الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

إدوار الخراط: ليس للشعر زمن!

إدوار الخراط: ليس للشعر زمن!
10 ديسمبر 2015 13:19
ساسي جبيل في عام 1994 زرت القاهرة لأيام قليلة، ولما كان بي شغف للقاء أدبائها وكتابها، فقد اخترت اثنين ممن أعتبرهما علمين في الأدب المصري المعاصر، الأول هو نجيب محفوظ، وثانيهما إدوار الخراط الذي شاءت الظروف أن أزوره في بيته بالزمالك. كانت معرفة الطريق إلى البيت يسيرة، ولكن صاحب البيت كان رجلا صعب المراس. الحديث إليه - على لذّته - يحتاج اطلاعا كاملاً، ومعرفة ملمّة بخفايا شخصيته الأدبية والفكريّة وحتى الاجتماعية. كان البيت مليئا بالكتب من كل جانب وفارغا من الناس؛ فباستثناء إدوار وزوجته لم أجد أحداً... وشاءت الظروف ألا ينشر هذا الحديث، فبقي طيّ الأدراج طوال هذه الفترة.. اليوم، ومع خبر رحيل إدوار الخراط، يبدو لي ملحاً، أن ينشر هذا الحوار، لما يحتويه من أفكار ثاقبة وآراء شجاعة ليست بالغريبة عن رجل مثله. * لنبدأ من البداية، ما علاقة نصك بالمرجع؟ ** المرجع عندي أساساً هو المرجع التراثي العربي، ثم هو المرجع التراثي الإنساني بشكل عام. والعلاقة بين النص وبين هذا المرجع بشقيه - فيما أتصوّر- علاقة وثيقة، فالنص المرجعي العربي ملتحم التحاما عضويا وجوهريا بكتابتي تسري مياهه في شرايين نصّي شريان دماء الحياة نفسها، كذلك هو الأمر مع المرجع التراثي الإنساني بما فيه من أساطير وشعر يوناني قديم وما بعده مرورا بكل موجات الإبداع والثقافة والفكر المتلاصقة. * هل يمكن التفريق بين نص تراثي عربي ونص تراثي إنساني؟ ** بالطبع لا. بل إن التفريق بينهما مصطنع، وما تحدثت على هذا النحو إلا على سبيل التحديد وليس على سبيل التفريق. * هذا يعني أنّ التراث الإنساني العام يحمل بين طياته التراث العربي الإسلامي أيضا... ** دون شك، هذه قضيّة مفروغ منها، لأن التراث العربي أسهم إسهاما أساسياً في تكوين وتأسيس التراث الإنساني الغربي وغيره بشكل عام. الحداثة تأصيل * ما هو مفهومك للتراث الإنساني الغربي في ظل الحداثة التي باتت اليوم عنوانا للكثير من الكتابات؟ ** الحداثة عندي - خلافاً لما هو شائع - تأصيل ومساءلة للقيم القائمة الراسخة، إن لم تكن مهاجمة بل مداهمة لها، الحداثة في تصوّري تأخذك إلى النظم الكلاسيكية التقليديّة في الحياة وفي الفنّ، وهي كذلك سعي لإجابة لعلّها لا تتحقق قطّ ومطاردة لتحقيق تغيّر مستمرّ ومعدَّل باستمرار. * هل استطاعت التجارب الحداثيّة المعاصرة أن تضيف جديدا؟ ** هذا السؤال لا يحتاج إلى تأكيد بالرغم من أن الإنسان واحد في جوهره، إلا أن حقيقته لا يمكن أن يسبر غورها حتى النهاية بل تتكشف فيها باستمرار جوانب جديدة، فالحداثة إذا شئت بهذا المعنى الذي أضفت أصيلة في أدبنا أو في الآداب الأخرى على السواء، بمعنى أن الحداثة عندي مرادفة أيضا للأصالة، فأبو نواس مثلا حداثيّ والمعرّي حداثي لأنّ كلا منهما سؤال مستمر وليس إحكاما مغلقا على ذاته أو حكمة مأثورة كما يفعل المتنبي مثلا. إضافات الحداثة والحداثيين قائمة عبر العصور، وهي خطوات في تلك الساحة التي لا ينتهي مداها من السعي نحو المعرفة والتواصل. لست واقعياً ولا تجريدياً * من الواقعية في «حيطان عالية» إلى التجريد... ما السر في هذه النقلة النوعيّة في مسيرتك الإبداعيّة؟ ** في واقع الأمر اسمح لي أن أختلف معك أساسا وتماما في هذه التوصيفات، فليس في «حيطان عالية» واقعية وليس في أعمالي الأخيرة تجريد. لست متفقا على هذه التصنيفات، ولكلّ الحق في أن يراها كما يشاء، لكن قراءة حصيفة ومتأنية لهذه الأعمال تثبت أنه في «حيطان عالية» كان هناك شطح «الفنتازيا» وعالم الحلم. هناك سقوط الحدود بين الواقع اليومي المعاش مع وجوده بقوّة وبين الحلم وعالم ما تحت الوعي وما يجيش في النفس من أحاسيس وهواجس وخيالات وغير ذلك. تلك كانت النواة الأولى التي ظهرت في بدايات عملي، منذ الأربعينيات المبكرة، واستمرت حتى آخر أعمالي التي ليس فيها على الإطلاق أي نوع من أنواع التجريد. التجريد هو فصل العالم والظواهر الواقعيّة المحددة عن العمل الفني بحيث يقتصر العمل الفني سواء كان قوليّا أو غير قولي على محاولة استخلاص القواعد البحتة والقوانين والمساحات اللونية المجرّدة عن التفاصيل، وعن حشد وكثافة وجيشان الحياة العضوية مثلا، ولذلك فإن تطبيق كلمة التجريد على الفنون الأدبية كلّها مسألة تحتاج إلى نظر، وأعتقد أنّها خلافيّة إلى حد كبير. أتصوّر أن التجريد لا يمكن أن يوجد في الفنون القولية إلا في بعض منجزات الشعر الفلسفي أو العمل الصوفي الفني، أمّا الرواية والقصة فهما بطبيعتيهما تكادان تكونان منافيتين ومناقضتين للتجريد، على أية حال فإن أعمالي الأخيرة وما قبلها وطول الوقت تميزت بالاحتفاء بشيئين: تفاصيل الواقع الغنيّة والكثيفة الموضوعة تحت ضوء أحاول أن يكون ساطعا أكثر ما يمكن من ناحية، وما تمور به دخائل الباطن من خلجات ونوازع عضوية جسدانية تكاد تحس فيها وتشم وتشعر وتستطعم الأشياء بكل حواسها من ناحية أخرى، وذلك كله مناف للتجريد. كتابة إشكالية * هل يمكن القول إنك تكتب كتابة إشكالية، وفق ما يذهب إليه كثير من النقاد والمتابعين لإنتاجك الأدبي؟ ** مسألة «الإشكاليّة» هذه مسألة نسبية في نهاية الحال، وما أستطيع أن أقوله هنا هو إنها كتابات تختلف، وتناقض الكتابات التقليديّة أو الكتابات التي تسلك طرقاً مألوفة ودروباً دبَّت عليها الأقدام طويلاً، فهي كتابات لا تعيد استنساخ ما سبق ومن ثمة فربما كانت عناصر الحدّة أو المغامرة فيها هي ما يثير تسمية: «الإشكالية» أو ما يصدم القارئ الذي تعوّد على السهولة والتلّقي السهل اليسير، وتزجية الوقت بالقراءة؛ أما كتاباتي فأتصور أنها تدعو القارئ بل تحفزه حفزاً على المشاركة في العمل الإبداعي، ببذل الجهد الخلاق في التلقي لمحاولة استكشاف ما تتضمنه هذه الكتابة من أبعاد، لعلّها أكثف وأكثر احتشاداً مما اعتاد القارئ لأعمالنا في الماضي. وأظن أن جمهرة من القراء المحدثين الآن بدؤوا يعرفون هذه الطريقة في التلقي. ومن ثمَّ لا أقول إن صفة الإشكاليّة قد انتفت بل أقول إن الإشكالية ربما اتخذت أشكالا ومسارب أخرى جديدة. * ما الفرق بين النص الذي يسعى إلى التكوين والخلق والنص الذي يسعى إلى ا لتصوير والتعبير وأي المجالين اختار الخراط من بينهما لنحت نصه؟ ** أظن أن المجال الأول هو الذي اخترته، كما هو واضح في أعمالي لأن الفن عندي قرين المغامرة، قرين الضرب في المجهول، ومن ثمة فإنّه مسعى مؤسس وليس مستنسخاً. الفن الحق في تصوري لا يمكن أن يكون تصويرا أو تعبيرا، بل من خصائصه أنه يوجد ويخلق ويؤسس ويكوّن أي أنه يبدع واقعا موازيا للواقع، ولعله أقوى حضورا وأشد وقعا مما نعرفه من ظواهر الحياة اليوميّة. هذا الواقع الذي يوجده الفن متعدد الجوانب داخلي وخارجي معا، أرضي وحلميّ معا، خلقيّ وجماليّ معا وهكذا. تخلف نقدي * هل يمكن القول إن النقد الأدبي في الوطن العربي بقي متخلفا (نوعا ما) عن الحركة الإبداعية العربيّة؟ ** النقد بطبيعته بحاجة إلى وقت وجهد وبحث وتذوق واستيعاب، كل ذلك يعني أنّه لا يمكن أن يطارد الإبداع في لحظة إبداعه أو على إثرها بقليل، ومن ثمة لا أوافق على أن النقد متخلف كما يشاع كثيرا هذه الأيام، لأن النقد الجاد الحقيقي بالمعنى الجديد لهذه الكلمة ليس هو ما نجده أحيانا في الصحف السيّارة أو المجلات الخفيفة بل هو جهد إبداعي لا يقل عن الجهد الإبداعي الفني أي الشعري والروائي والقصصي وهكذا، ومن ثمَّ فإنه كما قلت لا يجب أن يلهث وراء تقويم سريع وآنٍ للعمليات الإبداعيّة بل من شأنه أن يتأنى في تحليلها وتعليلها وتوصيفها وتقويمها. أظن بل أوقن أن المنابر الحقيقية للنقد وهي منابر المجلات المتخصصة، والكتب المتخصصة ما زالت حافلة بأعمال نقديّة لها قيمتها ولها دورها في إثراء الحركة الإبداعيّة عامّة. * هذا يعني أنك مع التجارب الحالية في النقد العربي؟ ** المسألة ليست في أن أكون ضد أو مع، فلا شك أن التجارب الحالية في النقد العربي بما تستفيده من مناهج ومنجزات النّقد الغربي والعالمي بصفة عامة، وبما تستند إليه أيضا من تراث النقد العربي القديم الحافل باستبصارات وومضات من الإدراك نفاذة ويمكن تنميتها في ضوء السياق المعاصر، لذلك كلّه فإن التجارب النقديّة المعاصرة لا شك أن لها قيمتها وتمثل خطوة أبعد بكثير من مرحلة النقد التقليدي الأكاديمي الذي كان له دور في تأسيس العملية الثقافيّة، ولكن لا يجب الوقوف عند حدّه نهائيّاً. الرواية والقصيدة * الرواية العربيّة تطورت على حساب القصيدة، فما هي برأيك الأسباب الكامنة وراء ذلك؟ ** لا أعتقد أن هذه المقولة صحيحة على إطلاقها، لقد ازدهرت الرواية العربية حقا لكن القصيدة بأشكالها الحداثيّة المختلفة تشق طرقا جديدة أخرى وواعدة ومستبشرة بإنجازات كبيرة. لا أتصور أنه ثمة سيادة لنوع أدبي على نوع آخر، أو القول إن (هذا الزمن هو زمن الرواية) صحيحة على إطلاقها لأن هذا الزمن أيضا هو زمن الشعر، ولأن للشعر زمنه الدائم في كل الأوقات. لا يمكن أن تتصور الحياة دون شعر، والشعر العربي إذ يبتدع الآن لنفسه مسارات جديدة ويخترق آفاقا جديدة، فإنه يبدع في هذا المجال إبداعات لا تقلّ كمّا أو كيفا عمّا تبدع الرواية. قصيدة النثر تحقق الآن نوعا من الوجود الكثيف وتفسح السبيل أمام مناطق من الحساسيّة الشعريّة لم تكن تتاح لها في زمن الشعر العمودي أو التفعيلي أو ما سمّي بالشعر الحر إلى غير ذلك، وذلك بطبيعة تطور الحساسيّات الفنيّة والآليات الاجتماعية معا. أعتقد أن الشعر لا تزال له قيمته الكبيرة، هذا إذا أضفنا أنه دخل في صلب العمل الروائي فأصبح العمل الروائي الآن محتويا على الشعر ومتضمنا إياه. لقد ظهرت تلك الأنواع من الكتابة التي أسميها الكتابة (غير النوعية) أو (القصّة - القصيدة) والتي ينصهر ويندغم ويندمج فيها العنصران أو المقومان الأساسيان: مقوم السرديّة ومقوم الشعريّة. إن ما يفرق (الرواية - الشعر) أو (القصة - القصيدة) عن القصيدة البحتة هو سيادة أو جوهرية العمليّة السرديّة في الرواية أو القصة، وسيادة الإيقاعيّة أو الموسيقية في القصيدة سواء كانت قصيدة تفعيلة أو نثر، هذا التداخل بين الأنواع لا ينفي وجود الأنواع ولا يؤدي إلى خلط الأوراق تماما، بمعنى أن الرواية حتى ولو كانت شعرية تظلّ رواية لأن العمليّة السردية أساسية فيها، وقس على ذلك.. * ألا ترى أن امتزاج الشعر بالرواية قد يلغي حضور أحدهما على حساب الآخر؟ ** ما زلت أقول إن الأنواع تبقى كما هي، ولكن تتطور وتتغير وتتمثل إنجازات الأنواع الأخرى وتستوعبها دون أن تفقد خصوصيتها. حاولت أن أتقصى الخصائص الفارقة التي تحدّد نوعا عن نوع، ويمكن إيجادها أو تلخيصها في عبارة تبسيطيّة واضحة وهي أن السرد هو الذي يميز الأعمال القصصيّة عامة وأن الإيقاعيّة أو الموسيقيّة هي التي تميّز الأعمال الشعريّة العامة. * إلى ماذا تعزو الحلقة المفقودة بين المبدعين على اختلاف اختصاصاتهم في شتى أنحاء الوطن العربي؟ ** تلك من مظاهر التردّي والقصور في البيئة الثقافيّة العربيّة، وذلك يرجع أساسا إلى تعقيدات بيروقراطية واعتبارات تتخذها السّلطات المختلفة أساسا لها (الرقابة ومسائل التصدير والاستيراد وتحويل العمولات والجمارك وما إلى ذلك من معوقات) تنبع في الأساس من نظرة هذه السلطات أو الجهات الرسميّة إلى الكتاب كسلعة أو بضاعة، بل لعلّه أخطر من ذلك في رأي بعض هذه الجهات (بعضها تعامل الكتاب كمسألة هدّامة أو مخربة أو مدمرة لعملية التضليل الإعلامي العام)، وذلك كلّه يؤدي إلى قطع الصلات بين المبدعين، الأمر الذي يؤكد الحاجة الملّحة لكسر هذه العوائق وتوثيق التبادل والمعرفة وتدفق سيولة العمل الثقافي بين الأقطار العربية، وهذا واجب أساسي على المثقفين وهيئاتهم المستقلة الديمقراطيّة. * بين الأدب والأيديولوجيا حدود التقاء وحدود اختلاف، كيف تنظر لهذه الحدود؟ ** هناك بالطبع، نوع من الأيديولوجيا العقائديّة المتزمتة الجامدة التي تزعم لنفسها احتكار الحقيقة ونجد فيها إطلاقية شموليّة كأنها حتميّة، وهذا النوع من الأيديولوجيا مدمر للفن بصفة عامة وللأدب على الأخص، ولكن هناك دائما، وهذا ما أستطيع أن أسلم به، نوع كامن من الأيديولوجيا المرنة، المطلعة، المتفتحة لقبول وجهة النظر الأخرى، ولكنها تعتمد قيما معينة وأنماطا من السلوك العقلي معينة. هذه الأيديولوجيا ينبغي أن تكون مضمرة ومتضمنة في العمل الفني، حتى مع اتصافها بصفة التفتح والانطلاق، ويجب (ألا) تكون سافرة أو مباشرة لأن السفور والإفصاح والنّظري والعقلي مجاله ساحة التنظير والدراسة والمقالة والبحث الجاد، أما العمل الفني أو الأدبي فهو يشمل التنظيرات ويطويها تحت جناحيه بحيث تختفي تحت أقنعة شفافة من الإيهام، وبحيث تكون أفعل وأنفذ وقعاً لأنها ليست مستفزة ولا نافرة العروق. قصيدة النثر * ما رأيك في المسارات الجديدة للقصيدة الحديثة، هل بإمكانها البقاء والنفاذ إلى الذاكرة الجمعية؟ هل بإمكانها قول ما لم يقل؟ ** قصيدة النثر لها تاريخها العريق في الأدب الغربي وفي التراث العربي على السواء، وأعتقد أن أعمال الصوفيين القدامى من أمثال النفري وابن عربي والجنيد وغيرهم هي قصائد نثر بامتياز تجمع بين خصائص الشعر دون أن تتقيد بالتفعيلات الخليليّة التي تخرج إيقاعاً نمطيا رتيبا في نهاية الأمر، ولا يتغلب على رتابتها ونمطيتها إلا عتاة الشعراء وفحولهم وكبارهم. قصيدة النثر فيها إمكانيات لا حدود لها عندي، وفيها أيضا إمكانية التجاوب مع التطورات الاجتماعية والنفسيّة والثقافية المعاصرة بينما القصيدة التفعيليّة تكاد تكون لا تغيريّة. * هل واكبت الرواية العربية المعاصرة التطورات المختلفة وهل يصح القول إن الزمن زمنها ولم يستطع أي جنس أدبي آخر أن يتجاوزها؟ ** هناك تنظيرات كثيرة، لعل أهمها تعقد المجتمعات العربية المعاصرة وتراكم ظواهرها المختلفة واحتشادها وابتعادها عن بساطة كانت مألوفة أو وضوح كان مألوفا في العهود السابقة، والرّواية كنوع أدبي من شأنها أن تتواكب مع هذه التطورات وهذا التعقد وهذا التراكم... ولكن هذا التفضيل على صحتّه المبدئيّة أو الأوليّة لا يقنعني تماما أو لا يتقصى الظاهرة حتى حدودها الأخيرة، أتصور أن هناك أيضا دافعا داخليا في قلب المشروع الأدبي العربي يؤدي إلى نوع من تراكم الخبرات الإبداعية وتعقدها من الناحية الجمالية البحتة، بحيث يتطلب الأمر تجاوز الأشكال القديمة التي كانت تتلخص في الرواية التقليديّة أو القصة القصيرة الموجزة أو القصيدة التفعيليّة على حدّ سواء إلى أشكال أكثر تعقيدا وأكثر احتشادا بعناصر الخبرة الجماليّة نفسها فضلا عن التأثيرات الاجتماعية. ليس هناك في تصوّري نوع من التساوق والتجاوب الآلي الميكانيكي بين الظاهرة الاجتماعيّة والظاهرة الفنيّة، إنهما يتفاعلان ويؤثران أحدهما في الآخر ولكنهما لا يتواكبان بحيث تنعكس إحداهما على الأخرى انعكاسا مطرّدا في كل الأحوال. هناك تداخل وتعقد في العلاقة بين الظاهرة الاجتماعيّة والظاهرة