الثلاثاء 23 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

ظاهر الأنثوي وباطنه

ظاهر الأنثوي وباطنه
10 ديسمبر 2014 23:24
لا يمكن أن ننظر في الأنثويّ بمعزل عن الذكوريّ، ذلك أنّ الذكوريّ والأنثويّ مفهومان متّصلان أنطولوجيّا (1). ولذلك فإنّنا إذ نتناول الأنثويّ إن في بعده الظّاهر أو الكائن نتناوله متّصلا بالذّكوريّ. يتّفق دارسو القرآن والسّنّة مهما تكن منطلقاتهم وتوجّهاتهم أنّه لا مساواة بين أحكام الرّجال وأحكام النّساء في الإسلام. وقبل أن نتبسّط في إمكانات قراءة غياب المساواة هذا، نريد أن نعرض بعض ضروبها مؤكّدين أنّ هذا المستوى هو مستوى المنظور الظّاهر للتعامل مع الأنثويّ والذّكوريّ. يتجسّم غياب المساواة الظّاهر بين الجنسين في مستويين، مستوى العلاقة بينهما من جهة ومستوى تمثّلهما في المجتمع من جهة ثانية. الأنثويّ من منظور الظّاهر فأمّا في مستوى العلاقة بينهما، فإنّ غياب المساواة يتجسّم في إباحة تعدّد الزّوجات والتّسرّي للرّجل دونا عن المرأة (2). كما تُعدّ القوامة وما ينتج عنها من أبرز وجوه غياب المساواة بين الجنسين. فالقرآن يقرّ بأنّ الرّجال قوّامون على النّساء (3)، ولهذه القوامة تبعات عديدة، منها اختلاف التّعامل مع الخوف من نشوز الرّجل وإعراضه من جهة والخوف من نشوز المرأة وإعراضها من جهة أخرى. فالخوف من إعراض الزّوج ونشوزه ينتج عنه سعي إلى الإصلاح بين الزّوجين (4)، والخوفُ من إعراض الزوجة ونشوزها ينتج عنه إباحة «تأديب» الزّوج للزّوجة بالوعظ والهجر في المضاجع والضّرب (5). وأمّا غياب المساواة في تمثّل الجنسين في المجتمع فيتجسّم في غياب المساواة في الميراث (6)، وفي غياب المساواة في الشّهادة على أساس اعتبار شهادة رجل مساوية لشهادة امرأتين (7)، وفي عدّ النّساء ناقصات عقل ودين بالمقارنة طبعا مع من هو أكمل عقلا ودينا (8)، إضافة إلى اعتبار النّساء فتنة مضرّة بالرّجال (9). ولعلّ تتويج غياب المساواة هذا يتجسّم في الإقرار الصّريح بأنّ للرّجال على النّساء درجة. وهي درجة اختلف تأويلها بين القدامى والمحدثين بعضهم يراها درجة بين الرّجل والمرأة والبعض الآخر يرى أنّها فحسب بين الزّوج والزّوجة. إنّ مظاهر غياب المساواة في الأحكام بين الرّجال والنّساء هذه تبدو صريحة. وهي قابلة لقراءات متعدّدة سنعرضها على عجل دون أن نتبسّط فيها كثيرا، ويمكن العود إليها بالتّحليل في النّقاش. وجدير بالذّكر أنّنا نقتصر على وصف هذه القراءات دون الاندراج في إحداها. عن القوامة* القراءة الأولى تقوم على اعتبار أنّ عدم المساواة هذا هو ضرب من ضروب العدالة لاختلاف الاستعدادات التي يعتبرونها فطريّة بين الجنسين. فمن ذلك مثلا أنّ أصحاب هذه القراءة يتصوّرون القوامة مسندة إلى الرّجل لأنّ النّساء هنّ اللّواتي يلدن ويحملن ويُرضعن، فمنطقيّ أن يكون الرّجل هو المنفق عليهنّ. ولمّا كان المال قوام الأعمال فإنّ هذا الإنفاق يجعل الزّوج رئيس الأسرة. ومن ذلك أنّ أصحاب هذه القراءة يعتبرون أنّ غالب طبع النّساء النّسيان، وهذا ما يفسّر أن تقتضي الشّهادة