الثلاثاء 23 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

هذا هو فان غوخ الحقيقي

هذا هو فان غوخ الحقيقي
24 فبراير 2010 21:55
أصابت أكاديمية الفنون الملكية في بريطانيا، عندماأطلقت عنواناً بليغاً على معرض “فان غوخ الحقيقي: الفنان ورسائله”، وهو المعرض الأضخم من نوعه في البلاد منذ عام 1968، يعيد الاعتبار لهذا الفنان المبدع المثابر، المنظم التفكير، المثقف والقارئ النهم الذي يجيد أربع لغات، قراءة وكتابة. هذا ما كشف عنه في المعرض الذي يستمر حتى ابريل المقبل، ويعرض ما يقارب الأربعين رسالة، وأكثر من ستين لوحة وثلاثين رسماً تخطيطياً بالحبر، إضافة الى كتاب يجمع تلك الرسائل مع اللوحات، ألفه ثلاثة باحثين تفرغوا سنوات لدراسة حياة وأعمال ورسائل الفنان الهولندي الذي انتحر عام 1890، بسبب العوز المادي، وعدم اعتراف المجتمع بفنه، ليصار في القرن العشرين، الى التجارة بأعماله، بالملايين. زيارة المعرض هي بهجة للعين والروح معا، تسمح بقراءة رسائل هذا المبدع عن قرب، وكذلك مشاهدة لوحاته الشهيرة عن قرب، رغم انتظار بالطابور أمام كل قطعة، الى أن يحين دور الزائر، بسبب الاقبال الشديد على المعرض من قبل الجمهور النهم للاطلاع على أعماله عن قرب. والمعرض تصحبه أيضا، وقائع أخرى، مثل الندوات والعروض السينمائية. كتب غوخ أكثر من تسعمائة رسالة في حياته، ويمتلك متحفه في هولندا، ثمانمائة منها تقريبا. وقد وجه معظمها لشقيقه ثيو الذي كان يعمل في تجارة الأعمال الفنية، وكان يؤمن بموهبة أخيه ويدعمه معنوياً ومادياً، ويسدد أثمان الألوان وأقمشة اللوحات، وكل الخامات التي يحتاجها شقيقه، مقابل أن يتفرغ للفن. لقد كان لثيو دور كبير في انتشاله من لحظات اليأس والذعر لبعض الوقت. الا أن فنسنت كتب أيضا لشقيقته ويلهلمينا، والى بعض الفنانين، مثل بول غوغان وإميل برنارد، كتب لهم بتفصيل شديد عن عمله الذي يشتغل عليه، وكان يضمن رسماً تقريبيا للعمل له في الرسالة. يقدم المعرض الضخم تلك الرسائل الأصلية بخط الفنان، إلى جانب اللوحات التي كان الرسام يتحدث عنها، وكلها تؤرخ لفترة عشر سنوات فقط (1880 ـ 1890)، هي عمر التجربة الفنية لهذا الفنان الذي علم نفسه بنفسه، وبقي ربما، غير واثق منها تماما، لغياب الاحتفاء النقدي والتجاري بها، اذا لم يبع في حياته سوى لوحة واحدة هي “كروم العنب الحمراء”، التي بيعت قبل وفاته بشهور قليلة. وهذا كله سبب له، إضافة الى العوز المادي، حالة من اليأس والكآبة، أدخلته المصح العقلي أكثر من مرة، حتى انتحاره بإطلاق الرصاص على صدره. فنان عصاميّ يوثق المعرض لمراحل عديدة من حياة فان غوخ الغنية، المناظر الطبيعية في هولندا، متابعة الفلاحين في الأرض، والتأثر بالفنون اليابانية، حتى انشغاله باللون وتجاربه العديدة فيه، وكان شغوفا في خلق التناقضات اللونية التي لم تكن سائدة في وقته، فكان مجرّبا شجاعا في هذا المجال، يعتقد أن اللوحة يجب أن تكون بهجة لعين الناظر اليها. وهذه المرحلة توصل لها بعد أن غادر هولندا الى فرنسا واطلع على تجربة (الفنانين التعبيريين)، وتأثر بها وكان أكثرهم اندفاعاً نحو مغامرة اللون. كما أن رحيله الى الجنوب، خصوصاً منطقة أرليز، المشرق بشمسه وألوانه، مدّه باقتراحات واسعة في هذا المجال. المعرض يمتد من حياته العملية في وقت مبكر حتى لوحته الأخيرة، والتغيير والتطوير المستمر الذي طرأ على توجهه الفني، ويبرز التناقض الشديد بين اعتقاده أن الفن الحقيقي هو