الخميس 18 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

تصدعات الرجولة..

تصدعات الرجولة..
15 نوفمبر 2012
بعد فيلمه "الأرض والرماد"، أبى الكاتب والمخرج الفرنسي ذو الأصل الأفغاني عتيق رحيمي إلا أن يُلفت أنظار متتبعي مستجدات الفن السابع إلى معاناة المرأة الأفغانية عبر توظيف المهارات التمثيلية العالية للممثلة الإيرانية جولشيفته فراهاني. وقد أثبتت له أنها جديرة بالبطولة المطلقة التي منحها إياها. ولا عجب في ذلك، فهي سليلة أسرة فنية تهوى هذا الفن. فأبوها، الذي حضر عرض فيلمها في إطار الدورة السادسة لمهرجان أبوظبي السينمائي رفقة زوجته وشجعها بتصفيقات حارة، هو الممثل والمخرج الإيراني المشهور بهزاد فراهاني، وشقيتها هي الممثلة شقايق فراهاني. أخرج رحيمي فيلماً من العيار الثقيل، شارك فيه ثلاثة ممثلين إيرانيين، وثلاثة أفغان، وبعض المغاربة، وجرى تصوير مشاهده في مدينة الدار البيضاء المغربية. فيلم له نصيب كبير من عنوانه “حجر الصبر”، المقتبس عن رواية له تحمل العنوان نفسه والتي تُرجمت إلى 33 لغة وحازت سنة 2008 جائزة جونكور المعنية بالأدب المكتوب باللغة الفرنسية تمنحها أكاديمية جونكور للعمل النثري الأفضل والأخصب خيالاً. ولا شك أن رحيمي احتاج إلى الاستعانة بصبره في إخراج هذا الفيلم كما في كتابة السيناريو الخاص به، بالتعاون مع الممثل والسيناريست الفرنسي جون كلود كاريير. بوح صارخ بنى رحيمي روايته ثم فيلمه على ميثولوجيا فارسية ترى أن “حجر الصبر” هو حجر سحري يمكن أن تبوح له بكل أسرارك وأمانيك، بإحباطاتك وإخفاقاتك، بأتراحك وأفراحك، فيُصغي إليك ويُطرق السمع ويدعك تُفرغ له كل ما في قلبك، وعندما يتفتت هذا الحجر تشعر بخلاص نفسك، بعد أن تكون قد أرحتها من كل ما تراكم فيها من رواسب آلام ومعاناة الماضي والحاضر، وهواجس المستقبل. وقد ظهر ذلك بقوة مشهدية وإخراجية صارخة في اللقطة الأخيرة من الفيلم التي تُصور جولشيفته وهي تغرز خنجرها في صدر زوجها بعد أن تسللت إحدى يديه إلى يدها والأخرى إلى عنقها من أجل خنقها، بعدما باحت له بمكنوناتها وأسرارها طوال فترة رعايتها له بينما هو مشلول تماماً بسبب رصاصة في العنق أحالته إلى حجر صبر وجدت فيه زوجته عزاءها، وباحت له بكل ما لم تستطع إخباره إياه وهو في كامل قواه وجبروته كأحد المجاهدين الأفغان. كان بوحها شفافاً صريحاً لا يؤمن بأي من المحرمات والممنوعات التي تحيط المجتمع الأفغاني الذي مزقته الحروب وبسطت الجماعات الجهادية فيه سطوتها عليه، محاولةً حجب بصر المرأة وبصيرتها وكتم أنفاسها، بدءاً ببرقع يحجبها عن العالم، وتعامل معها كآلة للإنجاب وقطعة لحم لتلبية شهوات الرجال “المجاهدين”، لكنها نسيت نفسها وذهبت أبعد ما يمكن أن تذهب إليه امرأة أفغانية متزوجة، إذ تشعر وأنت تستمع رفقة زوجها “الحجر” إلى اعترافاتها أنك تقرأ رواية للكاتبة الفرنسية فرانسواز ساجان، أو نسخة منقحة من إحدى روايات الكاتبة الجزائرية أحلام مستغانمي. بينما تُشاهد في الواقع حكاية امرأة متزوجة بأحد أفراد المجموعات الجهادية في أفغانستان. مونولوج أسطوري اعترفت جولشيفته أنها وجدت الدور صعباً عندما عُرض عليها السيناريو لأول مرة، لكنها أحبته واعتبرته تحدياً قررت قبوله. ويبدو أنها نجحت بامتياز، فقد هيمن حضورها على الفيلم، وطغت أنوثتها عليه من جميع زواياه، فأداؤها هو مونولوج طويل، لكنه في غاية التشويق والإثارة والجرأة. في أثناء رعايتها لزوجها المشلول، لكن غير فاقد