الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

«سماء قريبة».. شموخ يندلع من رائحة التراب

«سماء قريبة».. شموخ يندلع من رائحة التراب
13 ديسمبر 2014 23:25
إبراهيم الملا (دبي) ضمن عروض مسابقة المهر العربي بالدورة 11 لمهرجان دبي السينمائي الدولي، قدمت الشاعرة والمخرجة الإماراتية مساء أمس الأول، فيلمها التسجيلي الطويل «سماء قريبة» في سياق مشروعها البصري المتواصل لتوثيق الذاكرة الصاعدة من جذرها المحلي، ومن بعدها النوستالجي والحميمي الموصول برائحة الأرض، وتهافت الأرواح المنسلّة في دروبها ومسالكها، قدمت الغانم في عملها الجديد المحتشد بصوت الصحراء وبجلاله المكتنز والفائض، أول مالكة إبل إماراتية تقرر دخول مسابقة (مزاينة الإبل) والمزاد الخاص بالإبل في أبوظبي، وهي فاطمة الهاملي التي يكتمل وجودها الأصفى والأنقى وسط هذه الإبل، وفي معية البراري البكر والمشرعة على التأملات، وعلى دهشة متجدّدة تقرّبها كثيرا من السماء ومن الخالق ـ كما تصف ذلك بلسانها ـ ومن هنا أتى عنوان الفيلم ليوثق مقولتها، وهي مقولة لن تكون صادرة سوى من حدس أنثوي فائض بالحنان، كما بالشموخ المندلع من هذه الرمال، وكأنه قامة من ذهب. تفاصيل مرهفة يتلمس فيلم «سماء قريبة» تلك التفاصيل المرهفة في العلاقة العاطفية الجوّانية المتبادلة بين فاطمة وبين النوق والجٍمال والركاب المحيطة بها في مزرعتها، وستكون هذه اللغة الخاصة المعتمدة على الإشارة والأصوات التعبيرية هي عدتها الكافية لترويض النوق ومخاطبتها بهذه الشيفرة البدوية والفطرية الخالصة، وتهيئتها بعد ذلك للمشاركة القادمة في مسابقة مزاينة الإبل، ورغم عزيمتها واندفاعها وقوة شخصياتها أثناء المسابقة ومزايدات البيع، إلا أننا نكتشف وضمن مسارات الفيلم وخصوصا في المشاهد التي تتحول فيها الكاميرا إلى ما يشبه مرآة للبوح والمكاشفة، أننا أمام امرأة مسكونة بالوجع والفقدان، ولا تقاوم دموعها عند أول مواجهة مع ذاكرة الغياب والموت، واستحضار صورة والدها الذي ورثت عنه قوة الشخصية والعناد وثبات الموقف، فهناك في واحة (الظفير) بمحاضر ليوا، وفي عمق البادية وعلى مشارف محضر (الماريه) سوف تبوح فاطمة للكاميرا بالكثير من آلامها، عندما انفصل والدها عن أمها، وخطفها هي في الخامسة من عمرها، وكيف عزز فيها هذا الانفصال غريزة الاستئناس بالوحشة، والاعتماد على النفس، والاستقلالية في اتخاذ قراراتها وسط مجتمع ذكوري ومحيط تقليدي يضع المرأة دائما في الهامش، وفي حيّز الاستلاب المقيّد بالأعراف المتوارثة. وعندما تزور فاطمة منزلها القديم بصحبة ابنها تصبح دموعها أيضا هي اللغة الوحيدة التي يمكن به أن تخاطب زوجها الراحل منذ سنوات بعيدة، ففي هذا المنزل المنهدم على أفراحه ومشاغله وحيواته العتيقة ستنبعث تلك الصور الذائبة في النسيان، وسنجد أنفسنا مرة أخرى أمام أنثى تداري آلامها خلف عزيمتها الصلبة وتقول: «أنا بنت رجال، أنا ذيبه وهم ذيابه». الحاضر والماضي يسترسل الفيلم في رصد استعدادات الهاملي للمشاركة في مسابقة (مزاينة الإبل)، وهناك نتعرف على الناقة التي أطلقت عليها اسم (البيت متوحد)، وناقة أخرى باسم (زعيمة)، وهناك أيضا (مبروكة) و(سرابه)، وهي النوق التي تعتني بها وتتواصل معها في مزرعتها الخاصة، أكثر من اعتنائها وتواصلها مع أبنائها وبناتها، إنها هنا في مملكتها البرّية وفردوسها الصحراوي الذي لا تريد مغادرته من أجل الاستقرار في المدينة، حيث البيوت العالية والصماء التي لا يسكنها سوى الضجر. تسعى فاطمة للفوز بالناموس وبسيارة (الرنج)، وأن تدهن ناقتها في النهاية بالزعفران كتقليد شعبي وبدوي أصيل تكتمل به بهجة التتويج، سيكون هذا الفوز هو طموحها الأقصى، ولكنها وللسنة الثالثة تخسر الرهان، ويتسرب من وراء برقعها ذاك الأسى الفضّاح، صاحب الألف وجه، وعندما تحزن فاطمة الهاملي، فإنها تشرك الطبيعة كلها في مشاع هذا الحزن والانكسار الذاتي المنعكس على محيطها، وتقول (حتى العصافير زعلانين)!! وتبدو المفارقة واضحة، عندما تستخدم فاطمة هاتفها النقال ووسائط التواصل الاجتماعي الحديثة، بينما هي غارقة في تفاصيل الماضي ومنهمكة بهذا العالم السحري المحتفل بعزلته حتى آخر حبة رمل وآخر نجمة في ليل الصحراء الطويل، مفارقة ستذوب تدريجيا في هذه الحرارة العاطفية والدفق الوجداني والفضول والكبرياء والشغف التي تختزنه، وتعبر عنه فاطمة وبطموح لا يمكن له أن يصطدم بسقف، تطمح فاطمة بأخذ (مطيتها) معها وأن تسافر وتمثل الدولة في بلدان العالم المختلفة لتقول للجميع أن المرأة الإماراتية وبزيها التقليدي وقوة شخصياتها، وحضورها قادرة على تخطي المستحيل، الذي لن يكون سوى الوهم ذاته، المتصلب في أذهان الكثيرين. استطاعت نجوم الغانم في هذا الفيلم الذي حظي بترحيب كبير من جمهور العرض، أن توازن بين الحدث الخارجي المحيط بهذه الشخصية الاستثنائية، وأن تقتنص من خلال اللقطات العلوية القارئة لقاموس الصحراء وكثبانها وتلالها، ذلك الصوت الخفي والظلال المتوارية والحدوس الفاتنة في دواخل فاطمة الهاملي نفسها.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©