الأربعاء 17 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

في الأساطير لا مكان لشهداء البشر

في الأساطير لا مكان لشهداء البشر
25 نوفمبر 2015 21:23
الشهادة موت في سبيل قضية، تكون عادلة وغير ذاتية في العرف العام لشعب، أو في سبيل عقيدة منتشرة في أكثر من شعب. والأمثلة كثيرة في التاريخ الديني والقومي والوطني، بل هناك أبطال في القبائل ضحوا وافتدوا فعوملوا معاملة الشهداء في الذكرى والاحترام، من غير أن يكون مفهوم الشهادة لديهم كما هو لدى من جاء بعدهم، ويحتفظ لنا الفولكلور القديم بالكثير من صور الشهادة. وعندما يستشهد شخص في سبيل قضية عامة ينتقل إلى الميثولوجيا، فيمنحه الأدب كل الصفات النبيلة، حتى يصل إلى مرتبة القداسة، فيصير كائناً نورانياً ويصبح قدوة ومثالاً أعلى. هذا هو قانون الشهادة التي تحدث في الواقع التاريخي. أما قانون الشهادة التي تحدث في الميثولوجيا فلها طريق آخر، كما سنرى فيما بعد. طرأت على مفهوم الشهادة تحوّلات كثيرة عبر التاريخ بحسب عادات الشعوب وتقاليدها. فلم يكن لدى الأزتك في المكسيك أو الأنكا في البيرو أي شيء عن مفهوم الشهادة. كان الكثير من حروبهم يشن لتأمين الضحايا لربهم- الشمس- حتى يستمر في منح الحياة. وكان هذا في الشرق أيضاً، وما المنذر بن ماء السماء سوى بقية باقية لهذه العادة. فكانت الضحية، كقربان مقدس، النموذج الأول للشهادة البشرية. والضحية منذ القديم ترفع إلى الآلهة، كإسحق وأفيجينيا. أما شهداء الحروب فكان موتهم عادياً، ولا تذكر إلا بطولاتهم فقط. ألوان وفروق كل هذه الألوان والفروق لا أهمية لها عندما نبحث في أصل الشهادة، الذي يعود إلى الميثولوجيا حصراً. فمن القرابين المرفوعة إلى الآلهة ظهرت الضحية ومن الضحية ظهر مفهوم الشهادة، ولا يزال هذا الأصل يرافق المفهوم، سوى أنهم قديماً كانوا يؤمنون أن أرواح الراحلين تظل معهم، تتفقدهم بمواسم وطقوس خاصة بكل شعب، بينما في المسيحية، مثلاً، يجلسون في أحضان إبراهيم، ويتمتعون بنعيم الجنة، بلا عودة. وبظهور المسيحية ارتفعت الضحية أو الشهيد إلى مقام القداسة، فكل قتيل من أجل الدين يعتبر قديساً رجلاً كان أو امرأة أو طفلاً صغيراً. ولدى الكنائس المسيحية في هذه الأيام سجل فيه جميع القديسين يسمى السنكسار يعرف القارئ منه اسم القديس وحياته وعصره ومصرعه وما قام به من واجب ديني، أو ما صنعه من عجائب وما شابه ذلك. وهناك كتاب السواعي الكبير الذي يقسم الزمن إلى أشهر وأيام، والأيام إلى ساعات، وكل ساعة لها قديسها وما يجب على القارئ القيام به تجاه ذكرى هذا القديس. وكان السواعي أولى هدايا العريس للعروس، فيكون عوناً لها في تمضية النهار في المنزل الجديد، ومرت فترة لم تكن العروس تغادر منزل أهلها من دون كتاب الشهداء، الذي روجوا أنه يعلم الفضيلة بتلك السير الكئيبة... الخ. ومع أن السنكسار سجل القديسين، فإننا لا نجد فيه ما اعتبرته المسيحية شهيدها الأول، وهو هابيل. إلا أن الشعراء استغلوا هذه الظاهرة الشعرية المأساوية- وهم المشهورون بالتقاط اللمحات الأدبية من كل شيء وكل ظاهرة أو حتى