امرأتين أن تضلّ إحداهما فتذكّر إحداهما الأخرى (10). ومن ذلك أن هؤلاء يعتبرون أنّ العاطفة غالبة على طباع النّساء وأنّ الحيض يمنعهنّ من أداء بعض الشّعائر التّعبّديّة بما يشرّع لاعتبارهنّ ناقصات عقل ودين. السياق التاريخي* القراءة الثّانية تتناول غياب المساواة بين أحكام الرّجال والنّساء من منظور السّياق التّاريخيّ، وبعبارة أخرى فإنّ هذه القراءة تعتبر أنّ الأحكام الّتي تفيد غياب المساواة هي أحكام متّصلة بالسّياق التّاريخيّ الّذي كان في الجاهليّة يستهين بالمرأة وينظر إليها نظرة سلبيّة تبلغ أحيانا حدّ الوأد. ويَعدّ هؤلاء الأحكام القائمة على غياب المساواة قابلةً لأن تُقرأ قراءة أخرى مختلفة بتغيّر السّياق التّاريخيّ. فمثلما لم يلغ القرآن الرّقّ بصريح نصّ أو حكم لاستحالة إلغائه زمن نزول القرآن باعتباره إلغاء لا يمكن التّفكير فيه زمنها (impensable)، فإنّ القرآن جعل القوامة للرّجال لأنّ جلّ النّساء لم يكنّ يشتغلن زمن نزول القرآن، ولم يكن من الممكن تغيير التّركيبة الاجتماعيّة في عقود أو حتّى في مئات السّنين. ومثلما أنّ المسلمين أجمعوا على إلغاء الرّقّ بعد قرون على أساس أنّه غير متلائم مع جوهر الدّين، فإنّه لا مانع من إعادة النّظر في مفهوم القوامة لتغيّر تركيبة المجتمع ودخول النّساء إلى سوق الشّغل. ومن المنظور التّاريخيّ ذاته، يعتبر هؤلاء الدّارسون أنّ القرآن اكتفى بإعطاء البنت نصف نصيب الولد لأنّ المجتمع الجاهليّ لم يكن يورّث البنات أصلا. وما رفْضُ الصّحابة قبول توريث النّساء وإن نصف الميراث، وما قلقهم من هذا التّوريث ومجادلتهم إيّاه إلاّ دليل على عدم تقبّل العرب المسلمين آنذاك لفكرة أن ترث المرأة جزءا من التّركة فضلا عن أن يُقترح توريثها نفس نصيب الرّجل (11). والأمثلة على القراءة السّياقيّة التّاريخيّة لغياب المساواة بين الرّجل والمرأة في الأحكام كثيرة، نذكر منها مثالا آخر متّصلا بإباحة ضرب المرأة، فهي إباحة رآها الباحث التّونسيّ محمّد الطّالبي غير متلائمة مع جوهر الدّين إذ يجب أن لا نغفل أنّ الرّسول صلّى الله عليه وسلّم نفسه قد أباح لامرأة لطمها زوجها أن تقتصّ منه، غير أنّ القرآن نزل نافيا ذلك الحكم (12). والطّالبي يقرأ مسألة ضرب المرأة هذه قراءة تاريخيّة أساسها أنّ «العقليّات، حتّى في محيط المدينة الملائم نسبيّا، لم تكن مؤهّلة لقبول التّسوية الكاملة بين النّساء والرّجال» (13). ومن هذا المنظور التّاريخيّ نفسه قرأ الطّاهر ابن عاشور الدّرجة الّتي هي للرّجال على النّساء نافيا أنّها تمييز جوهريّ، ومؤكّدا أنّ هدفها «تحديد إيثار الرّجال على النّساء بمقدار مخصوص لإبطال إيثارهم المطلق الّذي كان متّبعا في الجاهليّة» (14). اجتهاد لغوي* القراءة الثّالثة لغياب المساواة الظّاهر في الأحكام بين الرّجل والمرأة تذهب إلى أنّ عدم المساواة هذا قابل لتنسيبه من خلال الاجتهاد اللّغويّ في قراءة النّصوص. فالقرآن، وإن يكن كتابا منزّلا، قد نزل في لسان عربيّ مبين (15)، هو بذلك لا يختلف عن أيّ نصّ لغويّ في قابليّته لإمكانات