الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

دور المثقف العمومي

دور المثقف العمومي
4 ديسمبر 2014 00:25
واجهت الثقافة الإيطالية في أعقاب الحربين أسئلة مصيرية، جرّاء ما خلّفته أهوال الدمار من تصدّعات عميقة في بنى المجتمعات، ومن انجراحات غائرة في الذات البشرية. وعادَ معها التساؤل عن ماهية الثقافة وعن دور المثقف ليطرح نفسه، بعيداً عن تلك الصورة المفارقة له، إلى صورة دانية منه. وإن غنم المثقف الإيطالي شيئاً من فَيْء الحرب، فقد تمثل أساساً في ازدياد منسوب الشك لديه، وتدنّي سقف الوهْم عنده. إذ نبّهت الأزمةُ التي عصفت بالمجتمعات المثقفَ إلى حجمه الواقعي، فهو ليس وصياً أوحد على القيم والأخلاق، وإن ساهم في صنعها وبلورتها. حيث تطرق المفكر زيغمونت بومان إلى الانزياح الحاصل، مبرزاً أن مثقف العصر الحديث قد خسر مهمة «المشرّع» وبات يكتفي بدور «المفسر»؛ ناهيك عما استخلصه المثقف من درس ما بعد الحداثة، بتفادي حصر فعل النقد في الخارج، والتوجه به نحو الذات أيضاً. وهنا بدأت تبرز ملامح مثقف ما بعد الفاشية، وهو ينزع تدريجياً عباءة اليقين والخيلاء، بعد تهويمات ألقت به بعيداً عن مجاله، وعن قدرته، وعن دوره. تطلب الخروج من الأزمة مراجعة نقدية لكل ما جرّ إلى الأزمة، باعتبار ذلك، السبيل الأوحد للقطع مع تلك الأوضاع الرثة والإحاطة بمولدات الانهيار والنظر بعين فاحصة للمسارات المستجدة. الالتزام والانزواء في هذه الأجواء الجديدة التي باتت تلقي بظلالها على الثقافة والمثقف، ما لبثت الماكينة الحزبية عند عهدها السابق، في سعيها الدؤوب لاستقطاب المثقف واستدراجه، بقصد حشره داخل منشآتها الأيديولوجية. وكانت تلك الماكينة الحزبية الجديدة تتألف من نقيضين أساسيين: شقٌّ يغلب عليه توجه الديمقراطية المسيحية اليميني، المدعوم من قبل كنيسة لم تقنع بنصيبها وراء نهر التبر في حاضرة الفاتيكان؛ وشقٌّ يغلب عليه الطابع الاشتراكي اليساري، اكتسب ألقه بإسهامه المشهود في التصدي للفاشية ضمن حركة المقاومة المعروفة بـ»البارتيجياني». جاءت محاولات استقطاب المثقف واستدراجه دون مراعاة التجربة العسيرة التي خاضها مع نظام فاشي شمولي سالب للحريات، جرّ على إثرها البلاد نحو الانخراط في حرب كونية طاحنة انتهت فيها إيطاليا ضمن الأطراف الخاسرة. بيد أن الجو العام ما كان مهيَّأً أصلا لرأب الصدع بين المثقف والفعل السياسي عامة. عبّر عن ذلك النفور من السياسة حينها الفيلسوفُ الإيطاليُّ نوربرتو بوبيو في مؤلفه: «الثقافة والسياسة»، الصادر سنة 1955، فقد حذر من محاولات تسييس الحقل، ولا سيما استدراج العاملين فيه إلى التحالف مع اليسار مجدداً. تحدث عن الحاجة إلى ثقافة معافاة من العدوى الواردة من المجال السياسي، كل ذلك بحثاً عن موضوعية صادقة لا تشوبها شائبة، أمام ما كان من سعي للهيمنة على الثقافة، إذ ما زالت أمام بوبيو الحالة الستالينية ماثلة للعيان. نجد الأمر ذاته يتكرر مع بيار باولو بازوليني، فقد