الثلاثاء 23 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

ضد التجنيس..

ضد التجنيس..
22 نوفمبر 2012
توجد جملة من القضايا الأدبية، ما زالت النخب الثقافية مشغولة بها، ولم تحسم أمرها حول التعاطي معها، سواء بالرفض المطلق لها أو القبول التام بها، أو حتى التوقف في المنتصف، وقبول البعض ورفض البعض. وهذا الشتات أدى إلى نوع من التراجع المعرفي وأعاق أن تكون سرعة التغيير في المجالات الأدبية بالمستوى المطلوب.. والمقصود بالتغيير تلك السرعة في التفاعل مع الإنسان وهمومه وقضاياه، ما يسفر عن إنتاج أدبي يتوافق مع أمة عريقة وكبيرة كالأمة العربية. الجوهر والمظهر ناقشت تلك الملتقيات المتخصصة جوانب فنية ولوجستية ومالية تتعلق بضعف حركة النشر العربية، لكنها لم تقترب من قضية جوهرية لها علاقة بالأزمة، هي ما يتعلق بالمثقفين أنفسهم وبصفة عامة الأديب العربي، الذي تحول إلى شخص يقدس النوع الأدبي، ويدافع عنه وينافح، وكأنه شكل مقدس لا يجوز المساس به أو تطويره، لذا تجد حركة التحديث في هذا المجال بطيئة. فعلى سبيل المثال، ما زالت ماثلة في الأذهان تلك الأزمة التي ضربت الأروقة العربية الأدبية، عندما بدأ شكل الكتابة الشعرية في التغير، فظهر ما يسمى بشعر النثر أو الشعر الحر، وما لاقاه هذا النوع الجديد من جفاء واستنكار وهجوم. وقد مضت عدة عقود حتى هدأت عواصف القتال في هذا المضمار، ولم تكن له أي فائدة تذكر سوى أن هذا السجال أوقف التدفق الشعري، أو على الأقل أصاب القارئ بالتوجس والهروب، وكان ذلك على حساب الحركة الشعرية نفسها، وعلى حساب تطورها وتوهين الدراسات المعقودة من أجلها. في هذا السياق نتذكر كلمات ثمينة للدكتور شربل داغر، في كتابه القيم “الشعرية العربية الحديثة”، الصادر عن دار أزمنة للنشر والتوزيع، عندما قال: “كسر العمود الشعري، هذه العبارة راجت كثيرا في الأدبيات النقدية العربية للتدليل على حركة الشعر الحر ـ هذه الحركة التي تخلت منذ عام 1947 عن البحور الشعرية المعروفة، لماذا الكسر؟ هل استعملت هذه العبارة استكمالا لصورة العمود، فالعمود يكسر عمليا، أم للدلالة على نهاية عهد مديد من السيطرة العروضية الطاغية، التي لا تستقيل مثل الطغاة بل يتم كسرها، وحسب؟ عندما نتأمل بهدوء حقيقة الثورة التي أعلنتها في عام 1947 نازك الملائكة مع قصيدة “الكوليرا”، وبدر شاكر السياب مع قصيدة “هل كان حبا؟” يتضح الفارق بين حقيقة هذا التغير الفعلية والكتابة عنه. هذا يفسر، بصورة غير مباشرة، كم كان الشعراء يضيقون ذرعا بهذه القيود (العروضية) بحيث ثاروا عليها وكسروها، لهذا تبدو حركة الشعر الحر حركة إيقاعية قبل أي أمر آخر”. الرفض العربي متواصل لكل جديد لدرجة المقاومة والتهوين والتقليل من شأن أي مؤلف يخرج عن إطار التجنيس ـ النوع الأدبي ـ فعندما يظهر منجز أدبي لا بد من تصنيفه أهو شعر أم رواية أو مجموعة قصصية، مسرح وغيرها من الأجناس الأدبية المعروفة، يظهر الاحتقار والنقد اللاذع ـ طبعا دون تعميم ـ حيث توجد أسماء عربية نقدية كانت بعيدة تماما عن التعصب الأدبي، وعلى سبيل المثال فإن ممارسة الإقصاء لمجرد محاولة التحديث لم يفعلها الشاعر والناقد والدكتور عبدالعزيز المقالح، فقد كتب مقالة حملت عنوان: “الكتابة خارج قضبان الأجناس الأدبية المألوفة”، معلقا على كتاب وصله بعنوان: “لأنك إنسان”، من تأليف عبدالله زايد، ولم يكن يحمل هذا الكتاب أي ملامح للشعر أو للقصة أو لأي جنس أدبي، فكتب قائلا: “في زمن البحث عن الحرية، هذا الحاضر الغائب، يجد الأديب المبدع نفسه في حال بحث مستميت عن حرية ثانية لا تقل أهمية عن الحرية الأولى، حرية الخلاص من قضبان الأشكال الأدبية التي خضع لها المبدعون قرونا طويلة، وفي ظل هذا البحث المستميت يصطدم المبدع العربي بالمفاهيم السائدة عن الأجناس الأدبية والسمات غير المشتركة فيما يحاول في ثورة غير آمنة العواقب أن