تفسيريّة وتأويليّة عديدة. فمن ذلك أنّ النّظر الشّامل في القرآن يبيّن أنّ تعدّد الزّوجات مشروط بالعدل في الآية 3 من سورة النّساء وأنّ هذا الشّرط منفيّ جزما في الآية 129 من السّورة نفسها (16)، بما حمل بعض المجتهدين على عدم إباحة التّعدّد جوهرا. ولئن حلّ القدامى الإشكال باعتبارهم أنّ العدل المقصود في الآية الأولى هو عدل في الإنفاق والمبيت وسواهما من مظاهر التعامل المادّيّ وأنّ العدل المقصود في الآية الثّانية هو عدل في القلوب ممّا لا يتحكّم فيه الإنسان (17)، فإنّه لا وجود لقرينة لغويّة تثبت التّخصيص، وهذا ما يجعل الاجتهاد اللّغويّ في قراءة النّصّ ممكنا. ومن أمثلة الاجتهاد اللّغويّ الممكنة الاجتهادُ في مفهوم الحدود في الميراث إذ يقول الله تعالى إثر تحديده نصيب الورثة: «تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله يدخله جنّات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم. ومن يعص الله ورسوله ويتعدّ حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين» (النّساء 4/13-14). فهل هذه الحدود الّتي يُمنع تعدّيها هي الحدود القصوى أم الحدود الدّنيا؟ وألا يمكن أن يكون نصف الميراث هو الحدّ الأدنى اللاّزم منحه للمرأة في مجتمع ذكوريّ منغلق بما لا يمنع المساواة في الميراث بتغيّر السّياقات؟ إنّ هذه القراءات الثّلاث لغياب المساواة في الأحكام بين الرّجال والنّساء تتصارع منذ قرون، ولا تستطيع أيّ منها إلغاء الأخرى وإنّما هي مظنّة للسّجال والجدال والعراك والخصام، فكأنّ المرء في حلقة مفرغة لا يمكنه الخروج منها. وإنّنا نعتبر هذه القراءات الظّاهرة على هامش البعد الرّوحانيّ للإسلام وللأديان عموما، وهو بعد يمكن تلمّس بعض وجوهه في النّظر في الأنثويّ والذّكوريّ من منظور مختلف وهو منظور الكائن. الأنثويّ من منظور الكائنلن نهتمّ في هذا المستوى بأحكام الرّجال والنّساء أي إنّنا لن نهتمّ بالقوانين أو بما يجب أن يكون، وإنّما سنهتمّ بالذّكوريّ والأنثويّ من المنظور الوجوديّ والنّفسيّ أي إنّنا سنبحث فيما هو كائن. ذلك أنّ المرأة والرّجل يشترك كلاهما في أنّه يولد ويموت ويشترك كلاهما من المنظور الدّينيّ في أنّه يُرجع إلى الله تعالى ليحاسبه. وقد ذكر القرآن الجنسين لفظا في قوله تعالى: «إنّ المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات والصّادقين والصّادقات والصّابرين والصّابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدّقين والمتصدّقات والصّائمين والصّائمات والحافظين فروجهم والحافظات والذّاكرين الله كثيرا والذّاكرات أعدّ الله لهم مغفرة وأجرا عظيما» (الأحزاب 33/35 ). ونحن نعتبر ذكر الجنسين هذا مقصودا ودالاّ لأنّ اللّغة العربيّة قد تغني عن ذكر الجمع المؤنّث لفظا لجواز اندراجه في الجمع المذكّر (18). وبغضّ الطّرف عن قصّة الخلق الّتي رآها جلّ المفّسرين محيلة على خلق الرّجل قبل المرأة، وخلق المرأة من ضلع الرّجل (19)، فإنّ هذه القراءة (القابلة لإعادة النّظر) لا تحمل في ذاتها أيّ بعد معياريّ تفضيليّ لجنس