشو اسم علم، لعلّه يشبه من كلّ النّواحي أولئك الذين نراهم في ركن الحوادث بالصّحف، مرفوقين بمعلومات عن سنّهم ومهنتهم...». قد يبدو الاحتفاء به هنا غير مجد، خاصّة أنّ ورثته، وإلى فترة قريبة، كانوا يعارضون بشدّة اقتباس نصوصه؛ غير أنّ تلك النّصوص باتت اليوم متداولة على شبكة التّواصل الاجتماعي، بعد أن نشرت دار «غاليمار» كلّ أعماله؛ وبالتّالي، ليس بإمكاننا، وكما كان يأمله هو، أن نترك مسافة بيننا وكتاباته؛ إنّها كتابات تظلّ حاضرة، وعلينا مواجهتها وجهاً لوجه. في الحقيقة، نحن بالكاد قادرون على المجازفة لتسليط الأضواء عليها. حسبنا في هذه الأسطر القليلة، مقاربة نصوصه وخاصّة نصّه اللامحتمل «نحن الاثنان من جديد». لقد انطلق ميشو في رحلة محفوفة بالمخاطر نحو أقاصي ذاته؛ فمن آثار الكتابة إلى الرّسوم المهلوسة لفرشاته، أبحر نحو المجهول، مخلّفاً دوماً علامات وإشارات ورموزاً هيروغليفيّة غامضة عن العوالم الأخرى، محدّدا مساراته بلطخ، بعلامات مرتجفة ويائسة، مخترقا مرايا الحلم ليعلم بأنّه لا يزال على قيد الحياة، وأنّه لا يزال ماضياً في البحث عن المطلق. ورسوماته بالحبر الصّيني التي كانت تتشكّل على وقع كتاباته، تسعفنا في إدراك ذلك الانغمار في ما هو غريب، بعيداً عن الحدود المعروفة للأشياء والبشر؛ ولا شيء يشبه حقيقة الواقع في أشعاره اللاّذعة أو في كرّاسات أسفاره العصيّة على الوصف. «مشهد للحياة ليس على سطح الأرض، إنّه مشهد كمُلاءة سرير مسحوبة فوق الرّأس» (ميشو). طقس علامات يمضي ميشو في مغامرة كلّها علامات، بل طقس علامات تفضي إلى احتضار العقل في كلّ معارك التّوالد، وهو الذي يقول عن نفسه بأنّه ولد مثقوباً، مصاباً منذ الصّبا الباكر بتشوّه قلبيّ، والذي سيجعله يعيش دوماً على حافّة الهاوية؛ سيمضي، وهو متشنّج، باحثاً عن حضارات أخرى، عن المخدّرات وعن وجه ذلك الغريب الذي بداخله. دائم الترحّل دون حقائب، كان يعطي الانطباع بأنّه ينتظر توقّف الحياة، وهو المفجوع، المتردّد، التّائه بيننا، والقليل الحيطة على الدّوام؛ وهو المحبط حدّ انفتاح الجرح، من الواقع المظلّل الذي لا يمنحنا غير الزّيف والأوهام الجارحة. بأسلحة فضّة، وكلمات حادّة، كان ميشو يواجه ذلك بالكتابة والرّسم، والكثير من السّحر والوحوش الخرافيّة ستنبثق خارجاً عنه وتقفز بداخله، لأنّه لا شيء غير المتخيّل يمكن أن يكون مسعفاً في ذاك الخارج الذي سيقاومه بنبضه الداخليّ، المأهول بأحلامه وحنقه، أسلحة حادّة لمواجهة ما لا يطاق. إنّه ليس عالم كافكا المربك، لأنّ ميشو يصارع بمنجنيق كلماته. إنّه لا يستسلم لأنّ ذلك لا يفيد، وإنّما يجرح وينهش، وها هو الآن يرقد بيننا ثائراً «في حضن الأشواق التي لم تتحقّق البتّة» بخاصرة منفتحة وكلمات نحيلة وغاضبة، ولكن بفضله يرتدّ الأفق.. ويرتدّ. لم يتوفّق ميشو في التخلّص من سطوة شعوذاته، فمضى متسكّعاً في الطّبيعة، ثمّ انغلق في عزلته، وكأنّه أضحى بين عهدين من الألم؛ «عندما لا أتألّم وأغدو بين عهدين من الألم، أشعر