يكشف طريقا جديدا. كتاب “لأنك إنسان” لعبدالله زايد، يبدأ ببيت شعري: مازلت أعرف أن الصدق معصيتي.. والشوق ذنب وأني لست أخفيه، وكأني بهذا البيت من الشعر يختزل المؤلف فيه نصوصه الجديدة، يختزل أشواق هذا الكتاب وحنينه إلى نوع من الكتابة ما يزال التفكير في اجتراحها يشكل عند بعضهم نوعا من الذنب الأدبي ومعصية تستدعي التوبة، فقد مزج الشعر بالنثر، والانطباع بالقص، ويتقدم الكاتب إلى قارئه باسطا ذنبه، أعني شوقه الذي قال عنه في التقديم إنه ليس يخفيه”. لقد كان الدكتور المقالح حالة مختلفة من التشجيع لمواصلة مثل هذا التأليف التجريبي، فلم يصادر أو يتعصب للون أو لجنس أدبي، بل تعاطف مع المؤلف الذي أجزم أنه وجد اللعنات والإهمال والتجاهل. النقد الساخط ونحن بحاجة حقيقية لمثل هذه الوقفات، خاصة من الأسماء النقدية والأدبية الكبيرة في الوطن العربي. ولكم أن تتخيلوا أن مثل هذه القضية التي تعتبر لدينا حالة معاصرة، تحرر منها الغرب منذ أكثر من قرن، لنقرأ ما قاله الفيلسوف الإيطالي بينيديتو كروتشه (1956 ـ 1866) عن الأجناس الأدبية: “من نظرية الأجناس الأدبية والفنية تتفرع أساليب مغلوطة في الحكم والنقد، تقف بهم أمام الأثر الفني فيتساءلون أهو منطبق على قواعد شعر الملحمة أم قواعد المأساة؟ على قوانين التصوير الخارجي أم تصوير المشاهد؟ بينما كان عليهم أن يتساءلوا أهو معبر حقا بل ومؤثر؟ أهو فصيح أم يتمتم”. هذه القضية ـ وهناك غيرها ـ باتت عائقا فعليا أمام التحديث، بل أفرزت ممارسات نقدية من بعض النقاد، كأن يعلق على بعض المؤلفات بالسخيفة، أو الهابطة والمتواضعة، أو كأن يقول عن مؤلف ما إنه يجهل كيفية التأليف والكتابة. نعم لدينا تعصب نخبوي نقدي، بل وتعصب من بعض المؤلفين لجنس أدبي محدد، فبمجرد أن يقع بين أيديهم كتاب يحمل غلافه، على سبيل المثال، عبارة مجموعة قصصية دون أن يعنى مؤلفه بضبط نصوصه وفقا لقواعد وضعها نقّاد قبل عقود، ودخل في عوالم مبتدعة أخرجت النص من معايير الحدث والمكان والزمان، حتى تنصب عليه الكلمات الساخطة المؤلمة التي تبشر بفشل مشروعه الأدبي، وتقلل من تجربته. في الحقيقة، إن الإنكار الأدبي لا يتوقف عند هذه النقطة، بل يتجاوزها ليصل إلى إنكار ألوان أدبية ـ أجناس ـ أخرى تمارس ومعمول بها في كافة أرجاء العالم، ولا تفهم سببا لكل هذا التسطيح والتجاهل أو حتى محاولة إنكار وجود هذا الجنس الأدبي، وبالتالي تجاهله.. وربما تفيد هنا الإشارة إلى “السيرة الذاتية”، فهي في الغرب نوع أدبي يحظى بالاعتراف والترحيب، بل إنها اليوم تعد من أهم الأنواع الأدبية وأكثرها رواجا، وترحيبا من القراء، وأكثر المؤلفين شهرة هم الذين احترفوا كتابة السير، والمكتبة العربية يوجد بها الآلاف من الإصدارات الأجنبية عبارة عن سير ذاتية لقادة وزعماء وفنانين وموسيقيين وحتى لاعبي كرة القدم فضلا عن رجال الأعمال، لكن هذا النوع الأدبي يكاد يختفي في الوطن العربي. بل من المفارقات المضحكة، أن المؤلفة أو المؤلف الروائي العربي عندما يصدر عملا روائيا يتلقى عشرات الأسئلة جميعها تتمحور حول: هل هذا العمل الروائي سيرة ذاتية؟ وبطبيعة الحال يسارع المؤلف إلى النفي والإنكار، ولا يتردد في التبرير والتوضيح، وأظن أنه لو طلب منه الحلف بأغلظ الأيمان بأن عمله الروائي بعيد عنه وعن حياته لفعل. فهل يدرك النقّاد العرب والمؤلفون والمبدعون على حد سواء أننا نعيش في زمن ذابت فيه الفواصل وتكاد تغيب فيه التصنيفات؟ وأن الانغلاق، أو الانحصار داخل القوالب الجاهزة من شأنه أن يفرمل حركة الإبداع العربي؟ يقول محمد عبيدالله، في كتابه “بنية الرواية القصيرة”: “يبدو أن الحديث عن النوع الخاص لم يعد حاضرا أو مسموعا، تماشيا مع حركة الأدب وتطور النصوص الإبداعية، تلك النصوص التي هجرت النقاء، وعمدت إلى الإفادة من الأنواع الأخرى”.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©