الوعي كما ظنت، لم تَغُصْ فقط في أغوار نفسها، بل في أغوار عدد كبير من النساء المتزوجات بكل الرجال الذين يعتبرون المرأة متاعاً. ولعل من عجائب هذا الفيلم أن المتفرج له يشعر أن كاتبه لا بُد أن يكون امرأة، وإلا فكيف يُلم بكل تلك التفاصيل والخبايا التي تتناول نفسيتها وتخيلاتها الحميمية ومعاناتها وأحلامها بتلك الدقة المتناهية. ما يجعل المتفرج يُشاهد فيلماً داخل فيلم، الأول محكي، والآخر مُشاهَد، ولكن بانتقال سلس و”بلاي باك” مُتقن يشد انتباهك إلى آخر لقطة. تسهر جولشيفته على الاهتمام بابنتيها والسهر على زوجها بعد تحوله إلى جسد هامد، وكأنه خشبة مسندة عقب إصابته بالشلل على يد أحد رجال المجموعات الجهادية الذي صوب رصاصة في عنقه بعد محاولة دفعه الإهانة التي تعرض لها وسب أمه بشتيمة نابية. تخلى أشقاؤه الثلاثة عنه بعد هذه الإصابة، فوجدت زوجته نفسها وحيدة لا مُعيل لها ولابنتيها، ولا تجد حتى ما تبتاع به قنينة الجلوكوز التي تضع أنبوباً موصولاً بها في فمه حتى يظل على قيد الحياة. تستعطف الصيدلاني ليمنحها القنينة دَيْناً، لكنه يرفض، فتملؤها بالماء والملح. تتذمر في البداية وتفكر أحياناً في التخلي عنه وتركه يموت بدل جعلها تُكابد عناء رعاية زوج كان في صحته فظاً غليظاً معها على الدوام. لكنها تتراجع، وتواصل جلسات اعترافاتها معه، بل وتُصبح جلسات البوح هذه دافعها الرئيس لمواصلة الاهتمام بزوجها. كانت شهرزاد من نوع آخر، فحكاياتها حقيقية غير مختلقة ولا متخيلة، ونفسها بئر مملوء بالأسرار، عميق الأغوار. تروي مشاعرها وهي تحتفل بخطوبتها إلى جانب صورته، وتجلس على كوشة زفافها بجانب صورته وخنجره، بينما هو منشغل مع “المجاهدين” الأفغان. وتصف قلة خبرته في المعاشرة الزوجية وتعبر عن استيائها منه كونه لم يُقبلها قط طوال عشر سنين من زواجهما. فقد كان الفراش بالنسبة لها ألم جسدي لا أكثر، وبالنسبة له ساحة معركة باردة الوطاس، وحرب تضع أوزارها في أقل من دقيقة. تحكي علاقتها بحماتها وكيف بدأت في الشكوى منها بعد مرور أشهر على زواجها دون إنجاب طفل، وتحريضها ابنها على تطليقها لتزويجه من بكر أخرى ولود، فتنصحها خالتها بالقيام ببضع زيارات لحكيم يصنع المعجزات، فيحقق أحد علوجه أمنية حماتها وتُرزق بابنتين لم يعرف زوجها العقيم أنهما ليستا ابنتيه إلا في الحلقة الأخيرة من حلقات اعترافاتها للحجر (الزوج المشلول)، فيقع هذا الخبر كالصاعقة على أذنيه، ويوقظه من سباته المتحجر، ويشعر وهو المجاهد الطالباني بأنها طعنته في رجولته، ويحاول خنقها، فتطعنه بخنجرها قبل أن تبتسم وهي في أبهى تبرجها للجندي المريض بالتأتأة الذي نشأت بينها وبينه علاقة غير مخطط لها بعد أن هاجمها مجاهدون فأخبرتهم بأنها تبيع جسدها حتى لا يغتصبوها، فنجحت حيلتها، لكن الجندي الذي لم يسبق له مس أنثى عاد إليها وسلمتها جسدها إشفاقاً عليه. لكنها أطلقت معه العنان لنفسها وفعلت معه ما لم تستطع فعله مع زوجها من تخيلات حميمية. رهان السمان جاءت اعترافات جولشيفته حُبلى بالقصص، فقد حكت لزوجها المشلول عن أبيها القاسي الذي كان مقصراً كثيراً مع أمها وإخوتها، وحنوناً ومُدللاً لطيور السمان التي يمارس عادة تربيتها للمشاركة بها في رهانات تصارُع طيور السمان. وكيف أنه راهن ذات يوم على مبلغ كبير لم يكن بحوزته، فاضطُر معه إلى تقديم أختها الكُبرى للرابح بالرهان بدلاً من المبلغ، ما جعلها تنتقم بطريقتها من أحد الطيور، فتخرجه خلسة من قفصه وتُطعمه لإحدى