الأدبية، ومن ثم فإن التفسير من حيث ازدهار الرّواية أو غيرها إذا اقتصر على الجانب الاجتماعي فإنه يكون قاصرا ويجب أن تمتد محاولات التأمل والتنظير إلى ما هو أبعد من ذلك دون أن تغفل الظاهرة الاجتماعيّة في الوقت نفسه. مغبون من يعرف إدوار الخراط جيداً، على المستوى الإبداعي، يشعر بأن الرجل ظلم نقدياً، ولحق به غبن ليس قليلا قياساً بإنجازه، وباستثناء كتابين أنجزهما باحثان مصريان وبضع مقالات أو دراسات نشرت هنا أو هناك، لم يحظ إدوار الخراط بدراسات كاملة تحيط بمنجزه الإبداعي والثقافي الشامل. فمن 1996 وحتى 2014، أمكن حصر كتابين كاملين فقط عن كتابة إدوار الخراط، وكلاهما كان دراسة أكاديمية /‏‏ أطروحة بحثية لنيل درجة الماجستير، الكتاب الأول: «يقين الكتابة ـ إدوار الخراط ومراياه المتكسرة» لحسني حسن، وصدر عام 1996 عن المجلس الأعلى للثقافة بالقاهرة. والثاني: «دروس التفكيك ـ الإنسان والعدمية في الأدب المعاصر» لحسام نايل، وصدر عن دار التنوير بالقاهرة 2014. بالتأكيد هناك الكثير من المقالات التي تعرضت بصورة أو أخرى لأعمال إدوار الخراط، وخاصة ثلاثيته الروائية الكبرى «رامة والتنين»، «الزمن الآخر»، و«يقين العطش» لكنها لم تجمع حتى الآن في مجلد نقدي يضم ما كتب عنه وعن أعماله. دور النقد ليس «المصطلح» - بالقطع - هو السابق أو الحافز أو المقياس، بل يأتي الإبداع أولاً وأساساً، بقوانينه الخاصة التي يضعها الفنان لنفسه، وعلى نفسه، إن هذا النوع هو الذي تصبح فيه سردية القصة على الأقل متوازية مع شاعريتها، إنْ لم تكن متفوقة عليها، يبقى الخلاف بين «القصة - القصيدة» والقصيدة البحت بمعنى أن «القصة - القصيدة» يظل فيها دائماً نزوع نحو «الحكي» بشكل جديد، أي السرد في تمازج، يزداد أو يقل، مع الشعر، أما القصيدة التي تحكي فتظل الشعرية فيها هي الغالبة، ولأول وهلة يبدو أن الفروق بين النوعين تتقارب أو تكاد تتلاشى، وأن الجنسين الأدبيين: «القصة - القصيدة» و«القصيدة السردية» يتقاربان، بل يوشكان أن يمتزجا، وهنا يأتي دور النقد الأكاديمي التنظيري الذي لا بد أن يقوم بعد أن يتوافر لهذين النوعين قدر كاف من الإنجاز والتحقق في سياق أدبنا العربي. عابر سبيل أنا إسكندراني المولد والنشأة. قضيت في الإسكندرية أخصب فترات العمر، حتى أبريل عام 1955. وأنا صعيدي الأصل والمنبت، وقد قضيت في الصعيد ثلاث فترات: الأولى في الطفولة الباكرة جداً، في فترة النسيان الطفولي وإن كنت أذكر منها صوراً وأحداثاً حادة كأنها وقعت لي في حلم لا ينسى، والثانية في السابعة من عمري عندما مررت بتجربة خطيرة، والثالثة إبان اشتداد الغارات الجوية على الإسكندرية في صيف 1941، عندما كنت في الخامسة عشرة. ومع ذلك، أحس أنني ما زلت أعيش حقاً في الإسكندرية، هي بيتي وموطني، وفي الصعيد معاً، تربة جذوري وأرض أهلي وناسي، وأنني عابر سبيل في القاهرة أمضيت فيها عقوداً كأنني على سفر.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©