حادثة بسيطة- وراحوا يسخرونها لأغراضهم الفنية فصار هناك أنواع كثيرة من الشهادة، حتى صرنا نسمع بشهيد «الحب» وشهيد «الأعين النجل» حتى أنهم أطلقوا على رابعة العدوية «شهيدة العشق الإلهي» وراجت قصة روميو وجولييت الإيطالية فاعتبر الشعراء العاشقين شهيدين من شهداء الحب. وفي العصر العباسي، تمادى الشعراء في المجون وكثرت لديهم تعابير الشهادة في أشياء لا تمت إلى الشهادة بالمفهوم الميثولوجي الأصلي، كشهيد الكأس، وشهيد النهد.... ولا حاجة أن يموت حتى يصير شهيداً، إنه شهيد حيّ، وهو الذي يبسط قصة شهادته في شعره... وهكذا يصبح رهين الميثولوجيا الشعرية، التي تجمع بين الواقع والخيال، ولا يزال هذا النهج قائماً، كما يتضح في أدب أمريكا اللاتينية فيما سمي «الواقعية السحرية». إن الواقع كان ولا يزال أسير الميثولوجيا والمعتقدات الأخروية، وبخاصة في الأدب والدين. وعندما طفت على السطح النزعة القومية سادت سيادة شبه كاملة في الشعر والأدب، وامتدت المشاعر الوطنية إلى كتب التربية والتعليم فصارت الشهادة تمنح في الدرجة الأولى لكل من يسقط في سبيل الوطن، فإن لم يسقط سمي بطلاً، وحظي بالتكريم، وأحياناً بشيء من التقديس يقرب مما كان قديماً في عصر أنصاف الآلهة، فمعظم الأبطال القدامى نالوا التقديس وصاروا أنصاف آلهة، وظل ذكرهم بين الناس. ولو رحنا نستعرض لوجدنا الكثير من الألوان في معنى الشهادة، خارج الدين، فقد درجت بعض العائلات على إطلاق الشهادة على من يموت من أفرادها في بلاد المهجر، على أساس أنه لو لم يضح من أجلها لما لقي أجله، ولو صرعته بعوضة وهو يتنزه مع صديقة على نهر الأمازون. الخلاصة أن كل مفهوم للشهادة يعود في أصله وفصله إلى المفهوم الميثولوجي الأصلي، كما سنبسطه. معنى الأساطير قبل عرض أساطير الشهادة التي اخترناها، لابد من لمحة لتحديد معنى الأساطير، المصدر الأساسي للشهادة، فهي أصل كل ما نراه اليوم من أنواع التضحية والفداء التي تخضع لاعتبارات خاصة، من مقاتلي داعش، حتى صرعى القصف الجوي من النساء والأطفال... وحتى غرقى الزوارق المطاطية في السواحل اليونانية... إذن، انطلق المفهوم من الميثولوجيا وتضحية الإله، ولكن لم يبق أسيرها... صار أسير الاعتبارات. درجت العادة أن نضع التاريخ- كما نتصوّره- في الكفة المقابلة للميثولوجيا، فنعتبره واقعياً ونعتبر الميثولوجيا خيالية. والغريب أن أبناءنا من طلاب الجامعة والمتخرجين فيها ما زالوا يميلون إلى هذا الموقف، ولا يميزون الأسطورة من خرافة التسلية وقصص الأطفال، ويعود هذا إلى أنه لا يوجد في جامعاتنا العربية قسم لتدريس الميثولوجيا، مع أنها بداية كل شيء: بداية الأدب والفن والفلسفة والتاريخ والملحمة والرواية والمسرحية. إنهم يعتبرون مسرحية أوديب ملكاً أدباً واقعياً يدور في أماكن محددة ويروي وقائع تاريخية، بينما يعتبرون أوديب خارج المسرح أسطورة، غير رابطين بين الواقع والترميز، بين فكرة الأسطورة والتعبير عنها. هذه النظرة تشوّش فهم الأساطير. فكأن اعتبارها خيالية نوعا من الابتعاد عن التعامل معها. ولو انتبهنا إلى أن ما يسمى خيالاً