القطط، وتستمتع بافتراسه وتمزيقه إرباً إرباً، وكأنها تنتقم لأختها من قسوة أبيها الذي اهتم أيما اهتمام بالتربيت على جناح السمان، ولم يأبه أبداً باحتضانها أو الابتسام في وجهها، بل كان يشبعها وأختها ضرباً عقب كل رهان يخسره. ما ينتظر جولشيفته ليس هذا أول دور بطولة تلعبه الممثلة الإيرانية الشابة جولشيفته فراهاني، فقد تألقت في أول دور لعبته وهي في سن 14 حازت إثره جائزة أفضل ممثلة من مهرجان فجر السينمائي في إيران، عقبتها أدوار أخرى جعلتها تنال جوائز متعددة كجائزة مهرجان سان سيباستيان سنة 2006 عن دورها في فيلم “نصف القمر”، وجائزة من مهرجان القارات الثلاث في نانت الفرنسية. لكن مشاركتها دون ارتداء غطاء الرأس في الفيلم الأميركي “كتلة أكاذيب” الذي لعب فيها دور البطولة ليوناردو دي كابريو وراسل كرو جلب عليها سُخط السلطات الإيرانية التي تُلزم الممثلات بارتداء الحجاب حتى عند التمثيل في أفلام أجنبية، فحظرت سفرها لفترة. لكن انتقاداتها اللاذعة للحكومة الإيرانية ودعمها للحركة الإصلاحية الخضراء للدفاع عن حقوق النساء سنة 2009، ثم ظهورها سافرة على غلاف إحدى المجلات الفرنسية جعل السلطات الإيرانية تصنفها ضمن المغضوب عليهم. وفي فيلم “حجر الصبر” الذي حظي في مهرجان أبوظبي السينمائي بثالث ظهور له بعد مهرجان تورونتو، والذي سيُعرض بحلول العام المقبل في كافة القاعات السينمائية العالمية، يتوقع عدد من النقاد أنه قد يكون القشة التي تقصم ظهر النجمة جولشيفته وتضعها في القائمة السوداء، وقد يذهب ملالي إيران أو أفراد طالبان إلى حد هدر دمها لكونها ظهرت عارية في هذا الفيلم أو محاولة اغتيالها كما فعلوا مع الفتاة الباكستانية ملالا ذات 14 ربيعاً التي تعرضت مؤخراً لمحاولة اغتيال على يد عناصر من طالبان بسبب دفاعها عن حقوق البنات في التعلم، والتي نُقلت لتلقي العلاج في لندن على متن طائرة إماراتية. إحالات ثقافية أكثر الأماكن التي جرى فيها تصوير الفيلم هو غرفة البيت التي يُمدد عليها جسد الزوج المشلول. وهي غرفة بأثاث بسيط وسجادة ومصحف تلجأ إليه الزوجة كلما شعرت بالذنب في إخبارها زوجها بحكاياتها التي لو سمعها سابقاً لما تردد لحظة في قتلها. ولعل حضور المصحف هنا له دلالة رمزية تبين ذاك الصراع الداخلي الذي تعيشه الشخصية المسلمة للاستغفار وطلب تكفير الذنب كلما وقعت في زلات وأخطاء. يتعرض هذا البيت مراراً وتكراراً إلى القصف، وتغادره الزوجة للاختباء في القبو كلما سمعت قصفاً أو وَقْعَ رجال الجماعات الجهادية المتناحرة الذين يبيحون دخول كل البيوت بهدف تصفية معارضيهم، والانتقام من نسائهم “العاصيات الكافرات” عبر اغتصابهن. لكنها كانت تلجأ إلى خالتها العاقر بعدما عرفت مكان إقامتها في إحدى دور بيع المتعة، وهي بدورها ضحية لتخلي زوجها وأفراد أسرتها عنها بعدما علموا أنها عاقر. كما تترك معها ابنتيها أحياناً باعتبار مكان إقامتها أكثر أماناً من بيتها الخراب، خصوصاً بعد أن يتعرض جيرانها للنحر والقتل على يد مقاتلين. أبدع خريج السوربون في فيلمه كما أبدع في روايته، وقدم مادة سينمائية تبقى تُحفة فنية مهما اتفقنا أو اختلفنا بشأن طريقة ظهور ممثليها. وتحضر بطلته جولشيفته فراهاني بجمالها وقوة أدائها، وحضورها الطاغي، وتكشف النقاب عن المسكوت عنه لدى الزوجات الشرقيات، وشريحة من الإناث المسلمات، خاصة في البلدان التي يحكمها متطرفون ويعيثون فيها إرهاباً.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©