الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

سعيد عقل.. العصر الذي لا يغيب

سعيد عقل.. العصر الذي لا يغيب
10 ديسمبر 2014 23:24
بقليل من الجهد وكثير من السحر يكتشف كثيرون أن الشاعر اللبناني سعيد عقل لم يمت. وفي ذروة مهرجانية غيابه التي ملأت يوميات البلد بشكل غير مسبوق، خُيِّل لهؤلاء أن الرجل هو حقاً من ذلك «الجنس» السماوي الذي لا تسري عليه نواميس الأرض. محمود بري «يرحل سعيد عقل كأنّ عصراً برمّته قرر أن ينتهي فجأة»، يقول المثقف البارز بيار أبي صعب. «إمتشق اليوم قرناً من الزمن صعوداً إلى حيث يتوق في إيمانه»، ودّعه صديقه المشاكس جوزف عيساوي. أما الشاعر المبدع طلال حيدر فقد «أخذ وقته» ليودّع صديقاً لن يُعوَّض، فقال: «عندما رحل فلليني في إيطاليا، لم يقل أحد للشعب الإيطالي أن يحزن أو ينكّس الأعلام. عندما عرف الناس بموته، فعلوا ذلك من تلقاء أنفسهم. سائق التاكسي أوقف سيارته وانحنى، وكذلك فعل الموظفون ورواد المقاهي وربات المنازل والمارة في الشوارع. وقفت إيطاليا ساعةً في الطرقات حداداً عليه. أما نحن... في هذه الدولة المعتّرة التي وصلنا فيها إلى عصر الانحطاط كبلد، على الأقل فليعلنوا الحداد. ولو كان هناك عالم عربي حقيقي لأعلن الحداد. عندما يتجاوز شاعر أو فنان ما حدود بلده تحزن عليه كل البلاد». التأسّي أم التهيّب أم الرفض؟ البحث عن صدى غياب سعيد، هذا الغياب المفاجئ ـ المنتظر، يؤدي سريعاً إلى المزيد من الفراغ. أصدقاء الغائب من شعراء كبار ومفكّرين ضالعين، ينكفئون في الغالب عن تناول حدث رحيله أمام الصحافة، في مواقف محيَّرة تكتشف رويداً رويداً أنها تجري بمبادرات فردية تأتي متشابهة وإن تكن غير منسّقة. لا تعلم إذا ما كان «أهل البيت» يمتنعون عن مواكبة الحدث الذي هزّهم تأسَّياً على الراحل أو تهيّباً من تأبينه أو رفضاً للإذعان لواقع الرحيل. كأنهم بالامتناع عن إخراج ما في دواخلهم من حزن، يحتفظون بسعيد عقل حياً ويشعرون بوجوده.. ولو عجزوا عن إدراكه بالحواس التقليدية. واحد من هؤلاء الذين أعرف وثيق علاقته بالراحل، خاطبني بلهجة مختلطة بين الرفض والحِداد، فقال: استنطقني فلان (وسمىّ أحد كبار الصحفيين) لصالح الجريدة (التي يعمل فيها)، واتصلت بي فلانة من الشاشة الفلانية. كان عليّ أن أقول شيئاً فقلت في المرتين: إني حزين... ثم قلت: إن سعيد عقل لم يمت.. وقلت أخيراً: إنه هنا (وأشار إلى نقطة في أعلى صدره)، ثم اختنقت الكلمة في حنجرته. احترمتُ جفاف ريقه فلم أُعقِّب. بعد أن استعاد روعه، عاد يقول: «..