ليس سوى ترميز للواقع، لأقبلنا على التعامل معها بكل الدوافع الأدبية والتقدير الفني. فعندما نعرف أن «كرونوس» يعني الزمن، نفهم لماذا شخصوه بجبار متجهم في يده منجل، يحصد كل ما يلده هو، فلا يوجد مولود للزمن يهرب من منجله الضخم. فالانطلاق يجب أن يكون من هذا الموقف، فقد شخصوا كل المعنويات تقريباً: الحسد والغيرة والجوع والعبث والمكر والخداع والحب والبكاء والضحك والجمال والأحلام بكل أنواعها والعواصف والرياح بكل اتجاهاتها... وهكذا. إن إهمال تدريس الميثولوجيا جعلنا نظن أن الأدب والرسم والنحت والمسرح والملحمة والرقص والغناء والفلسفة والتاريخ... لا علاقة لها بالميثولوجيا مع أنها منها صدرت وعلى رحبها ترتع وتلعب، وفي مقدمتها الشهادة. أما أنواع الأساطير فلا يتسع المجال لسردها من أخلاقية وتعليمية ودينية ولغزية ومسلية... لكن أساطير الخلق والتكوين لها وضع خاص جداً. فالأساطير التي هدفت إلى الحفاظ على الطبيعة، وتدور عن حوريات الغاب والنهر والجبل وسوى ذلك، أو التي رمت إلى الإصلاح الاجتماعي والفردي لا علاقة لها بموضوعنا. الأساطير التي تهمنا في هذا الصدد هي التي قام بها الآلهة الكبار، فيما يخص الخلق والتكوين، أي البشرية والكون، بغض النظر عن المنطقة والإقليم والعرق والدين، فهي أساطير شاملة مغزاها يشمل الجميع. الشهادة في الأساطير كل أنواع الشهادة التي في الاعتبارات البشرية لا وجود لها في الأساطير غير البشرية، لأن البشر هم الذين يمارسونها، أما في الميثولوجيا فهناك شهادة واحدة تبدو معكوسة بالنسبة إلى أنواع الأساطير التي ذكرناها، إذ إن الإله هو الذي يضحي من أجل الشعب، وليس العكس. فهناك فعلان أساسيان: الفعل البشري والفعل الإلهي في الفداء والشهادة، ولا يلغي أحدهما الآخر. الفعل البشري من أجل أغراض متنوعة، فعلى سبيل المثال كانوا يضحون بالشباب في كل ربيع، فيذبحونهم في البراري حتى تخصب الأرض (أسطورة هيسنتوس) وعندما صار هناك نقص في عدد الذكور، عمدوا إلى جمع البنات والنساء في منزل واحد إلى أن تتوحد فيهن الدورة القمرية، ثم يؤخذن إلى الحقول في موعد الدورة حتى يخصبَ الدمُ الأرضَ، فوفروا الأضاحي البشرية. لكن هناك شعوباً، كشعوب أمريكا القديمة، لم تغيّر عادتها في بقر بطون الأطفال وانتزاع قلوبهم وهم أحياء، حتى تظل الشمس ترسل هباتها إلى الأرض. وانتحار الروماني من أجل روما، ظاهرة محدودة وواقعية، وإن كانت من أصل أسطوري بعيد. لنخلص إلى قاعدة عامة: الشهادة في الأسطورة هي تلك التي لا يوجد فعل بشري فيها، أما الشهادة البشرية فهي التي يمارسها البشر، وإن بدافع ميثولوجي، أو عقيدة دينية، أو دافع ذاتي... ولا حاجة إلى ذكر الفروق الثانوية. بدأت الأساطير تهبط من العام إلى الخاص، من الآلهة إلى أنصاف الآلهة (الأبطال) إلى الإنسان العادي. هذا الهبوط يرافق التطور الطبيعي للشعوب بعد أن أخذت نظرتها الواقعية تنمو وصارت الميثولوجيا تستخدم كدافع ومحرك. فمَن مِن الأدباء اليوم يشير في الظواهر والأنواء البحرية إلى نبتون أو أبنائه المختصين، حيث لكل واحد منهم وظيفة بحرية؟ أو يذكر لاتونا بدلاً من القمر أو يذكر بنتوس بدلاً من جوقة الندابات أو بريابوس بدلاً من السماد المخصب للحدائق؟ مرة أخرى نشير إلى أن الشهادة في الأساطير تضحية وفداء من ضمن نظرة كونية واسعة جداً، فولادة الكون أو ولادة الخليقة لابد أن تسبق بصيحات الطلق وآلام الوضع، وعلى الإله أن يضحي فداء للكون والبشرية. فمهما ابتعدت الشهادة عن الواقع وأكثرت من الرموز، تظل مرتبطة بعدة أشياء أهمها: التكوين والخلق وثبات السيرورة وشمولية النظرة، وإن كان كل شعب، في زمن ضعف التواصل مع الشعوب الأخرى، يعتقد أن الخليقة لا تشمل سواه، فالسمة القومية التي تظهر في الميثولوجيا اليونانية أو الاسكندينافية ليست تعبيراً عن نزعة قومية، بل المقصود الخليقة برمتها. أما الأساطير المختارة هنا فهي تلك التي يضحي فيها الإله من أجل الكون والخلق، ليبقى الكون مستمراً على نظامه، فلا ينقلب الشتاء صيفاً ولا الصيف شتاء، وليتمتع الخلق بخيرات الأرض التي يخصبها الإله. وقد حرصنا أن تكون من الشرق ومن الغرب، مع أنها كلها تصب في هدف واحد. وبما أن الآلهة خالدون، فإن موتهم عبارة عن فترة اختفاء، يعود بعدها فيعود الخصب إلى الأرض والسعادة إلى البشرية. ومن هنا ندرك كيف أن الشهداء البشر عوملوا بحسب هذه القاعدة نفسها، فهم سيظلون أحياء خالدين، وسيبقى اسمهم مؤبداً. وسوف نهمل الميثولوجيا المكسيكية والبيروفية وأمريكا الشمالية... وسواهما من الميثولوجيات الأمريكية بسبب تعقيداتها وتناقضاتها، وبما أن الأساطير خارج التاريخ، فلا حاجة إلى ربطها بالزمن. شعب من الشهداء لا توجد ميثولوجيا في العالم تشبه الميثولوجيا الاسكندينافية في هذا الصدد. شعب بكامله ذكوراً وإناثاً يستعد للشهادة. الشباب يسمون الأبطال والشابات يسمين الفالكيرات، يحاربن وينقلن أرواح الأبطال من أرض المعركة إلى الفالهالا (قصر الأبطال الموجود في أوليمب الاسكندينافيين الذي يطلقون عليه اسم الأسغارد) وهناك يقومون بالتدرب على فنون القتال، في انتظار المعركة الأخيرة (الروغناروك) وهي معركة معروفة النتيجة، إذ يعرفون أن قوى الظلام والشر سوف تنتصر انتصاراً ساحقاً، فهم منذ الآن يعدون العدة لمعركة خاسرة، يدركون أنهم سوف يستشهدون لكن الشهادة تقتضي أن يموت المحارب شجاعاً... هذا كل شيء. ومع أن أودن رئيس الأسغارد (يقابل زيوس عند اليونان وجوبيتر عند الرومان) يعلم علم اليقين بمصير المعركة يغامر ويبحث عن شيء ما يجعل الشباب والشابات يخوضون المعركة الأخيرة بشجاعة، فيسمع بشراب الميد (يشبه النكتار والأمبروزا عند اليونان) فيغامر ويغيب فترة طويلة ويعود بهذه الخمرة المنعشة، ولكنه يفقد عينه، فيعصبها ويجلس على كرسيه وعلى كتفيه غرابان يطلقهما صباحاً ليعودا مساء بأخبار كل العالم، فيغيّر ويبدل من تكتيك المعركة حتى لا يكون هناك أي مجال للتخاذل. لكن الميثولوجيا الاسكندينافية ليست بهذه البساطة، إذ إن المعركة الأخيرة إذا خاضها الاسكندينافيون ببطولة فسوف يضعفون الخصوم، وعندها تقوم أرباب القضاء والقدر بخلق شمس جديدة لعالم جديد وبشرية جديدة. وهكذا يكون «المهدي» عندهم