حرص على النأي بنفسه عن الانخراط الحزبي أو الانضمام إلى معسكرات الأيديولوجيا، واختار البقاء في رحابة الثقافي. لذلك ما كان يسيرا على المثقف الانخراط مجدداً في مؤسسات يحفزها يقين أنبيائي في صنع الخلاص. بعد أن اهتزت الثقة في الأيديولوجيات، وتبيّن أن مؤداها إلى الشمولية، قصر الطريق أم طال، التي يُصادَر فيها دور المثقف، ليغدو مهرجاً أيديولوجياً مجرداً من سلاحه النقدي. والأمثلة عديدة في ذلك، سواء تلك المتأتية من الفاشية أو النازية، اللتين وظفتا خيرة العقول، لعل أبرز الحالات في إيطاليا جوفاني جنتيلي، صاحب «مانيفستو المثقفين الفاشيين» والمدير المسؤول عن الموسوعة الإيطالية، وفي ألمانيا مارتن هايدغر الذي ولِّي عمادة جامعة فريبورغ، فلكل نظام كلياني فلاسفته، أو بالأحرى أعوانه. ولكن الحالة المستعجلة للبناء والخروج من الانهيار الذي هز أوروبا، ولا سيما إيطاليا وألمانيا المنهكتين من الحرب، وما تقتضيه الأوضاع من إصلاحات بنيوية، تخرج المرء من التردي الاجتماعي الذي انساق إليه، كانت تذكّر المثقف بالواجب الأصيل، وتكشف ارتباطه الوثيق بالهمّ الاجتماعي الذي يواجهه المصير الجمعي، بعيداً عن الالتزام المؤدلَج، أو المنساق ضمن خط سياسي بعينه. وبالتالي هل هناك معنى للقول بانتهاء موسم الالتزام؟ يبدو الجواب كلاّ. فبعد كارثة الحرب، تأكدت بما يشبه اليقين مهمة المثقف ورسالته، لا سيما في الزمن الذي طغى فيه الزيف والتقيّد الشكلي بالأعراف السائدة. فقد يُنتِج الكاتب أو الفنان الذي ينأى بنفسه عن الجدل الاجتماعي عملا أدبياً أو وفنياً، ولكن ذلك المنتوج يبقى حالماً وتعوزه الروح. لأن الالتزام الحقيقي للمثقف هو في هجران الانزواء، واستعادة الفعل الديمقراطي المضيَّع، والمثقف الغربي الذي لا يلتزم بالفعل الديمقراطي هو بالنهاية يلغي ذاته، أو هو بصدد نفيها، على حد قول الفيلسوف الإيطالي باولو فلوريس داركايس. مصارعة الإلغاءولذلك بقدر ما مثلت الفاشية تهشيماً وتهميشاً لكيان المثقف، مثلت حقبة ما بعد الفاشية فترة مراجعة كبرى داخل الثقافة الإيطالية. حتى قيل إن كثيراً من المثقفين باتوا يؤثرون المنفى مع أنهم يعيشون داخل وطنهم. وفي الحقيقة لم ينزو المثقف، ولم يهجر الساحة، ولم يلذ بالصمت، كما قال ألبارتو آسور روزا في أحد الحوارات معه؛ بل كانت تلك اللحظة فترة تأمل، تساءل فيها عن سبل الخلاص. بدا سعي مثقف ما بعد الحرب، إلى إنشاء فضاء جديد للفعل، محتشماً في البدء. فقد اقتضت المراجعات حذراً من الأيديولوجيات الشمولية ومن الدعاوى السياسية الخلاصية. كان ذلك المناخ الجديد يسير باتجاه رسم خارطة مغايرة للفعل الثقافي، تتلخص تضاريسها في تطوير ما أُطلِق عليه في إيطاليا «المثقف العمومي»، الذي لا يلعب فيه المثقف دور كلب الحراسة الثقافي، المدرَّب على مهمته، بل دور المؤمن بوظيفته الوجودية التي ترفض الانهيار الخلقي والقيمي، وتعارض الإلغاء لوجوده. لم يعد المثقف موظفاً في خدمة الغير بل