الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

طرفة بن العبد.. الرفقة الأولى

طرفة بن العبد.. الرفقة الأولى
10 ديسمبر 2014 23:00
(ستُبدي لك الأيامُ) طرفة بن العبد1طرفة بن العبد.. الفرق بيني وبينه أنه نَهَرَ الحياة باكراً، تجرعَ القدحَ الأعظم وذهبْ، فيما لا أزال أتعثر بحضوره الفاتن/ الفاضح في كل نأمة ولمعة ضوء. دون أن تكون المسافة الزمنية حجاباً أو حائلاً أو امتيازاً. لم أتمكن من تفاديه لحظة واحدة، ما إن عرفتُ احتدامه مع قبيلته، ما إن شعرتُ بخروجه عن الخيمة إلى الصحراء، وسمعته يكرز في الكون: (وظلم ذوي القربى أشدّ مضاضة.) حتى أحسست بذلك النمل الغامض ينسرب في شرايين روحي وتفاصيل حياتي الباقية، ويبدأ في صياغة مكبوت العديد من قصائدي، التي جَهَرَتْ بتقاطعها الحميم معه، شعراً وتجربة، وتلك النصوص التي استنبطتها أو تقمصتها، أو تلك التي وضعته تعويذة في الحل والترحال، شعراً ونثراً ومضاهاة. كلما تقدم بي العمر والشعر والتجربة، أصبح هذا الكائن الغامض البعيد أقرب إليّ من حبل الوريد، لا أتنازل عنه، لا أنكره، وليس لي سلطة عليه، فيما سطوته الغريبة عميقة ودالّة في حبري وروحي. رافقني طرفة بن العبد في الحانة والزنزانة، ولي معه النص والشخص، في المتن والهامش والحاشية. لم أنجز كتابةَ إلا وكان له فيها حصةُ القرين. لم يعد ممكناً توصيف الحدود بيننا إلا بالقدر الذي يتسنى للسيف أن يمر على مسافة الروح والجسد بلا دمٍ وبلا فضيحة. رفقة تتجاوز الكلمات، رفقة تصقل الحياة. 2كنت في حوالي الثالثة عشرة من العمر (في العام 1961) عندما سمعتُ لأول مرة عن طرفة بن العبد. كان ذلك في الباحة الداخلية لمدرسة الهداية في «مُحرَّق» منتصف القرن العشرين. حيث كان فريق التمثيل بالمدرسة يتدرب على مشهد تمثيلي فوق الخشبة المقامة في صدر الجانب الشمالي من الباحة، الملاصقة لغرفة مدير المدرسة آنذاك، الأستاذ عبد الله فرج. أذكر أن المشهد التمثيلي يحكي الأبيات التي يخاطب فيها طرفة بن العبد تلك القبّرة المرصودة بالفخاخ: يا لَكِ مِن قُبَّرَةٍ بِمَعمَري لا تَرهَبي خَوفاً وَلا تَستَنكِري قد ذَهَبَ الصَيّادُ عَنكِ فَاِبشِري وَرُفِعَ الفَخُّ فَماذا تَحذَري خَلا لَكِ الجَوُّ فَبيضي وَاِصفِري وَنَقّري ما شِئتِ أَن تُنَقري فَأَنتِ جاري مِن صُروفِ الحَذَرِ إِلى بُلوغِ يَومِكِ المُقَدَّرِ وعرفتُ لحظتها أن التمثيلية تتعلق بشاعر. فوقفت في الطرف الشرقي من الخشبة القريب من غرفة مختبر العلوم، التي يتخذها الأستاذ (عبد الرحمن كتمتو) مكتباً بوصفه مدرساً للعلوم. ورحت أصغي لكلام الممثلين الذي كان كله من شعر طرفة، وساد شعورٌ غريبٌ جعل الممثلين يتعاملون مع الأمر برمته كأن طرفة بن العبد هو أحد الفتية الذين يؤدون المشهد كما يعرفونه جيداً، ويعيشونه في البريّة المحيطة بالمدرسة، كلما نصبوا فخاخهم في واحدة من أحب هوايات ذلك الجيل حيث يقضون وقتاً ممتعاً في «الحَبَال»، أي صيد الطيور. منذ ذلك اليوم بدأت علاقتي بطرفة بن العبد. سمعت أنه عاش في بحرين ما قبل الإسلام، دون أن الحظ وقتها مفارقة أنه، من دون شعراء عصره، لم يقرر المنهجُ نصاً مهماً من قصائده في درس اللغة العربية. في حين يفرض المنهج المدرسي علينا حفظ أقل النصوص جمالاً وأهمية. وقفتُ يومها في حوش المدرسة، بجانب الخشبة القديمة لكي أستمع إلى طرفة بن العبد وهو يكلم الطير. 