كما لو أنّني لا أعيش وأنا على قيد الحياة، كما لو كنت معلّقاً بين السّماء والأرض» (ميشو). هنري ميشو هو إنسان في حالة نزال، نزال مع العالم ووحوشه التي تبدو وكأنّها تريد سحقه وإبادته، وهو الرّجل الضّئيل في مواجهة اللّيل المرعب؛ لذلك كان يكتب وهو متشنّج ويرسم وهو مهلوس. «الكاتب هو إنسان يعرف كيف يبقى في حالة تماسّ، موصولاً بصنوه، بجزئه المظلم الذي لا يستكين بداخله، والذي يحمله» (ميشو). كتابات ميشو كتابات متدفّقة، شرسة وحاقدة على «موسيقى الآخرين»؛ وسرده يسلمنا لأسفار، واقعيّة أو خياليّة، غالباً ما تكون حكايات عن لقاءات بين الفزع والحبّ، عن «هجرة وخلاص» الذّات. «هناك ما يكفي من الكراهيّة كي نتحلّى بالأمل»؛ لقد أراد ميشو أن يجعل البؤس أسطورة مؤسّسة. «من عمق الضّجر تولد القوّة والحاجة إلى الكتابة».. إنّه في حالة مواجهة مع العالم ومع أشباحه. حياة مثقوبة «من ترك أثراً.. ترك جرحاً. إنّي لأبصق على حياتي ولا أخلص لها؛ فمن باستطاعته أن يفعل في الحياة أكثر ممّا تفعل الحياة به» (الحياة في طيّات/‏ هنري ميشو). هنري ميشو هو ذاك الرّجل الذي بعد ترحّل طويل، وبعد محن عديدة، أراد أن يتوارى عن الأنظار، كما لو أنّه أضحى ميّتا في العالم الذي يحيط به، وكان يتملّكه الذّعر من أن تذكر سيرته؛ وحتّى إن اضطرّ إلى كتابة تلك السّيرة، فإنّه كان يحرص على تشويش الاتّجاهات؛ إنّ امّحاءه من العالم، وعزلته الغرورة، ورفضه أن تؤخذ له صور، تجعلنا لا نلتقيه، لا في الكلمات المرويّة عنه، وإنّما في كتاباته التي تتبدّى لقارئها كالنّصال الحادّة، ولكن ينبغي لنا احترام تحفّظه وعدم النّبش في تفاصيل حياته، وإن كان ذلك لا يعني شيئاً بالنّسبة له. لقد قيل إنّ هنري ميشو أمضى حياته منتظراً الموت، منذ أن اكتشف أنّه مصاب بتشوّه خلقي في القلب. «لقد ولدت مثقوباً ريح عاتية تهبّ إنّه مجرّد ثقب صغير في صدري ولكن تهبّ بداخله ريح قاسية آه.. كم يشعر المرء بالضّيق داخل هذا الجسد». سنذكر فحسب بعض العلامات المتّصلة بحياته، وقد لا نظفر بصورة مفصّلة عن هويّته وتحوّلاته؛ سنقتصر فقط على السّير بمحاذاة «باطنه القصيّ»، ما بين القلق الوجوديّ والتهكّم القاطع. بلجيكيّ المنشأ، ولد ميشو يوم 24 مايو 1899 في نامور، في أسرة برجوازيّة مرفّهة، ذات أصول أردانيّة ووالونيّة. منعزل وهزيل، كان ميشو الطّفل يعيش على هامش الطّفولة، مقبلاً بكلّيته على المطالعة. كان لا يريد غير الهروب من شبابه، من بلجيكا ومن الدّراسة. سنة 1920 ترك الدّراسة وانخرط كبحّار على متن سفينة ليسافر من 1920 إلى 1921 ويصل إلى أمريكا الجنوبيّة، ثمّ عاد إلى الأرض لتلقّي صدمة لوتريامون، التي ستدفعه إلى الكتابة. وفي سنة 1924، تخلّص من كلّ روابطه ليستقرّ في باريس، حيث حظي بتشجيع جول سوبرفيال، وحيث نشر سنة 1927 «هذا الذي كنت»، وبدأ بإنجاز أولى رسوماته بالحبر الصّيني. أمّا رحلاته إلى الإكواتور، آسيا، وإسبانيا، والبرتغال، فقد ألهمته لكتابة «إكواتور» (1929) و«بربريّ في