الذي يعتمد على التخطيط كما كتب في رسالة الى ثيو، الى أن يرمي كل ثقله في مغامرة اللون. يتطور نراه من فنان شاب بدأ بعمر سبع وعشرين سنة، بألوان قاتمة وعمل على تقنية اللوحة، إلى الفنان التعبيري المغرم بالألوان الزاهية، بأفضل ما يعرف اليوم. إن كل مرحلة من مراحل تطور موهبة فان غوخ في العمل جميل وله خصوصية فردية، تكشف عن طاقة هائلة وعاطفة صبّها في اللوحة، بضربات الفرشاة والألوان. رسائل تفصيلية العديد من الرسائل تحتوي على رسومات تفصيلية وجميلة، وتدوين بالألوان، الأمر الذي يعطي فكرة للمرسل اليه، عما سينتهى اليه عمله. وهي ترشد زائر المعرض الى الأعمال المرفقة وتجربة هذا الفنان ككل الذي لم يكتف بأن يستغل الطبيعة، بل إنه أحبها وأحب الناس، فيها، لذا تجد لوحة تعرض لمنظر كبير، وفي داخله فلاح يشتغل في الأرض، أو فلاحة تبذر أو تسير في الفلاة. الرسائل البليغة تسلط الضوء ايضا، فضلا عن لغته وأسلوبه، على عاطفته الإنسانية نحو عائلته وأصحابه والفن عموما، عندما يكتب مثلا عن ضرورة وجود بيت يجمع الفنانين، يتشاركون العيش والتفرغ للفن، وهي التجربة التي حاول أن يطبقها مع الفنان الفرنسي، غوغان (في البيت الأصفر) الذي وثقه في لوحاته، ولكن التجربة فشلت بسبب تصادم “أنا” الفنان عند كل منهم مع الأخرى، حدّ العنف الجسدي. لقد راح غوغان يسخر من واقعية زميله وبساطة لوحاته، ويرى أن الفنان يحتاح الى خيال وفانتازيا. لقد كان فان غوخ، مرهف الحس، يرى في أبسط الأشياء من حوله، لونا وظلالا وجانبا جماليا، يمكن الكشف عنه، لقد كان من أكثر الفنانين جرأة عندما صور البصل والبطاطا، الحذاء، والكرسي، إضافة الى المناظر الطبيعية، والبورتريهات التي اشتهر بها للبسطاء من حوله/ من فلاحين وخدم، إضافة الى طبيبه وأصحابه وعائلته. نعرف من خلال كتابته أيضا كونه مثقفاً كبيرا، شغوفا بالأدب، فقد كان يقرأ مثلا، للفرنسيين إميل زولا ومارسيل بروست، والإنجليزي تشارلز ديكنز، ويقدم المعرض نسخا قديمة من الأعمال الأدبية التي ورد ذكرها في رسائل فنسنت فان غوخ، وهو يناقش محتواها وأسلوب كتابتها. ننوه الى أنه كان يكتب أيضا بطلاقة بالفرنسية، ثم بالإنجليزية، إضافة الى لغته الأم، اي الهولندية، كما يقرأ بالألمانية. عاقل لا أهوج تقول أمينة المعرض آن دوما، “إن الرسائل تكشف عن طريقة تفكير الفنان في فنه، وكيفية إخراج لوحاته الى النور، وهي تدحض الانطباع الشعبي السائد بأنه كان عبقريًا أهوج لا يفكر”. بالطبع هي تشير الى العقلية التنظيمية التي وسمت أسلوب عمله ومتابعته الثقافية لما يجري في العالم، ولكن كل ذلك لا يمنع أبداً، حقيقة إصابته بالكآبة والصرع، وخذلان عقله وجسده له، هو المتفجر عاطفة للرسم والابداع، والذي كان يؤمن بموهبته قبل أن يصادق عليها الآخرون بكثير. وفي رساله كتبها أخوه تيو الى شقيقته اليزابيث، بعد حوالي أسبوع من وفاته، يحكي فيها عن فنسنت الفنان العظيم، وعن الإرث الابداعي الذي تركه خلفه، قال: “في الرسالة الأخيرة التي كتبها لي، ويعود تاريخها الى نحو أربعة أيام قبل وفاته، كتب فنسنت (أنا أحاول أن أفعل كما يفعل بعض الرسامين المعروفين، الذين يربطني بهم إلى حد كبير، الحب والاعجاب)”. لذا، يجب أن يدرك الناس أنه كان فناناً عظيماً، وهو أمر غالباً ما يتزامن، مع كونه إنساناً رائعاً. سوف يتم الاعتراف به في الوقت المناسب، لكن مع كثير من الأسف على وفاته المبكرة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©