الخميس 18 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

اعترافات ومكاشفات يابانية

اعترافات ومكاشفات يابانية
15 نوفمبر 2012
إذا كان الكاتب يهيمن على عمله الروائي من خلال استخدام السرد بضمير المتكلم، فإن رواية “تانغو طوكيو” للروائية اليابانية ريكا بوكاموري هي خير تمثيل لهذا الحضور المهيمن للكاتبة على روايتها التي تتناول حكاية فتاة تطغى عليها نزعة البحث عن الملذات واللهو والحب، الذي تجده أو تفترض تحققه مع رجل ثري مقامر وكريم، وذلك هربا من حياتها التي كانت تعيشها، في بيت والدتها المطلقة، التي كان جل همها أن تتابع ابنتها دراستها في جامعة مرموقة، وعندما تحقق هذا المطلب تفسح لها المجال لكي تعيش حياتها بحرية فتلجأ الأخيرة إلى العمل ليلا في ملهى لتأمين حياة اللهو التي تريد. لكن الفتاة التي كانت تعاني من الشعور بالوحشة والغربة في بيت والدتها، تجد في حياة العبث واللهو وسيلتها لتغيير واقع حياتها، والدخول في عالم البحث والمغامرات. تخترق جملة الاستهلال حدث الرواية مباشرة دون مقدمات أو وصف للمكان، أو تقديم للشخصيات، إذ تبدأ العتبة السردية من مقدمة تحذيرية من مرافقة الشخصية المقامرة لأنها ستبدد حياتها من أجل الحظ، لتبدأ بعدها بسرد لقائها الأول مع شخصية تكبرها بعشرين عاما وتهوى تقديم نفسها من خلال شخصية مستعارة: “في الواقع كان بوغي بالنيبة لي بمثابة لينوس في مسلسل”بيناتس” الكرتوني. كان ملكيتي المفضلة ويستحيل أن يخالجني أني على خير ما يرام إن لم يكن بوسعي التشبث به. كان دافئا ومن الصعب العيش دونه وكنت أرغب في اصطحابه معي حيثما توجهت”. تحاول الرواية وصف الحياة الجديدة التي شهدتها اليابان في مرحلة الفورة الاقتصادية الكبيرة، في بدايات ثمانينيات القرن الماضي، والمتغيرات العاصفة التي خلفتها تلك الفورة على مستوى السلوك والمفاهيم وأنماط الحياة الاستهلاكية من لهو وفساد وسعي محموم وراء الشهوات لاسيما عند جيل الشباب المندفع وراء المغامرات والشهوة والأهواء. صورة عائلية تبدأ الكاتبة بوصف عائلة البطلة وفي مقدمتها شخصية الأم التي تبدو واثقة من نفسها، والأب الضعيف، إضافة إلى أخوالها الذين يستولون على ثروة العائلة ويبذرونها في حياة اللهو والملذات. أما بالنسبة إلى شخصية البطلة كما تصف نفسها فإنها تتسم بمحدودية الأفكار والتطلعات خارج حياة اللهو والملذات التي كانت تشكل لها مهربا، لكنها رغم ذلك تحاول الحفاظ على حدود الاندفاع، من أجل الحصول على المال حفاظا على كبريائها. ومن خلال علاقاتها المتعددة تتعرف بطلة الرواية إلى أنماط مختلفة وكثيرة من الرجال الذين تقيم معهم علاقات عابرة، تستطيع من خلالهم أن تتعرف إلى عالم الفساد والمال والمغامرات، لكن الجانب الأهم الذي تكشف عنه هو عالم النساء، والعلاقات الغرامية الواسعة التي تقيمها مع الرجال حيث تشكل النوادي الليلية المكان الأمثل لتلك العلاقات، في حين أن بطلة الرواية بعد تجربتها التي تعيشها أثناء عملها في النوادي الليلية بعيدا عن أعين والدتها تعثر على رجلها الذي تبحث عنه، والذي تتعرف معه إلى معنى العلاقة الجسدية الحقيقية بين الرجل والمرأة، في حين يجد هو في العلاقة معها وسيلة للهرب من زوجته المتسلطة ومصدرا للشعور بالتجدد: “بفضل غريزة ما حيوانية استشعرت فيه قدرة على الحب العميق. ما كنت أبحث عنه كان يمتلكه. رغبت بشخص يعنى بي وليكن ما يكن، بشخص يعشقني بصدق دون شروط ملحقة، وعلى استعداد للمجازفة بحياته من أجل حياتي. كان بوغي يمتلك كل المزايا اللازمة للقيام بكل ذلك”. عالم الليل تتيح بطلة الرواية للقارئ من خلال