آسيا» (1933). وفي سنة 1936، سافر رفقة صديقه سوبرفيال إلى أوروغواي، ثمّ الأرجنتين، ثمّ تتالت كتاباته المهمّة: «اللّيل يتمايل» (1935)، «الباطن القصيّ» (1938)، «في مكان آخر» (1948)، «محن» و«تعاويذ» (1945)، والمؤلّف المؤلم «الحياة داخل الطيّات» الذي تضمّن قصيد «نحن الاثنان» الذي أهداه لزوجته ماري لويز ترمي، التي قضت في حريق بمنزلهما سنة 1948. ويظلّ هذا القصيد بالنّسبة لي هو الأجمل في أعماله الغزيرة. وحتّى يستكشف في العمق فعل الكتابة والرّسم وأسفاره الدّاخليّة، وتوسيع دائرة وعيه، اختبر سنة 1954، ثم بشكل منتظم منذ سنة 1956 مادّة الميسكلين، وأحياناً مادّة الـ«ل. إس. دي»، وتحمل آثار ذلك كتاباته في تلك الفترة «المعجزة البائسة» (1056)، و«الصّاخب بلا حدود» و«المعرفة عبر الهاويات» (1961). معترف به، أصبح محلّ إعجاب، ولكنّه آثر الانطواء على نفسه، رافضاً المجد والجوائز الأدبيّة، منتبذاً العالم وباحثاً عن قدر ما من الهدوء والسّكينة. وقد توفّي بباريس يوم 10 أكتوبر 1984. لتستسلم أيّها القلب لقد بلغنا الجهد في المقاومة ولتتوقّف حياتي فنحن لم نكن جبناء وبذلنا ما في وسعنـا * من «فضاء الدّاخل» ملاك الغرابة والتّاريخ «إنّي أعود (...) للجسور التي شدْتها بين الأشياء والتي أفضّلها على كلّ الأشياء» كان ميشو معجب ببول كلي وخاصّة بمجموعته عن الملائكة التي أنجزها في أواخر أيّامه؛ ويبدو ميشو وكأنّه أحد تلك الملائكة.. ملاك التّاريخ وملاك الغرابة. «وحتّى نلج لوحاته مباشرة، لا شيء من هذا يهمّ؛ حسبك أن تكون منتخباً كيما تكون أنت ذاتك قد احتفظت بالوعي، من أنّك تعيش في عالم ملغّز، ولا تملك غير أنّك تتحدّث إليه بالألغاز». (بول كلي في نظر هنري ميشو). هنري ميشو هو ملاك التاريخ الغامض، وسيفه هو جنونه «الجنون لم يصنع العالم، ولكن ينبغي للجنون أن يعيش في في العالم» من «كحجارة في بئر». إنّه ملاك النّقد اللاّذع، وهو ليس بمتنبّئ، ولكنّه رهيب، لذلك فهو يجتاح هذا العالم «المخيط بالغياب»، المأهول باللاّمبالين، وهو مهتاج في بحثه عن أناه العميقة. «حضور الذّات.. أداة مجنونة نثقل على ذاتنا نثقل على وحدتنا نثقل على ما جاورنا نثقل على الفراغ ونبقى على قيد البحث والتّفتيش».. * من «كحجارة في بئر» «أمامي، وبصمت عميق، من سيألم أو يفزعني، ويصارع في أسـر من أجل حريّتي». من «رؤوس» (1939). رصيده في أعماق الوعي سوف ينتهي به إلى تخوم الغرابة، إلى اللاّمسمّى الذي يحاول ميشو أن يعطيه اسماً. مترحّلاً دون توقّف، يقبل على كلّ غريب ومستغرب، متحدّياً «الظّاهر الزّائف» ومبتكراً حلمه الدّاخليّ الأشدّ واقعيّة من الواقع؛ أمّا أوطان السّحر وتلك الكائنات العبثيّة والمخيفة، فهم رفقاء السّفر. وما تبقّى، يقفل عليه ميشو في حقائبه ليهزمه على مهل. لقد تحالف مع الفراغ ليجعله يحتلّ قلب أعماله، ليتبدّى ممعناً في الرّفض والانفلات نحو أعماقه القصيّة والهاويات المريرة، ولكن ينبغي ألاّ تحجب عنّا سخريّته السّوداء وشراسته دائماً.. رقّته؛ «هنري ميشو أو رفض الأسر».. هكذا تحدّث عنه ناسك آخر.. موريس بلنشو. «لم نوجد لأنا واحدة». «إنّ التّعب الأكبر ليوم أو لحياة يعود لحالة الإجهاد والتوتّر الضّروريين كي نحتفظ بأنا واحدة عبر المغريات الدّائمة التي تزعجنا إلى تغيير تلك الأنا». من «الباطن القصيّ». البربري الساخر لقد كان ميشو إنساناً ممزّقاً، وترك لنا أعمالاً مفرّقة تلامس كلّ صنوف الكتابة، ولا تربط بينها استمراريّة ظاهرة: قصص، شعر، شعر نثري، حكايات رمزيّة، اعترافات، دفتر ذكريات، حكم وأمثال.. ويبدو في هذه الكتابات وكأنّه متشبّث بكتلة منهارة من الكلمات، مجزّأة كما هي ذاته، وهو الكائن الضّعيف، الواهن، المحاصر بحدوده، بنفسه القصير، الذي يمضي محاولاً بإصرار تجاوز ذاته. أكثر من كونها كتباً، تبقى كتاباته نصوصا مفرّقة لا تشكّل عملاً مكتملاً، نصوصاً تحاصر ذاته لتجعله هو ذاته «يغفو فوق الورق». النّصوص التي كتبها ما بين 1922 و1924 كانت إفصاحاً عن تشنّجاته الدّاخليّة التي ألقى بها بشكل فوضويّ. بداخله، كان الإنسان الحرّ الذي لا يحتمل الأسر، لا في خزانة الحياة، ولا في مجموعات معلّبة حتّى وإن كانت نخبة «البليياد» الشّهيرة، لا يرغب في أن يرى نصوصه منشورة، ولكنّه اليوم، وبعد أن حاول لسنوات طوال إخفاء آثاره، ها هو اليوم ينكشف عارياً، كتاباته الملفّقة مكشوفة، ورواياته الخياليّة مفنّدة، لأنّه نشر تقريباً كلّ ما كان يكتبه. «مسافة يسيرة تفصلني عن الخارج حتّى لكأنّي موجود بكلّيتي في الخارج»، فميشو لا يكون بين الأحياء دون أن يشعر بالودّ والأمل، لذلك كان يضع نفسه دائماً خارج القطيع. وفي الحقيقة أنّه كان يعود إلى باطنه ليطلق العنان لكلماته، وكان يقول: «لسنا وحيدين داخل جلدتنا»، ولكن كانت هناك أيضاً نظرة الآخرين. ولميشو نظرة فطِنة إلى أعماله يفصح عنها بالكلمات التّالية «العمل الإبداعيّ مجموعة مسارات، مسافة على هيئة خطّ متقطّع؛ كلّ مسار بالغ الدقّة، يتخلّله قفز وسقوط، وصعود ونزول.. ولكن لا أمواج قابلة للقياس؛ هنالك فحسب تقدير للمسافة، نزول وصعود وارتقاء لا نهائيّ في المجرّد». من «السّفر الذكيّ الوحيد في المجرّد». وغالباً ما كانت أعماله بالفعل سلسلة من المسارات، اندفاع نحو المستقبل، وفتح لمسالك عبور. ميشو الذي كتب «بربريّ في آسيا» أراد أن يكون بربريّاً في مواجهة عالم الثّوابت واليقينيّات والنّزعة المحافظيّة؛ أمّا هدفه هو، فهو المرور بتجربة الهاويات. ولا يكتفي ميشو بتأمّل العالم من أعلى برجه العاجيّ، وإنّما يتناول الواقع ليغيّره، ليضعه تحت أقدامه ويدوس عليه. في فترة ما من حياته، لم يعد ليلجأ للبلدان القصيّة للهروب من نفسه، بل غداً يواجه وجهاً لوجه، بالكتابة والرّسم، الهاوية والرّعب المتحالفان من أجل إتلافه؛ غداً يضرب ويجلد بعض الوحوش وبعض النّاس الذين يمرّون من أمامه. «فلتدعوا له، إنّه غاضب من أجلكم»، وميشو غالباً ما كان مغتاظاً، وهو يحاول تدمير مملكته. كان يستعمل حامض سخريّته دون لين أو لطافة، مثلما كان يعمل