شعباً بكامله. إذن المعركة الأخيرة ليست بهذه العبثية، بل إن الموت طريق إلى قيامة جديدة، وبذلك تتقارب هذه الميثولوجيا مع الميثولوجيات الشرقية. بالدر وتتجلى الشهادة في موت الإله بالدر بن أودن، فقد حلمت أمه فريغا (ويوم فرايدي مسمى باسمها) أن ابنها سوف يموت، فطافت العالم تأخذ يميناً من كل شيء: البشر والحجر والنبات والحيوان... أنهم لن يؤذوا بالدر، وأشارت حاشيتها إلى شجرة هدال فلم تنعطف إليها لتأخذ منها اليمين، مستهينة بها للين غصونها. وصارت بعدها تنام قريرة العين، إلا أن لوكي الشرير عرف بما جرى، فجمع عدة أغصان وجدلها وقدمها لشقيق بالدر واسمه هولدور الأعمى (رمز الليل بينما أخوه بالدر رمز النهار، والليل والنهار في تلك البلاد لهما حسابات غير حسابات المناطق الأخرى) وعندما أجرى الآلهة اختباراً إن كانت الأشياء تؤذي بالدر من سيف ورمح وبلطة وهراوة... تقدم هولدور يرشده لوكي فصوّب وأصاب فقتل أخاه (يذكرنا بقابيل وهابيل) وتقوم المساعي لاسترجاعه من ربة العالم الآخر هيلا لقاء أي فدية، فتشترط: إذا بكاه كل الناس فسوف يعود. ولكن عجوزاً شمطاء رفضت البكاء، فبقي هناك. ولما علم آلهة الأسغارد أن هذه العجوز ليست سوى لوكي نفسه، صمموا أن يتخلصوا منه ليعود بالدر نوراً مشرقاً بعد الغيبة الطويلة. وعندما أقيمت جنازة بالدر رمت زوجته نفسها في المحرقة وماتت معه، ولكنها لم تعتبر شهيدة مثله، لأنها لم تمت من أجل البشرية كزوجها. وبعودة بالدر عاد النور، شأن كل إله عائد من العالم الآخر، كرشنا وسواه... هذه الغيبة مشروطة ببكاء جميع الناس، أي تشخيص لحالة الضيق التي ستصل إليها البشرية، وعندها يقتل لوكي ويعود بالدر، وهي ملامح تذكرنا بحالة الكرب التي تقع فيها البشرية قبل عودة الإله الفادي أو المهدي المنتظر أو كرشنا المخلص... الخ. بروميثيوس رمز من أكبر رموز التضحية والشهادة في الأدب العالمي، ومعشوق الشعراء والكتاب، منذ أسخيلوس حتى هذه الأيام. يسمونه «صديق البشرية» ويلقبونه بمعلم الحرية والتنوير. وهو في عذابه شبيه بكرشنا والمسيح. معنى اسمه «الفكر المتقدم» لذلك أدرك أن زيوس سوف ينتصر في المعركة فوقف معه، وصار المدلل عنده. وهو الذي خلق البشرية، بأمر من زيوس، ولكنه لم يقتنع بالهبات التي سمح بها زيوس للبشر. فكر بروميثيوس أن يحرر البشرية. كيف؟ بالعمل. وهل هناك عمل من دون نار (صناعة)؟ إذن لابد من تقديم النار حتى يتقدم الناس في كل المجالات. أدرك زيوس ما يفكر فيه فنصحه ألا يفعل ذلك. لكنه كان يعرف بعقله المتقدم أن البشر سوف يتقدمون إذا امتلكوا النار، وسيقضون على الآلهة. وقد تنبأ ل زيوس أن عهده سوف ينتهي عندما يحل العصر الحديدي. نهره زيوس وأفهمه أن التخلي عن الآلهة ليس أفضل للبشرية من الإيمان بهم، فلم يأبه وسرق النار وكان ما كان. لا يوجد في ميثولوجيا أوروبية شخصية تشبه بروميثيوس في عذابه، فقد صلب على جبل القفقاز وسلط نسر على كبده، فكان ما ينهشه في النهار يتجدد في الليل، ويكابد البطل الألم ويتحمله بقلب جسور. ومع ذلك لم تشد له المعابد كما شيدت لغيره. ربما لأنه يمثل