على آخر (20). ومن الغريب أنّ كثيرا من المفسّرين المسلمين ساروا على مذهب المسيحيّة واليهوديّة في تحميلهم المرأة وزر الخطأ البشريّ الأوّل في حين أنّ القرآن يعمد إلى المثنّى إذ يحيل على الخطأ، ويعمد إلى المفرد المذكّر المحيل على آدم إذ يحيل على طلب الصّفح (21). والنّاظر في القرآن يتبيّن أنّ الله تعالى يقرّ أنّ البشر مخلوقون من ذكر وأنثى إذ يقول: «يا أيّها النّاس إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم» (الحجرات 49/13). إنّ عبارة «خلقناكم من ذكر وأنثى» قابلة لأن تُقرأ بطريقتين نبني عليهما نظرتنا إلى الأنثويّ والذّكوريّ من منظور الكائن. والطّريقتان مترابطتان ومتلازمتان. تحليل نفسي* القراءة الأولى: تعتبر أنّ «مِنْ» في العبارة «من ذكر وأنثى» هي «من المصدريّة». وبذلك تفيد هذه الآية أنّ اجتماع الذّكر والأنثى ينشئ عمليّة الولادة بتدخّل الثّالث، الخالق (22). واستنادا إلى ما سبق فإنّ الذّكوريّ يمثّل الرّجل بصفته الأب بالقوّة، والأنثويّ يمثّل المرأة بصفتها الأمّ بالقوّة. ويبيّن لنا التّحليل النّفسيّ أنّ العلاقة الأولى مع الأمّ هي علاقة انصهار كامل بين الأمّ والجنين، هي علاقة ثنائيّة تتموضع قبل اللّغويّ الرّمزيّ. تقوم هذه العلاقة على شوق (désir) الأمّ إلى الجنين، وهو شوق إلى غائب متصوّر لا يمكن أن يطابق البتّة التّصوّر الّذي يُحمل عنه (23). على أنّ هذا الشّوق، مثل كلّ ضروب الشّوق فرديٌّ من جهة ولا ينفتح على إجابة نهائيّة من ناحية أخرى إذ لا يمكن للأمّ أن تجيب الطّفل عن جوهر وجوده ودلالته ولا يمكن إلاّ أن تسقط عليه دوافعها ورغباتها اللاّواعية المختلفة من أمّ إلى أخرى. وجدير بالتّذكير أنّ هذه العلاقة أساسها الإنفعال (passivité)، فالشّوق من مجال اللاّوعي، واللّاوعي ليس ممّا يفعل فيه الإنسان. هذه العلاقة الثّنائيّة الانصهاريّة مفتقرة إلى تدخّل الثّالث، وهذا الثّالث هو الأب الّذي بتسميته الابن يُدخله في المجتمع. إنّ اسم الأب هو مظهر القانون الأوّل الّذي يسم فصل الابن عن الأمّ ويثبت القانون البشريّ الأوّل وهو قانون منع نكاح المحارم (Interdiction de l’inceste). ويحيل المصطلح اللّاكاني الشّهير (le nom du père) على اسم الأب من جهة وعلى «لا» الأب من جهة أخرى بصفتها تُمثّل نفي الانصهار بين الجنين والأمّ وباعتبارها تُمثّل سمة الفصل الرّمزيّ بينهما. ومعلوم أنّ التّسمية والقانون هي مواضعات اجتماعيّة جماعيّة رمزيّة تندرج في باب الفعل (activité). من هذا المنظور يؤكّد المحلّلون النّفسيّون اللاكانيّون أنّ الأب يمثّل آخر القانون (l’Autre de la loi) والأمّ تمثّل آخر الشّوق (l’Autre du désir) )24. انطلاقا ممّا سبق، يمكن أن نقرّ أنّ موضع الأنثويّ يمثّل ما قبل اللّغويّ ـ الشّوق ـ الفرديّ ـ الانفعال، أمّا موضع الذّكوريّ فيمثّل اللّغويّ (التّسمية) - القانون - الجماعيّ - الفعل. اللازم والمتلازم* القراءة الثّانية لقوله تعالى: «خلقناكم من ذكر وأنثى»، تعتبر أنّ «مِنْ» في الجملة هي «من» البعضيّة. وهذا ما يجيز لنا لا فحسب