3سوف تمر بعد ذلك سنوات، لكي أدرك كيف أصل إلى سيرة هذا الشاعر وأتعرف على معلقته الشهيرة. فقد اتصل ولعي في البداية بحكاية الشاعر وسيرة حياته وموقفه الاجتماعي من قبيلته، حيث فكرة التمرد والخروج هي التي جذبتني إلى طرفة بن العبد. في البداية، وفيما كنت أخطو خطواتي الأولى نحو القراءة، كان تفتح الوعي الاجتماعي هو بوابة علاقتي بأشياء الحياة، خصوصاً أشياء الثقافة والمعرفة. أذكر الآن أن في تلك المرحلة بدأت بوادر النزوع النضالي تعبر عن نفسها بأسئلة قلقة، باحثة، عالية الحماس. وقد احتجت سنوات أخرى للتعرف الأدبي والشعري على هذا الشاعر. فما كان يستحوذ على كياني في سيرة الشاعر وقوع الظلم عليه وتمرده على قبيلته وموقف القبيلة منه. والقول، تاريخياً، بأنه عاش في منطقة البحرين، قد ساهم فعلاً في دفعي إلى التعرف أكثر على قرينٍ محتمل. تلك هي البداية الأولى للتداخل الغامض بين أسئلتي الاجتماعية القلقة الأولى، وبين سيرة شاعر قديم سبق أن فاض بالأسئلة في قبيلة تضيق بالأسئلة. وأذكر أنني، فيما أستغرق في القراءة، كنت أتوقف كثيراً عند أشعار طرفة بن العبد أو أخباره النادرة في الكتب. ويوما بعد يوم شعرت بمعنى أن يكون طرفة شاعري الخاص. لكي يتطور اهتمامي من مجرد صدفة القراءة العابرة في مجمل الشعر العربي القديم، إلى البحث عن مصادر معرفة هذا الشاعر بالذات. 4حين بدأت محاولاتي الشعرية الأولى، كانت صورة طرفة لم تزل غائمة، تتراوح بين فعل التمرد الاجتماعي والشعر القديم المختلف، الذي أصادفه في خارج كتاب الدرس. فقد كنت وقتها في خضم بحثي عن أدواتي الشعرية التي استغرقتني بوصفها الطبيعة الثقافية والفنية التي بدأت أكتشف ذاتي فيها. فبين أن تكتشف ذاتك في شاعر تحبه، وتعمل، في نفس اللحظة، على صياغة هويتك الأدبية، فضاء من الاحتدام والاكتناز يتطلب قدراً من الوعي، لئلا تخفق في الاثنين معاً، وتفقد القدرة على استيعاب لحظة التخلق في التجربة. فكل هذا كان يحدث في لحظات التأسيس الأولى، حيث كانت طاقة المعرفة تقصر عن أسئلة الموهبة. 5سرعان ما بدأت أسئلتي تنشأ في موازاة الولع المبكر بطرفة بن العبد: وليس صدفة أن أدرك العديد من تناقض الروايات التي تنقلها لنا كتب السير وتاريخ الأدب عن حياة طرفة وأخباره، وهو الأمر الذي فتح لمخيلتي الأفق شاسعاً لكي أتخيل شاعري الخاص في ذلك التاريخ، وصياغته في موازاة حساسيتي الشعرية التي بالكاد تبدأ في التجلي، بل أن ثمة أسطورة بالغة الرحابة سوف أكتشفها في سيرة طرفة، أسطورة تجعل حياته ضرباً من الخيال الذي يصوغه الرواة كما في معظم التاريخ العربي. ولعل أبرز ما استوقفني، وشعرت بقلق أمامه، تلك الفكرة القائلة بـجهل طرفة القراءة والكتابة، أنا الذي كنت أرى في القراءة وفعل الكتابة الجوهر الشعري المتعاظم الامتزاج لمخيلة الشاعر وهو يبني رؤاه وكلماته ونصوصه.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©