العقل المتقدم، فتعلق به أصحاب العقول التقدمية، الذين يدركون مثله أن كل هذه المعابد وتلك الليتورجيات إلى زوال، فلم يبنوا زائلاً ولم يرتلوا تقريظاً، وإنما بجّلوه بعقولهم، تمشياً مع عقله. أوزيريس من أكبر آلهة الخصب، ضحى بدمه من أجل أن تنتج الأرض كل ما في قلبها حتى لا تجوع البشرية، ولذلك عندما قتله أخوه سيت، وهو الإله المقابل، أي رب القحط والليل والموت، قطعه ووزعه في كل أرجاء الأرض، وفي ظنه أنها لن تخرج أحمالها، ولكن زوجته إيزيس جمعت أعضاءه وعاد إلى الحياة وعادت الخصوبة إلى الأرض. ويبدو أن أوزيريس كان ملكاً على مصر وصار من الثالوث: أوزيريس- أبيس- سيرابيس، كعادة المصريين في التثليث. ولما قتل انتقل الحكم إلى ابنه حورس، بوصاية أمه، فلما كبر صار من جملة الآلهة. إلا أن الإله الشهيد هو أوزيريس، بينما حورس قام بالانتقام لأبيه. واتخذت إيزيس رمزاً للأرض بينما ارتقى إوزيريس إلى مرتبة رع، أي الشمس. فابتكرت مصر أول نظام شمسي في العالم. كرشنا هناك ثالوث هندي هو براهما وفشنو وسيفا، الأول يخلق الأشياء والثاني يحافظ عليها، والثالث يدمرها عندما تكتمل الدورة الكونية، لتحل دورة ثانية. ولفشنو عدة تجليات، منها تجليه على شكل كرشنا، الذي يهب حياته للبشرية ويستشهد من أجلها، ليعود ويجددها... وبما أنه لا فسحة بعد للحديث عن فشنا فإننا نشير إلى أن حياته وعذابه أقرب إلى المسيح نفسه، كأنهما نسختان متطابقتان، فهو الشهيد المضحي والفادي ومنقذ الأشياء... مفارقة كان سكان أميركا الأصليون يعتقدون أن كويتز الكوتل يغيب عن شعبه في زورق صغير، واعداً بأن يعود إلى أحفادهم بالسعادة والرزق الوفير، ولكنه غاب وطالت غيبته، فلما وصل كريستوفر كولومبس ظنوه كويتز الكوتل فاستقبلوه بالخبز والملح، فرد عليهم الآخر بالسيف والعبودية وسخرهم في مناجم الفضة حتى أبادهم، معتقداً أنه قدم لهم الخير العميم إذ خلصهم من «وثنيتهم». عدالة بروميثيوس زيوس يمثل العدالة. لكن بروميثيوس له رأي في هذه العدالة، إذ ما قيمتها إذا طبقت على الضعفاء والمنبوذين والفقراء؟ لا بد حتى تكون هناك عدالة حقيقية أن تكون عدالة بين مقتدرين، ممتلئين، عاملين، مفكرين، متطلعين بطموح، ومنتظرين بأمل... ولهذا تحدى زيوس أن يكون عادلاً بين الأقوياء وليس بين هؤلاء الضعفاء المساكين، الذين يبيتون قبل الطيور، ويستيقظون قبل أن ترسل أورورا (الفجر) خيوطها الأولى على تمثال ممنون أمام معبد الأقصر. الكسالى والمهملون لا يحتاجون إلى عدالة. وقد عشقه الرومانسيون في القرن التاسع عشر، وكتبت عنه مسرحيات وروايات وملاحم عدة في بعض أقطار أوروبا. واستخدمه الشعراء العرب كثيراً في العصر الحديث. موت مؤقت بما أن الآلهة خالدون، فإن شهادتهم تقتصر على الموت المؤقت الذي تعقبه قيامة، منذ تموز وأدونيس وحتى برسيفوني وديونيسيوس وكثير ممن لا يهم ذكر أسمائهم. وهؤلاء الآلهة هم آلهة الخصب فقط، وإلا فما الفداء الذي يقدمه رب الضحك أو رب مساعدة الحزانى على البكاء، أو الرب بان، رب الغابات والموسيقى؟.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©