القراءة الشّائعة الّتي تقرّ أنّ النّاس مخلوقون من ذكور وإناث، ولكن يجيز أيضا قراءة أخرى تعتبر أنّ في كلّ إنسان بعدا ذكوريّا وآخر أنثويّا، بل تعتبر أنّ الوجود ذاته مستند إلى بعد أنثويّ وبعد ذكوريّ. وهذا التّصوّر للوجود ممّا نجد له صدى في الثّقافات الشّرقيّة من خلال مفهومي اليينغ واليانغ (Le yin et le yang). ومن هذا المنظور يمكن أن يكون آدم وزوجه محيلَيْن رمزيّا على تجسّمين لا يمكن لسواهما الوجود في الكون، وبعبارة أخرى فإنّ آدم وزوجه يمثّلان الذّكوريّ والأنثويّ بصفتهما مقاربتين مختلفتين للواقع لازمتين ومتلازمتين. فإذا عدنا إلى ما أسلفناه عن الذّكوريّ وجدنا أنّه يمثّل الفعل. فكلّ فعل في الكون مهما يكن (سواء أقام به رجل أم امرأة أم جماعة...) إنّما هو يندرج في المجال الرّمزيّ الذّكوريّ، ومنه فعل التّسمية بل لعلّه أساس الفعل البشريّ. فليس صدفة أن يكون الكون بدأ بتعليم الله تعالى آدم الأسماء كلّها (25). إنّ فعل التّسمية هذا إيذان ببداية الحياة انطلاقا من فصل الاسم عن المسمّى، والكلمة الأولى بما هي جرح ـ والكلم جرح ـ إيذان بضياع ما قبل اللّغويّ نهائيّا وعدم إمكان وجوده إلاّ افتراضا. وبتحقّق الفعل والتّسمية الذّكوريّين تنشأ أولى المؤسّسات الجماعيّة الرّمزيّة وهي اللّغة، وتندرج ضمنها كلّ القوانين والمواضعات البشريّة الأخرى. والدّين واحد من هذه المؤسّسات الرّمزيّة الجماعيّة البشريّة بل لعلّه من أهمّها. لذلك نعدّ الدّين ذكوريّا (26). فالاندراج في دين مّا يقوم على الفعل الواعي إذ يمكن للإنسان أن يقرّر اعتناق دين من الأديان في عمل اختياريّ واع. وشعائر الدّين أيضا هي في جلّها جماعيّة (27). والقرآن الكريم إذ يشير إلى الإسلام يركّزه ضمن أطر جماعيّة (28). وفي مقابل ذلك نعدّ كلّ ما له صلة بالانفعال في الحياة مندرجا ضمن المنظور الأنثويّ (سواء اتّصل هذا الانفعال بذكر أو بأنثى). ويدخل في هذا الإطار ما يطرأ على أجسادنا ونفوسنا من تحوّلات لا دور لنا فيها. فالمرء يشيخ وتتغيّر تركيبة هرموناته وتدخل الفيروسات جسده وتخرج دون أيّ استشارة أو إقرار منه، وكذا حركة جميع أعضاء الجسم تسير في نظام عجيب دون تدخّل منّا البشر. والانفعال يتجاوز ذلك ليشمل جميع ضروب سلوكنا وأفعالنا نتصوّرها حرّة في حين أنّها محكومة لا فحسب بالقوانين الفيزيائيّة المتعدّدة (شأن قانون الجاذبيّة مثلا) ولكن أيضا بجماع العوامل النّفسيّة والاجتماعيّة الّتي جعلت فلانا يتصرّف بطريقة مّا، والآخر يتصرّف بطريقة مختلفة. بل إنّ كلّ كلامنا وأفكارنا هو نتاج ما سمعناه وقرأناه وتعلّمناه ورأيناه منذ نعومة أظفارنا ممّا انفعلنا به في تراكم يتجاوز إرادتنا. انفعال خلاّقإنّ هذا الانفعال الصّامت خلاّق، ولكنّه خلاّق لا بفعل البشر بل بفعل الآخر فينا، بفعل ما يسمّيه شوبنهاور الإرادة (la Volonté) وبفعل ما يسمّيه اللاّدينيّ صدف الحياة وبفعل ما يسمّيه المؤمن الله تعالى (29). هذا الانفعال الّذي يسم مجال الأنثويّ هو من باب الشّوق، فصحيح أنّ الشّوق حركة ولكنّها ليست حركة منفتحة