الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

حركات الأباريق

24 فبراير 2010 21:51
نعود إلى شعرية التوهج الحسي كما تتجلى في كتاب السرّي الرفاء “عن الحب والمحبوب والمشموم والمشروب” بعد أن صحبنا بشار في طرف من نماذجه البديعة، لنستكمل “كتاب المشروب” الذي يدول حول ثقافة الشراب في الشعر العربي القديم، حيث يضفي عليها الزمان قدراً من جلال التراث وينقلها من منطقة السلوك المجتمعي إلى دائرة التأمل الفني إلى جانب الرؤية الاجتماعية والتاريخية والإنسانية. ونلاحظ أن الطرافة تصبح مناط التصوير الحاذق عندما يقول بشار نفسه: يا طيبها قهوة حمراء صافية كدمع مفجوعة بالإلف مغيار كأن بريقنا والخمر في فمه طير تناول ياقوتا بمنقار فلدينا تشبيهان يمتلكان كفاءة عالية في التصوير وقدرة فذة على إثارة الدهشة والتأمل في طبيعة العلاقات العجيبة بين الأطراف، فالقهوة الحمراء الصافية تحيل في المستوى الأول من الوعي إلى عوامل الفرح والبهجة. لكنها في إطار مجتمع محافظ مطارد بالشعور بفجيعة الذنب والإثم في الشراب الضروري والمحرم تتماثل مع أحر وأغلى سائل ينحدر من عين عاشقة غيورة فقدت إلفها بالموت أو الخيانة، هنا نشهد للشاعر شهوة مكتومة للسرد ورغبة محبطة في التمثيل القصصي يضطره الإيجاز الشعري إلى التلميح بها، لكنه يتحول إلى فنان تشكيلي في البيت الثاني يعمل مخيلته الناشطة في تصوير الإبريق والخمر منساب في فمه فيراه ببصيرته طائراً يتناول ياقوتاً أحمر بمنقاره، هكذا يتحدى بشار عيون المبصرين في التمثيل الحسي الجبار لمشهد لا يقدرون على التقاطه بطاقاتهم في المعاينة المباشرة ويبلغه الشاعر الضرير بمخيلته الخلاقة. أما والبة بن الحباب فهو يقارب أمثولة أشد تعقيداً عندما يتصدى للجمع بين المدنس والمقدس في قران صعب واحد، إذ يقول عن الإبريق أيضاً: إبريقنا مُضلٍّ يضحك في صلاته يكبُّ ثم يُقْعى كالظبي في فلاته يمجُّ كل شيء يمر في لهاته تنشط مخيلة الشاعر في مطلع المقطوعة بابتكار هذه الصورة الطريفة التي تعتمد على مفارقة الجمع بين الأضداد، فالإبريق في انحنائه يتحول إلى هيئة المصلي، لكنه لا يتمتع بوقار الصلاة ولا يلتزم بالخشوع الضروري فيها، بل يتدفق منه السائل المحرم لينتهك حرمة هذا الخشوع وكأنه يضحك في صلاته، فهذه الصورة المركبة تجمع بين الحسي والمعنوي في لفتة واحدة مثيرة للدهشة، ثم يأخذ الشاعر في استئناف مصيره فيجعله مثل ظبي يكب ثم يقعي معتدلاً دون أن تخرج منه قرقرة الأصوات، بل يمج كل ما يمر في لهاته من سوائل، مما يستحيل إلى صورة كريهة للخمر التي تتحول من فم الظبي إلى ما يشبه القيء. لكن شاعراً آخر هو ابن المعتز ينجح في إنقاذ هذا المجاج وتحويله إلى طعام سائغ محبوب في قوله: كأنها حين مجّت في الكأس ريقه خمره أم تعاهد فرخا بغرة بعد غرّة فيتحول الإبريق إلى أم رؤوم تحنو على أبنائها من الكؤوس التي تبدو كالأفراخ التي ما زالت بزغبها الأحمر وتتولاها بصب القطرات في فمها أو اللقيمات الممضوغة لها بعطف وتحنان، وهكذا تستحيل الصورة الكريهة إلى نموذج جميل بفضل الخيال الشعري.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©