الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

عرب البحر

عرب البحر
30 نوفمبر 2011 23:24
يعتبر كتاب “عرب البحر” للكاتب والمصور الفوتوغرافي الأسباني “جوري استيفا” والصادر مؤخرا عن دار “بينونسولا” في برشلونة، رحلة شيقة ومغامرة لا تقل إثارة عن رحلات السندباد البحري، وأيضا يتضمن الكثير من المعلومات التي تدفع إلى تساؤلات عديدة ربما لم يقصدها الكاتب ولكن لو وجدت في حينها من ينتبه إليها لأمكن كشف الكثير من التغيرات التي مرت وتمر بها منطقتنا العربية منذ أن بدأت رحلاته التي دونها هنا في العام 1977. وان كان هذا التاريخ يذكره الكاتب الأسباني في حكايته “عرب البحر” على أنه بداية رحلته انطلاقا من القاهرة إلى سلطنة عمان ذهابا وإيابا بداية من القاهرة ومرورا بالسودان ثم عبور البحر الأحمر إلى شواطئ عدن باليمن، مستخدما وسائل النقل البرية الممكنة من الحمير والسيارات والقطارات والمراكب، ولنقل استخدام كل ما أمكنه من وسائل سير أو نقل متاحة، وكأنه يريد بالفعل أن يعيش مناخ المغامرة الذي حلم به منذ طفولته وهو يتابع قراءة مغامرات السندباد البحري التي كانت منتشرة في أوروبا في كتب مصورة للأطفال طوال القرن العشرين. وربما الجانب الأكثر تشويقا في رحلة بحث جوردي استيفا عن “عرب البحر” يكمن في رحلته عبر السودان، شماله وجنوبه، وبشكل خاص خلال وجوده في العاصمة الخرطوم وجوبا، حيث بدأ في ذلك الوقت يرصد ظواهر مهمة أهمها بداية الأحداث التي كانت تمر بها الصومال التي انتهت بتفتيتها وجعلت منها دويلات تشبه كانتونات مستقلة، فقد نزل بين شباب معسكرات الشباب بالخرطوم واختلط بأولئك القادمين من الصومال سيرا على الأقدام بحثا عن جواز سفر اوروبي أو كندي للهروب من جحيم الفقر وأهوال الحروب. وتكشف رحلته في ذلك الوقت إلى جوبا عاصمة جنوب السودان أسرار عديدة رصدها خلال رحلته إلى هناك بحثا عن ابن عم له يعمل مع مجموعة من الأوروبيين المغامرين الذين يتنقلون بحرية في منطقة تكاد تغيب عن حكومة الخرطوم في ذلك الوقت، متخفين تارة تحت ستار “رحلات السفاري” المنظمة بحثا عن المغامرة في الأدغال الأفريقية، وتارة أخرى تحت ستار “المنظمات غير الحكومية للمساعدات الإنسانية” التي دخلت تلك المنطقة تحت ستار مساعدة اللاجئين الهاربين من الحروب الأهلية في الصومال واريتريا وإثيوبيا، أو الباحثين عن مأوى بعيدات عن مواجهات الجيش السوداني وحركة تحرير جنوب السودان. وهناك لقطة مهمة يذكرها الكاتب في وصفه لرحلته عند وصوله إلى جوبا، تلك المدينة التي تكاد تكون بعيدة عن المدنية لولا عربات الجيب الأوروبية التي تجري على طرقاتها المتربة، فقد فشل في العثور على ابن عمه الذي يعمل مع شركة تدّعي أنها تنظم رحلات لمن يريد أن يغامر بالدخول إلى الأدغال الأفريقية، ولما لم يعثر عليه وجد أوروبيا آخر يعمل بالشركة نفسها، ولكنه رفض أن يدلي له بمعلومات عن الجهة الموجود بها قريبه هذا، ولاحظ الكاتب إيحاءات تشي بسرية العمل الحقيقي الذي يقوم به هؤلاء الأوروبيون في تلك المنطقة والتي اتضحت لنا الآن بعد انفصال جنوب السودان عن شماله، ربما لو انتبه احد إلى تلك المعلومات لاكتشف مبكرا ما يحاك لتلك المنطقة من مؤامرات كالتي تقوم بها جهات غربية ذات نفوذ في منطقتنا مستغلة ما يسمى “الربيع العربي”. وليصل إلى موانئ البحر الأحمر استقل جوردي استيفا شاحنة عادية تكدس في صندوقها مثل غيره من السودانيين الذين جرب كرمهم في مساعدته ومشاركته القليل الذي يملكونه إلى أن يصل إلى مدينة “سواكن” الأسطورية القديمة المهجورة، ويتجول فيها مستخدما خياله في الوصول إلى زخمها كمدينة تجارية ومهمة في منطقة شرق أفريقيا في الزمن القديم وكيف وصل بها الحال اليوم لتصبح أطلالا. ومن سواكن إلى “بور سودان” ليعيش فيها أياما انتظارا للحظة عبوره إلى اليمن على الجانب الآخر من البحر الأحمر، إلا إنه يفاجأ بوجود فندق وحيد هناك أصبح هو ساكنه الوحيد، ويعيش صاحبه اليوناني برفقة أمه العجوز على استخدام السودانيين لمطعمه ومشربه الذي يأوون إليه لأنه المكان الوحيد الذي يوفر لهم هذه الخدمة. عند وصوله إلى اليمن يتبع شاطئ ميناء “موقا” الذي خرجت منه شحنات البن اليمني الشهير في العصور الوسطى ويعيش مغامرة حقيقية تكشف له حياة اليمنيين القدامى التي لا تختلف عنها حياتهم اليوم، وليعيش قصصا يختلط فيها الواقع السحري بالخيال، ويصف وقائع عاشها كأوهام ولكنها حقيقة، منها ذلك الرجل الذي إلتقاه في رحلته من السودان إلى اليمن والذي عاد بعد عقود من الغربة بحثا عن شقيق له تركه وعاد ليجد زوجة أحية غريبة الأطوار التي تشبه نساء القرون الوسطى. ثم انطلاقا من دبي بالطائرة إلى عمان، هذه المرة يواصل رحلته في ضيافة رسمية من سلطنة عمان، بحثا عن هؤلاء العرب القدامى، أو لنقل بحثا عن آثارهم التي تركوها خلال سيطرتهم على مساحات شاسعة من بحار تلك المنطقة الممتدة من القرن الإفريقي ووصلت سيطرتهم النمالية والثقافية حتى الهند واندونيسيا رغم أن التاريخ يذكرهم على أنهم مجرد بدو عشقوا الصحراء وهاموا فيها بحثا عن المياه التي ترويهم وتروي إبلهم وخيولهم المقاتلة وشياههم. يلتقي الكاتب المغامر في هذا الجزء من رحلته مع الجانب الرسمي، إضافة إلى استضافته في فندق فخم وتوفير سبل الراحة له في تنقلاته وتوفير رفيق أو دليل خلال هذه الرحلة يأخذه إلى معالم تاريخية تعكس ما كان من ماضي، إلا انه سرعان ما هرب من تلك الرسمية إلى الشوارع القديمة في العاصمة العمانية، وبحث عن صداقات كالعادة توفر له مادة دسمة لرحلته، ومنها هؤلاء الأصدقاء الذين التقاهم صحافي مصري يعمل بإحدى المجلات الثقافية العمانية ساعده على الدخول إلى عوالم ما كان الدليل الرسمي أن يوفرها له. إن هذا الكتاب يصور رحلة “سندباد جديد” جاء هذه المرة من أسبانيا ليفرد أشرعته في البحر الأحمر وما حوله من مياه ويابسة بحثا عن العرب الذين حلم بهم في مرحلة الطفولة، خلال تلك الرحلة ووصفها كتابة نجح المؤلف في إلقاء نظرة واقعية وحالمة في الوقت نفسه إلى هذا العالم من البحارة العرب الذين أبحروا في المحيط الهندي مع الرياح الموسمية التي تحرك القوارب بحثا عن التوابل والحرير والعاج والأحجار الكريمة... من خلال ما يصفه هذا الكاتب الذي وهب نفسه للمغامرة نجد إن هذه الطريق بالكاد قد تغيرت منذ زمن البحار الأسطوري. رغم أن هؤلاء البحارة العرب استخدموا في رحلاتهم “غزواتهم” سلاحا واحدا فقط هو التجارة، وساعدوا بهذا السلاح على انتشار الإسلام وثقافتهم العربية، وتلك التجارة نفسها قادت الحضارة الهندية، ابنة الرياح الموسمية، لتشكل حضارة عربية فريدة تجمع بين عناصرها أفضل ما أنتجه العرب والفرس والهنود والأفارقة. “عرب البحر” هو كتاب سفر بالمعنى الحقيقي للكلمة، فهو عبارة عن رحلة غوص في واقع مختلف عن الذي اعتاد عليه. جوردي استيفا جمع فيه الأسطورة العربية مع الرغبة في استرداد رماد عالم اختفت ملامحه تماما، لأن “كل شيء يتغير على الرغم من أن الذاكرة تبقى”.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©