غادرنا سعيد وقد غدا لبنانه أطلالاً دارسة. لكنّ شعره الطائر على أجنحة صوته وبريق عينيه المشعتين بالماضي من أجل المستقبل، لا يفارقان عارفيه ومحبيه الكثر.. شاعر لبنان والجمال اكتفى من الحداثة بالرمزية والبرناسية. قصيدته ابنة الكلاسيكية في الأدب والرسم. بل إنها في شكلانيتها أقرب إلى فن النحت». بعد ظهر اليوم الثالث من دأبي على تدبّر لقاءات مع بعض المقرّبين من الراحل سعيد عقل، صرت أظن، أنا أيضاً، أنه لم يرحل... وتشكّل لدي انطباع راح يتحوّل إلى فكرة متكاملة مؤداها أن الشعراء الكبار لم يعد لديهم ما يقولونه عن سعيدهم الذي رحل، وقد استُنفذوا في ممالك الصمت مما كان في قلوبهم ومآقيهم، فصمتوا عن الكلام المباح. وبالمقابل سجّلتُ اندفاعاً واضحاً لدى شعراء الصفوف الخلفية للإكثار من التحدث عن سعيد عقل كلّما اتفق لهم سائل أو نجح واحدهم في العثور على من يسأله، وذلك في جهد يبذلونه لمحاولة تعويم «مواهبهم» والتذكير بأسمائهم على حساب الراحل. وقد وجدتُ في هذا نوعاً من طموح معذور، إذ إنه من الكِبَر حقاً أن يتحدث المرء عن سعيد عقل. لكن، وخارج هذه النرجسية المغفور لها، يتهادى الكبير مغادراً رغم أنف الحياة، ومعه يغادر عصرٌ طبعه بطابعه. يُغادر مسجّى في نعش على شكل ناووس فينيقي، نُحِت خصّيصاً لجثمانه، وقد تزاوج فيه صخرٌ من جبال لبنان وقبسٌ من أرزه الذي لا يفنى. عاش سعيداًرحل الشاعر اللبناني العربي الكبير عن عمر طويل باهر الخصوبة. على امتداد قرن من الزمن طاب له أن يكون حجر الرحى في حلم عاشه متحققاً فوق.. فوق هذا العالم وأيضاً على الأرض. من هناك كان ينظر تحته وحواليه فلا يرى إلا قصائده. مئة وعامان من العمر عاشها على القمة بلا منافس، يرندح مدائحه في نفسه، مداعباً اللغة، عشيقته الأزلية، يفصّل لها من الصور والإشتقاقات والتراكيب ما أطلقها تتغاوى كما لم يتجرّأ غيره ولم يتمكن. عاش سعيداً، ولربما كان الوحيد الذي عاش سعيداً، وظلّ حتى لحظاته الأخيرة مليئاً بالحياة والغبطة. طال به المشوار فلم يسأم، بينما قبله بعصور طويلة خلت، سئم زهير بن أبي سلمى تكاليف الحياة وهو لمّا يزل في الثمانين بالكاد. «مكللاً بالغار» رحل الذي أسمته فيروز «كبير الشعراء» كما كتبت له على إكليل الورد... رحل «المهندس الحقيقي في سبك الشعر والنثر»، كما وصفه كبير رجال الكنيسة في لبنان البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي. رحل وترك وراءه حزناً يكفي لمئة وعامين آخرين. في وداعه قال الشاعر طلال حيدر: «ليس لبنان وحده الحزين، قالها الشاعر طلال حيدر، بل اللغة هي التي حزنت». ليست هذه من عادات الشاعر المبدع طلال حيدر... أن يتكلم من دون أن يقول شِعراً. لكن الفراق صاعق، وبين الشاعرين كانت سهول واسعة يلعبان فيها ومواسم وغِلال لكل الأجيال. منذ المتنبي..