الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

هل الحل في «العلمنة المؤمنة»؟!

19 نوفمبر 2012
إن «العلمنة المؤمنة» كفكرة وكمناخ فكري وسياسي يمكن أن تحظى بمقبولية ورضى في بيئتنا الثقافية والتاريخية الإسلامية... وما نقصده من هذه الفكرة هو جعـل الدولـة العاملـة على خدمة الفرد، والمشتغلة في اللحظي والآني والنسبي، بمنأى عن التأثير المباشر لآراء وأفكار بعض رجال الدين ممن يدّعون امتلاك سلطة روحية على الناس، وينصّـبون أنفسهم ممثلين للطائفة أو المذهب أو الدين ككل، زاعمين أنهم مرجعية وحيدة لفهم هذا الدين أو ذاك المذهب ووعيه وتفسيره. ومن هنا ضرورة عدم زج الدين في الصراعات السياسية اللحظوية للدول، وجعله بعيداً عن الأهواء واللعب والحيل السياسية، وإبقائه مرجعية دينية وحضارية عمومية للناس والأمة ككل، تمتلك القوة والزخم المعنوي الكبير للعمل والبناء والتحفيز الذاتي.. بما يحقق مصالح الناس ومقاصدهم العامة... والإسلام كدين إنساني، لاشك أن له تشريعات مدنية تضع القوانين وتنظم أمور الناس على أساس من مصلحتهم وكرامتهم وسعادتهم وتأمين مستقبل زاهر لهم، لا فرق في ذلك بين أديانهم ولغاتهم وأعراقهم... وهذه هي التطبيقات الأولية لفكرة العلمنة المؤمنة. وتزداد الحاجة في اجتماعنا الديني الإسلامي لهذه الفكرة انطلاقاً من وجود خلفية نفسية سلبية لدى مجتمعاتنا تجاه مصطلح العلمنة كما هو مفهوم وسائد عندنا من حيث إنه يعني مناهضة الدين، وهو المعنى المرفوض عند غالبية المسلمين الذين قد يفهمون ذلك القول الملتبس باعتباره دعوة للإلحاد. وربما يكون لهذا المناخ السلبي القائم على هذه الفكرة أو المصطلح ما يبرره، وهذا طبيعي فذلك المعنى نتج من تجربة أوروبا مع سلطة الكنيسة الروحية على الناس في القرون الوسطى، وهي التجربة التي لم يعشها المسلمون الذين يُفترض أن دينهم ليس فيه “رجال دين” يمارسون سلطة على الناس ويفرضون ذواتهم واسطة ضرورية بين المرء وربه. وبتعبير آخر فإن العلمانية التي تفصل الدين عن الدولة ثم عن الحياة ظهرت في أوروبا كثورة على تسلط رجال الدين، وليس لها أن تكون مقبولة عندنا حيث لا نحتاج ثورة على “رجال دين” سلطتهم غير مسلّم بها ولا داعي، من ثم، للثورة عليهم. ولا شك أن لفكرة العلمنة المؤمنة قواعد وأسساً وركائز في الوعي الديني الإسلامي، ولهذا فمن الممكن جداً أن تعطي قوة الدفع والطاقة اللازمة داخل الاجتماع الديني والسياسي العربي الإسلامي. ولب الموضوع هنا هو ضرورة النظر إلى حجم المشكلة على الأرض، حيث إنه لا بديل عن إصلاح الحاضر العربي حتى ولو نجحت فيه ثورات الإصلاح العربي الراهنة، لأنه نجاح جزئي يحتاج لعملية نقدية للجوهر الفكري. ولكن بدوره الحاضر العربي لن يصلح من دون إصلاح الماضي المسيطر علينا حالياً وربما مستقبلاً. هذا مع أن الزمن والتاريخ الماضي -الذي هو مستودع العناصر الروحية والمادية لأية أمة- سيبقى حاضراً وفاعلاً بقوة في عالمنا العربي والإسلامي، وبخاصة في جوانبه الدينية. ومن هنا، لابد من العودة للتراث الكبير بحجمه المادي والروحي، وإعادة دراسته والتنقيب فيه وقراءته في ضوء تجاربنا وتطوراتنا الراهنة عربياً وكونياً. وهذه العودة لا تعني أن ننساق وراء القديم ولا تعني مطلقاً أن نستعيد التاريخ المنقضي كما نقول دائماً، وإنما هي عودة نقدية لواؤها العقل والتفكير الحر لأن “ما حكم به العقل، حكم به الشرع”، ومصباحها الواقع والتطورات الكبيرة الهائلة في الزمان والمكان. أي أنها عودة عقلانية صرفة تعني رؤية التراث الماضي، في ما هو، وفي جميع أحواله، لكي نعرف كيف ننفصل لنغادر ونفارق، وكيف نتصل لنتفاعل ونتعاون. وهذه الحالة النفسية الإيجابية والعلاقة الحميمية الكائنة بين الناس وبين تاريخهم وتراثهم الفكري لابد من تقديرها وأخذها بعين الاعتبار في أي مشروع للحكم الصالح في بلداننا العربية والإسلامية، وقد كان عدم احترامها أو إهمالها وحتى محاربتها من قبل نظم الحكم القومية المستبدة السابقة أحد أهم أسباب ضياع وتفتت وانقسام وتخلف هذه الأمة. ولعل اشتداد أزمات العرب حالياً -خاصة بعد نجاح ما بات يسمى اليوم بالثورات أو الانتفاضات في بعض البلدان، والسعي لإقامة نظم حديثة مغايرة لبعض النظم المتكلسة السابقة- وزيادة وطأتها وقسوتها على مجتمعاتنا اليوم قد ساهم بفعالية كبيرة في إعادة طرح أسئلة التغيير والتطوير والحرية والحوار، وأن تحديث الحال- وتجديد الذات الدينية والمعرفية الثقافية هو المدخل الضروري والقاعدة الأساسية والأصل لإصلاح الفرع. لأن صلاح البدن من صلاح النفس. وما نشهده في لحظتنا الراهنة من انقسامات وتفرق وتشتت وتوترات فكرية وعملية -ومنها على سبيل المثال مرض التعصب والتطرف الديني الأعمى- يعود أساساً لجذور معرفية لاهوتية عقائدية، قبل أن يكون لأسباب اجتماعية أو اقتصادية أو غيرها. نبيل علي صالح كاتب سوري المقال منشور بالتعاون مع مشروع “منبر الحرية”
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©