مشغولا بقضاياه. إذ داخل عملية التوليد هذه كانت المحاولة لنزع الطابع المؤدلَج الذي طغى على المثقف وألحقه زوراً بهذا الصف أو ذاك، والسعي للعودة إلى المهمة البدئية الأصلية، بعيداً عن أي منزع نبوي تفسيري له، بل بتأكيد دوره النقدي، والإلحاح على حياد نشاطه المعرفي. فليس المثقف ذلك الكائن المتموضع خارج شروطه الاجتماعية، بل هو امرؤ فاعل ضمن نسيج اجتماعي أوسع، يرفض التهميش والإلغاء، أو اختزال دوره في تدبيج العرائض المناهضة أو المناصرة لهذا الطرف أو ذاك، باعتباره قتلا رحيماً للمثقف، يخلي الساحة للمتلاعبين بالعقول. يقول الأديب إرمانو ريا: «لا يمكن الحديث عن التزام المثقف حين يكون معزولا عن الجماعة». فالمثقف الملتزم هو بخلاصة مواطنٌ مسؤولٌ، يجسد أعلى مراتب المسؤولية. والمثقف ليس ذلك الذي يهتم بقضايا مفارقة مطلقة، بل هو كائن اجتماعي يشغله الراهن وينتابه قلق على مصيره. وخلق المجتمع المستنير ليس فحسب بمقاومة الرقابة والوصاية على عقول الناس، بل بمقاومة الانعزال وكسر الطوق الذي يضربه كثير من «المثقفين» المؤجَّلين حول أنفسهم، بالخروج من المكتب والفصل والمدرسة والجامعة، لمجابهة اللامعقول واللاقيمي واللامنطقي الواسع الانتشار. فقد استطاعت ثقافة السوق الرائجة تحويل المثقف إلى طفيلي اجتماعي، إلى تبيع ومنفعل، إلى رقم مكمل للمشهد وليس طرفاً رئيسياً فيه مدعية أنه لا يكدح، ومختزلة الكدح في عمل الأيدي. صحيح لا يعمل المثقف بيديه ولكن يعمل بعقله وجوارحه ولسانه. الخروج والعودةكان غرامشي قد دعا إلى إصلاح عقلي وخلقي وهو محق في ذلك. فقد أُفرغت الثقافة، قبله وبعده، من دلالاتها الحقيقية وتحولت إلى كمّ من الحشو الأنثروبولوجي، إلى خليط من الفضائل والرذائل، من المعرفة والجهل، من العقل والخرافة. وهو ما انسحب على المثقف، ما عاد ذلك الفاعل بل ذلك المحمَّل بالأثقال المعرفية والديماغوجية. وباختصار تحولت الثقافة من قيمة إلى بضاعة، وتحول المثقفون من صنّاع التحولات إلى «أقلية» خائرة سائرة نحو الانقراض. ترافق ذلك مع هجمة عنيفة على المثقف النقدي بهدف إلجامه وتقليص مهامه. فضلا عن التشكيك المتواصل في قدراته بهدف بثّ الوهن فيه وتحويله إلى موظف مكتبي وتقني، بانتظار إحالته على التقاعد المبكر. لذلك لا يزال مطلب الإصلاح قائماً، أكده كالفينو، ودلاّفولبي، وفيتوريني، وبوبيو، ودوسيتي، كل من منظوره وموقعه. وصحيح أن المثقف في إيطاليا بعد الحرب كان يغلب عليه الطابع اليساري، ومع موجة احتجاجات 1968 تحول إلى مثقف نافر من التصنيف، ولكن في غمرة تلك التبدلات بقيت الحاجة إلى المثقف حاضرة في المجتمع. يبدو وكأن دور المثقف لصيق بطبيعة الاجتماع البشري، فهو ليس نتاج أزمة أو إفراز ظرفية تاريخية، ومن ثمة ليس هناك أمر مستعجَل وآخر مؤجَّل في دوره؛ بل هناك حضور دائم في المجتمع، إنها مسؤولية المثقف في المجتمع. * أستاذ بجامعة روما - إيطاليا
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©