صاحب «رندلى» استحق دائماً التحية. قالوا: إنه كان آخر الشعراء الكلاسيكيين وأكبر شعراء العرب في القرن العشرين، ولم يزد قولهم هذا جديداً على المبدع الذي جعل الفصاحة جذّابة كأجمل ما يمكنها أن تكون، وبلغ بها مستويات لم يسبقه إليها مُبدع. قاتل عميقاً في محراب الكلمة- العمارة، من دون أن يخدش العَروض، أغنى التفاعيل ونفخ روح الفرح والألق والفخامة في أوزان الخليل وأطلق قصائده سوابح في فضاءات جديدة. وحتى طلال حيدر لم يشأ ترك الحُكم على سعيد عقل لغيره، فقال معترفاً: إنه «منذ وقت المتنبي الى الآن لم يأت أحد يطوّع اللغة كسعيد عقل... وبغيابه تشتاق اللغة إلى من يوصلها إلى أماكن لا تخطر على بال أحد». فرادة سعيد عقل كانت في شاعريته، لكنه لم يكتفِ بأن يكون الشاعر الكبير، بل طرق كل الأبواب، حتى تلك التي لم يكن الآخرون يعلمون بوجودها أصلاً. ثقافته الموسوعية الثرية في مختلف المباحث والاتجاهات، قدرته على تقديم شعر باهر عميق البحور مسبوك العبارة تستحيل مجاراته. وهذه الثقافة إياها جعلته «الحكيم» و»العبقري»، فجاء شعره، إلى فخامته، فريداً مجلجلاً مبنياً كأجمل ما تكون قصور الكلام. كان من علامات نرجسيته الباذخة أن اخترع لبنان متخيّلاً في جبينه، ثم راح يحاول رفع وطنه الأرضي إلى مصاف ذلك الحلم، ولم ينِ يحاول لبْنَنَة العالم. وحين تحدّث عن اقتصاد المعرفة، كانوا قلّة يسيرة الذين يفهمون هذا «اللغز». وداعيات..قال الشاعر جوزيف عيساوي: إن «سعيد عقل كره «ثلاثة خرّبوا الحضارة: ماركس وفرويد وبيكاسو». وفي تفسيره لعدم نقل تراث الراحل الشعري إلى لغات العالم على أوسع نطاق: «لم يترجَم شعره الى لغات أخرى لاستغراق قصيدته في الشكل واجتهادات العروض واللغة العربية في كيميائها وجرسها الفريد، حتى لتفقد الكثير بالترجمة. بل إنّ قراءتها بالعربية في كتاب تجعلها تخسر ما يضيفه إليها عقل في أمسياته وقراءاته، حيث تتفجر شلالات هادرة من المياه والصخور والرعد معاً». بيار أبي صعب ودّعه: «جمع طوال حياته بين الحكمة والشعر، بين الميثولوجيا والتاريخ، الفلسفة والدين، الفخر الجاهلي والغنائية الرومنطيقية، البرناسية والرمزية، التمرد على القوالب والكلاسيكية المطلقة، الثقافة الإنسانويّة الشخصانية والنزعة الشوفينية، التبادعية والهذيان، المعمعة السياسية والوعي الطوباوي الغيبي... جمع بين التراجيديا والملحمة من جهة، والكوميديا والـ farce والتهريج في بعض الأحيان. قصائده أخذتنا إلى ذروة الشعر. وإلى آخر الفصاحة. يسدل الستار على حياته ويمضي إلى نجمته المعلّقة… لقد التحقَ الطيف بالأسطورة». صاحب «لبنان إن حكى»، «قامة أدبية كبيرة كما وصفه وزير الثقافة ريمون عريجي، و» ظاهرة نادرة» كما قال وزير الاعلام رمزي جريج، و»مدرسة خسرناها» كتب رفيق شلالا... واللائحة بلا نهاية. لكن كل الكلام الذي قيل لم يكن جديراً بأن يضيف حبّة مجد واحدة إلى إرث الراحل. ليس بيار أبي صعب وحده، بل كثيرون سواه أيضاً لم يصدّقوا أن الموت «الذي كان لعبة الراحل يمكن أن يخطفه من الوطن العظمة الذي أحب». لكن الموت حق، وسعيد عقل رحل.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©