على موضوع معيّن يسدّ الشّوق ويجيبه، وإنّما الشّوق في جوهر تعريفه حركة تفتح على الغائب أو على ما لا يستطيع الإنسان قوله أو ترميزه أو تمثيله. فإذا كان التّديّن بأيّ دين هو من مجال الفعل أي من مجال الذّكوريّ كما رأينا، فإنّ الإيمان (la foi) هو من مجال الانفعال أي من مجال الأنثويّ. ذلك أن الإيمان ليس قرارا يُنجز ولكنّه شوق ينفتح فيخترق القلوب دون أن يجد الإنسان إلى قوله سبيلا. ولذلك كان الإيمان ممّا يدخل القلوب بفعل الآخر لا بفعل المرء (30). ولذلك كان ما ينتج عن الإيمان من اطمئنان نتيجة لا هدفا (31). ولذلك أيضا كان الإيمان ممّا يُحَسّ ولا يمكن قوله، فكلّما اتسعت الرّؤية ضاقت العبارة (32). وإنّه لئن كان من الممكن أن يقرّر الإنسان اعتناق دين، كما أسلفنا، فإنّه لا يمكن لأيّ فرد أن يقرّر دخول الإيمان قلبه. قد تقول: «غدا سأدخل الإسلام»، لكن لا يمكن أن تقول «غدا سيدخل الإيمان قلبي» أو «غدا سيغدو قلبي مطمئنّا» أو «غدا سيقذف الله تعالى نورا في صدري» (33). إنّ الإيمان من باب الشّوق إلى الغائب، ومنه خشية الرّحمان بالغيب (34). وفي مقابل ذلك فإنّ الدّين هو من باب الفعل الحاضر. ومن هذا المنظور يمكن أن نعدّ الإيمان أنثويّا وعمل الصّالحات ذكوريّا، وهما المقترنان في كتاب الله تعالى. ومن منظور التّراث العربيّ يمكن أن نقول إن الفقهيّ يمثّل الذّكوريّ وإنّ الصّوفيّ يمثّل الأنثويّ. فالفقيه يقدّم أجوبة ويستنبط قوانين تحكم حياة الجماعة، أمّا المتصوّف فيعبّر عن تجربة فرديّة انفعاليّة في شوق إلى الله تعالى، وهي تجربة لا يمكن للمتصوّف التّعبير عنها لغة. إنّ ثنائيّة الذّكوريّ والأنثويّ هي ثنائيّة تحكم الفرد وتحكم موقعه في الوجود عموما، فالإنسان في الكون هو في الآن نفسه فاعل ومنفعل، وفي الآن نفسه محكوم باللّغة مشتاق إلى صفاء العالم ووحدته قبلها، وهو في الآن نفسه قابل لأن يندرج فاعلا في دين أو أن يشتاق منفعلا إلى الغائب الّذي لا يحضر إلا في غيابه، فيكون ممّن تطمئنّ قلوبهم بذكر الله دون أن يجد إلى ترميز ذلك الاطمئنان باللغة سبيلا. إنّ التّعامل الظّاهر مع الوجود يقيم الكون متصارعا بين الذّكوريّ والأنثويّ، ويفتح الباب لتأويلات شتّى وخصومات حول الأفضليّة ممّا أسلفنا بعضه. ولكنّ التّأمّل العميق الباطن في الكون يقيمه متناسقا لأنّ البعدين الذّكوريّ والأنثويّ كلاهما شرط لازم ومتلازم لوجود الحياة. ففي نفس اللحظة الّتي نشأت فيها الكلمة الأولى (الذّكوريّة) ضاع إلى الأبد جوهر الشّيء المسمّى ولا يبقى منه إلا أثر (أنثويّ) نشتاق إليه. ومن هنا فإنّ العلاقة بين الذّكوريّ والأنثويّ ليس علاقة صراع ولا جدال ولا سجال، وإنّما هي تجسيم لانشطار جوهريّ في الكون يجعل الإنسان رجلا كان أو امرأة ثانيا في الوجود مسبوقا بالواحد الأحد الّذي لا ينشطر. والتّسليم بهذا هو السّبيل الوحيد إلى سلام الرّوح. ألم يقل الله تعالى إنّ الظّاهر من قبله العذاب والباطن من قبله الرّحمة (35)؟ * أستاذة بالجامعة التّونسيّة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©