كافكا تقريباً، ولكن من دون أن يستسلم لما هو تراجيديّ. «في ضوء منارة الخوف الشّبحيّة» يتقدّم دون تردّد، فطن، مستعيناً بموادّ مخدّرة كالإيتار أو الميسكالين، وينطلق في سباق نحو التّلاشي والاختفاء، كي لا يخلّف بيننا وبينه غير خياله. ويقدّم لنا ميشو تفسيراً لذلك: «إنّ الإنسان لا يحتمل الزّمن. ومن حسن الحظّ أنّه ليس بحاجة إلى تحمّل حياته كامل حياته، وإلاّ لكان الأمر فوق الطّاقة. إنّه يعيش يوماً بيوم أو ليوم مضاعف.. ولكنّه يصاب بالإجهاد والتورّم، بالسّاعات التي مضت وتراكمت فيها المشاعر دون أن ترسب حقيقة، لذلك سيتوق إلى إلقاء حياته على طريق مرآب، إلى الكارثة عند الحاجة...» (من «الأثير.. اللّيل الذي ينبض». كان خوفه من أن يكون مجتاحاً بما هو تافه ينغلق أكثر فأكثر، ويجعله مهووساً بذات السّؤال: كم من الوقت سيستغرق كلّ هذا؟ تتكدّس بدروبه كائنات غريبة شبيهة بكائنات جيروم بوش، وهي التي ترافقه في حلّه وترحاله. متأرجحاً ما بين الرّعب والقسوة، يشدّ ميشو حبله فوق العدم، يدور ويمعن في الدّوران داخل كلماته القاطعة كالخناجر. مهووساً بخوف شديد من الفراغ ومن الثّقب، كذلك الثّقب الذي كان يحمله منذ طفولته، كان يستشعر أنّه يحيا زمناً مؤقّتاً، بأنّه بالكاد يعيش، وبأنّه في حالة نجاة دائمة.. «يحضر الموت ويقول: هيّا.. لقد أزف الوقت.. وقت الموت.. الموت إلى الأبد.. الموت الآن». تنفلت كتابته من الغنائيّة، فتنموا نموّاً إهليليجيّاً، وترفض الأسلوب الخطابي؛ فميشو يحمل بداخله كراهيّة للّغة، ومع ذلك فقد ساهم في إنعاشها. ما يوجّهه في الكتابة هو فقط رفض التّلاؤم مع ما هو موجود والاستسلام للواقع الرّاهن؛ حين كان يكتب أو يرسم كان دائماً على عجلة من أمره، وكانت كتابته تأتي على شكل مقاطع تنشد ما هو جوهريّ. لا يمكننا اقتفـاء أثر ميشو، ولئن حملنا الموج في بعض نصوصه، فإنّنا قد نتهشّم حين نواجه سمّه اللاّسع وقسوته المتعمّدة. «... أموت في غضبي أتشتّت مع كلّ خطوة أنقضّ على أقدامي وأغرق في لعابي» إنّه يحقد على الجميع، وهو الذي لا ينشد غير البقاء مجهولاً، أن يكون أيّاً كان من النّاس، يتحدّث ويصرخ. لم يختر ميشو رفقاءه في السّفر على هذه الأرض، فعبر حياته كإنسان غريب، ينظر مذهولاً للنّاس الذين من حوله؛ يبدو وكأنّه من مكان آخر، ولا قدرة لنا على الإمساك به، رغم فجوة الكلمات التي تركها لنا. أن نعيد قراءة ميشو، فإنّ ذلك يعني أن ننصت للّيل وهو يترنّح.. أن تغدو الغرابة لدينا شيئاً مألوفاً. * شاعر فرنسي مختارات من شعر هنري ميشو ثقبٌ صغير.. تنفخ فيه ريح عاتية حياتي إنّك تذهبين بدوني يا حياتي. تنطوين. وأنا لا أزال أنتظر، كي أخطو خطوة واحدة. تنقلين إلى مكان آخر.. المعركة. وبذلك فإنّك تهجرينني. لم أتّبعك البتّة. لا أدرك بوضوح حقيقة ما تعرضين. الأقلّ من القليل ممّا أريد، لم تأت به أبداً. بسبب هذا الفقد، يزداد طموحي. أطمح إلى أشياء كثيرة، إلى النّهائيّ تقريباً.. بسبب هذا القليل الذي ينقصني، والذي لم يأت أبداً.. لقد