مغامراتها الكثيرة وتنقلها المستمر في عالم الفساد المنتشر وبين ملاهي طوكيو ونواديها الليلية أن يتعرف إلى أحياء تلك المدينة، وحياة سكانها وطبقاتهم الاجتماعية ولباسهم وسلوكهم وطرق لهوهم وكيفية اندفاعهم المحموم وراء أهوائهم وملذاتهم تحت تأثير الفورة الاقتصادية الواسعة، لكن صديقها المقامر بوغي الذي تنقذها علاقتها به من حالة الضياع والعلاقات العابرة، من أجل الكسب المادي، يصبح ملاذ روحها القلقة ومحور حياتها، حيث يقودها إلى الإيغال في عالم المتع واللهو والمطاعم الفاخرة التي كان يرتادها باستمرار، وينفق فيها المال الوفير الذي كان يكسبه من أعمال الاحتيال التي كانت تقوم بها شركة التوظيفات المالية التي كان يعمل بها، ما يقوده في النهاية بعد انكشاف أمره إلى السجن. تنتهي علاقة البطلة ببوغي إلى الزواج ويكون عليهما أن يؤديا دور العروسين الوقرين أثناء طقوس الزواج، على خلاف ما عرفت به شخصيته من سخرية وعبث، لكن سلوكه المغامر وبحثه عن الكسب المادي الوفير من أجل مزيد من الإسراف على ملذاته، يقود تلك العلاقة إلى الانفصال بسبب وضعه الذي انتهى إليه في السجن، ورغم ذلك لا تستطيع أن تتخلص من ارتباطها العاطفي والروحي به، إذ تظل تعتبر زواجهما ما زال مستمرا على الأقل روحيا. وفي حين تقوم صديقة أخرى لبوغي تتمتع بقوة الشخصية بمتابعة قضاياه القانونية، والعمل من أجل تسوية وضعه القانوني، تعترف بطلة الرواية بعجزها، وعدم قدرتها على القيام بهذا الدور، رغم كل الحب والشعور بالارتباط الذي تحس به تجاهه. يظهر التباين في الشخصية بينها وبين والدتها العملية وذات الشخصية القوية، في حين تظل شخصية بطلة الرواية بحاجة إلى شخصية أخرى تكملها وتحقق لها المتع واللهو، وهو ما جعلها رغم علاقات بوغي النسائية المتعددة، وكونه متزوجا أصلا تتمسك به وتعتبره مركز حياتها الذي يجب أن تفعل كل شيء للمحافظة عليه. في بنية الرواية باستثناء أن جملة الاستهلال تخترق حدث الرواية، وتضع القارئ مباشرة في عالم الرواية، دون تمهيد أو مقدمات، فإن الرواية تتميز ببنيتها الواقعية التي تحاول الكاتبة من خلالها، أن تتمثل تجربة الواقع في مدينة عالمية كبرى كطوكيو، ولذلك نلاحظ استخدامها لأسماء الأماكن الحقيقية، والإسراف في وصف الشخصيات وطباعها وأنماط سلوكها، وطبيعة العلاقات المادية والاجتماعية، التي تحكم الواقع في تلك المرحلة التي تحيل الإيحاءات الزمنية فيها على فترة النصف الأول من الثمانينيات الماضية. تنقسم الرواية إلى ثمانية فصول على الرغم من حجمها المتوسط، حيث تمضي أحداث الرواية بشكل خطي تصاعدي وتعاقبي، لتنتهي أحداث الرواية باعتراف ذاتي، ومكاشفة مع الذات تلخص فيها بطلة الرواية تجربتها التي عاشتها مع بوغي، والدور الذي حاولت أن تلعبه فيها، ومدى تمسكها بهذا الدور الذي كانت، وما زالت تستمد منه الشعور بالحياة والجمال في ذلك العالم الوهمي الذي كان، وما زالت تحاول أن تواصل العيش فيه، ما يجعلنا نتساءل معها هل الحياة التي نحياها عادة هي الحياة الحقيقية، التي كنا نريد أن نعيشها، أم إننا نعيش وهم الحياة، وهي تقودنا في أوهامها الجميلة وغواياتها: “الفتاة التي كنتها يوما أيام كنت مغرمة ببوغي كانت فتية جدا بريئة جدا وجميلة جدا الأمر الذي أتاح لها الوجود في عالم وهمي طوال فترة ما رغبت فعليا في أن أصبح وهم بوغي. أحسب أنني سأحمل ذلك الشعور أغرسه في أعماق قلبي وأقفل عليه بصمت”. صدرت الرواية عن مشروع كلمة في أبوظبي، ضمن سلسلة الروايات اليابانية، وهي من ترجمة شارل شهوان.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©