توقّفت حياتي كنت في قلب المحيط. كنّا مبحرين. فجأة سكنت الرّيح. حينها، كشف المحيط عن عظمته، وعن عزلته اللاّنهائيّة. سكنت الرّيح دفعة واحدة، فشهقت حياتي. لقد توقّفت إلى الأبد. كانت ظهيرة ملؤها الدّوار، ظهيرة نادرة، ظهيرة «الخطيبة تنسحب» كانت برهة من الزّمن، برهة آبدة، كصوت الإنسان، حين يخنق صحّته دون جهد، أنين جراثيم جائعة؛ لقد كانت برهة من الزّمن، غرقت فيها كلّ اللّحظات الأخرى، بقدر ما كانت تتوارد، دون توقّف، إلى أن إنطويت بداخلها، وغدوت منطمرا بلا حدّ. تضع معي قدمك على الدّرجة الأولى لمدرج لانهائيّ يحملك يجعلك تصعد يجعلك تتحقّق ويهدّئك فيك أصنع مفارش للسِّلْم اُحسن لطفل أحلامك تدفّقٌ تدفّق الزّعانف على دائرة الصور الفَزعةِ. تدفّقٌ على مدفأتها.. فتنتعش النّار كانت السّنين إلى جانبنا كانت السّنين إلى جانبنا، لا ضدّنا. ظلاّنا تنفّسا سويّا. من تحتنا، مياه نهر الأحداث تنساب صموتة أو تكاد. ظلاّنا كانا يتنفّسان سويّا، فيما كان يجمعنا غطاء واحد. لقد بردتّ حين بردتِّ. شربت جرعات من معاناتك. غنيٌّ بحبّ مكتسب، غنيٌّ كالمتجاهل نفسه بإحساس من لا يملك شيئا، لقد خسرت أن أكون محبوبا وثروتي ذابت في يوم. لقد سطرت في حياتي قناة كبرى من فرط الأوجاع، والصّعود اللاّمجدي، من فرط الذي كنت ألقاه في الخارج، الخارج الذي كنت أمنّي النّفس ببلوغه، من فرط السّقوط هنا وهناك، سطرت في حياتي قناة عميقة. وعوض أن أعثر عليها، كنت أسقط فيها. الآن، هي تثير مشاعري. لقد أقدمت على إثارة مشاعري، مع أنّها لا تنيرني، لا تقدّم لي عونا، ولا تستجيب لرغباتي. هي على العكس من ذلك، تذكّرني بحدّ الحقيقة الذي ليس بوسعي اختراقه، وإن اخترقته فللحظات. هكذا بتساؤلها الدّائم «لا أدري ماذا؟»، تثبّتني في استمراريّة لم أكن لأطمح لها البتّة، من أنّني الوحيد الذي أعرف نفسي ولا أثمّنها. وإنّي لأبحر فيها سرّا. تنفّس ريح عاتية إنّه مجرّد ثقبٌ صغير في صدري ولكن تنفخ فيه ريح عاتية، إنّه مجرّد ثقبٌ صغير في صدري ولكن تنفخ فيه ريح عاتية، في الثّقب، حقد، ذعر وعجز، هناك عجز والرّيح كثيفة، شديدة كالأعاصير، قادرة على كسر إبرة من فولاذ، وهي مجرّد ريح.. خواء. (.....) ارتجافاتي، من البرد، دوما مستنفرة. وفراغي نهمٌ، طاحنٌ ومبيد. فراغي، قطن وصمت. صمت يوقف كلّ شيء. صمت النّجوم. ولئن كان هذا الثّقب عميقا، فإنّه لا شكل له. الكلمات لا تمسك به، فتخوض الماء من حوله. إحملوني إحملوني على سفينة كرفال ولتكن سفينة وثيرة وعتيقة. إجعلوني في مقدّمتها، أو إن شئتم في الزّبد، ولتقودوني إلى البعيد.. البعيد في نيّـرِ زمن آخر. في المخمل الخادع للثّلج. في نَفَس بعض الكلاب المتجمّعة. في الحشد المنهك للأوراق اليابسة. إحملوني دون أن تكسروني، في القبلات، في الصّدور التي تهتزّ وتتنفّس، على بساط الأكفّ بسماتها، في أروقة العظام الطّويلة وعلى المفاصل. إحملوني أو إن شئتم أطمروني. ترجمة: أ. ح.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©