الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

بائعة الكتب

بائعة الكتب
20 نوفمبر 2013 20:57
إني متقاعد من الحب، وآخر عهدي بالحب هذا الشتاء. أرهقتني معارك شرسة، وكبلتني قيود ثقيلة، أريد حريتي وقلبي مثخنٌ بالجراح، ورياح العشق تطوح بي ذات اليمين وذات الشمال. (وغض الطرف عن حسن الصبايا). نعم، نعم، إني مستقيلٌ مستقيل، وأريد النقاهة والبعد عن بواعث الشجن.. قلت هذا على مسمعٍ من قلبي الذي لا يفتأ يخرج من حبُ ويلج آخر. سافرت ومطيتي حائرة لا تدري أين تحط الرحال، والعير التي صحبتها أنكرتني وألقت بي في منتصف الطريق بعد أن لاقت من أمري عسرا. هارب أنا من معاناتي.. إلى أين؟ وصلت لندن، عاودني الحنين سريعا إلى الصحراء والرغبة في الانعتاق من جبروت المدن، ضاق صدري بالضباب والبرد، أفتقد القمر والنجوم الساطعة في اتساع السماء، والمطر النادر ودفء الشتاء وشمس الصيف، قهوة وخبز أمي.. ومؤذن رخيم الصوت يهب السكينة، وحكايات عمتي عن بدوي عاشق أنهكه الحب والشوق حتى ما عاد يقوى على سقي جماله ولا رعيها.. بات ناحل الجسد بعد أن مرت علية قافلة وفيها فتاة فاتنة أخذت قلبة ورحلت. جرثومة العشق اللعينة تطاردني، ورثتها عن أبي الذي أسر لي بقصة حبُه.. كان على موعد مع حبيبته تلقاه بالأشواق واللهفة العفيفة في صحراء تكتم السر وتحنو على العشاق. في لندن أنا مكلوم تضيع خطواتي، أفكاري طاحونة لا تكف عن الدوران. يكبر همي بعد الغروب وقبيل طلوع الفجر، لا خطط ولا أهداف. يصبح كل أملي الهروب.. تراودني أحلامٌ شتى، أريد الرجوع ولكن لابد من مواصلة الهروب.. أحس بغصة.. قاسية هي الغربة وشعورٌ بالمرارة يملأني وإحساس غامرٌ بالفقد والوجع. لو كنت في بلدي وبين أسرتي تؤنس وحشتي.. لو أجّلتُ سفري قليلاً.. أغلقت هاتفي، وعدت أسال: نفسي وماذا بعد؟ مللت المقاهي والمتاجر والأماكن السياحية والتراثية والمباني التاريخية. في “هايد بارك” عربيان يتشاجران ويتبادلان الشتائم. وفي “الطرف الأغر” ما عاد الطعام يلقى للحمام. الإذاعة العربية (بي بي سي) تبدل مبناها وتفرق المذيعون القدامى. كنت استمع إلى نشرات الأخبار وبرامج “ندوة المستمعين”، و”قولٌ على قول” و”في الواحة”، وأغاني نجاة الصغيرة. ساعة “بيج بن”، وعجلة الزمن انظر منها إلى لندن، وقصر باكنجهام، وقصر كينجيستون يفتقد ألق ديانا الراحلة، نهر التايمز، جسر لندن، مسرحيات شكسبير المعادة.. دخلت مسجداً.. وجدت الشيخ يلقي درسا عن تجهيز وتكفين وغسل الميت. خرجتُ حزيناً دامي الفؤاد. آه لو مت هنا وحيداً. كل شيء يسير في غير صالحي.. جرثومة العشق في دمي.. هاربٌ أنا ومستقيل من الحب.. قلت أفر إلى مدينة (بورتثموث). الشاطئ جميل وشارعٌ يقطنه العرب ومسجدٌ أصلي فيه، وأبحث عن صحو افتقده في نفسي وفي الأجواء. في (بورتثموث) لن أطيل المكوث، أريد الريف الانجليزي. دخلت مكتبة أشتري ما يروق لي من الكتب.في المكتبة فتاة ذات ملامح عربية. أذهلني الجمال العربي.. قلت فوراً: يبدو إنني سوف أتردد على هذه المكتبة كثيراً إن سمحت لي.. قالت وقد فهمت غايتي: عادي.. اسمي رقية، عربية أعيش هنا مع أختي وزوجها، أبي يعمل حارس شركة في بلدي، وأخواتي معلمات وهن اللاتي يصرفن عليّ، هاربة من الحروب والطائفية والعشائرية والانقلابات والفقر والخوف، ومن ثورات الربيع والخريف والشتاء والصيف.. هذا كل ما قالته.. وأنا درويش متسول مسكين، أحوم حول المكتبة وأنتظر موعد وصول رقية، وحين أقدم لها الهدايا تنظر إليّ وتقول: تسلم. وصالح الصغير ابن أختها يرافقها دوماً.. قلت مازحا: هل هو محرم لك؟ ابتسمت ولم ترد.. قلت تخافين مني؟ فلست أنا من يستغل صبيةً، فما زال عندي، على الرغم من سوابقي، بقية من أخلاق وشيء من التقوى.. قالت: هذا شعر نزار قباني.. أنا أخاف على ديني وحجابي.. قلت: ولكن بريطانيا لا تمنع الحجاب. قالت: وما يدريك، فإن حمى العداء للإسلام تنتشر رويدا رويدا في أوروبا، وبعض المسلمين يسيئون إلينا.. هؤلاء ليسوا منا، نحن مسالمون، طيبون، بسطاء، الإسلام دين المحبة والسلام والعدالة والرحمة.. صفقت بحرارة وقلت: أحسنتِ خطبة رائعة. قالت بمزيج من الحماس والجد والغضب: سوف أعود إلى إحدى الدول العربية لأدرس الأدب العربي أو الإعلام. قلت: أنا هارب من كل هذا، دعينا ننسى معا ويلات عالمنا العربي، جئت للنقاهة من الحب لكنني وقعت في شباكه، وهربت من أخبار المصائب وها أنت تتحدثين عنها بحزنٍ واسى.. تعالي معي إلي بلدي. ساد صمت طويل ثم قالت: لا أستطيع خيانة ثقة أهلي بي.. رقية.. هدوء، حشمة، وقار، حنان، لطف، براءة، حكمة، شرودٌ، حزن، حياءٌ، حجاب.. ووجه مشرق منير.. وزنا انتظر، أتطلع نحو الطريق متى ستأتي، أسال والجدران والطرقات. تغتالني سويعات الانتظار.. أحبك، أحبك، أحتاج إليك.. هل تشعرين بمأساتي؟ إنني مأخوذ بجمالك.. عيناك أخجل من النظر إليهما سوداء.. جسدك الطويل النحيل.. ظبي من بلادي.. زنبقة الوادي.. سنبلة القمح في السهول الواسعة.. زهرة البراري.. فراشة تلهو بين الزهور.. وردة حمراء.. حبة لوز.. طائر الخمائل.. عشبة الفؤاد.. عطر وكحل وسحر وفتنة.. ذوق في اختيار الملابس والألوان.. هل رأيت كيف إنني عاجز عن الوصف والتعبير، وكلماتي متناثرة وكأنني تلميذ بليد؟ تذكرت حبها للشعر وقرأت لها قول بشار بن برد: حوراء إن نظرت إليك سقتك بالعينين خمرا وكأن رجع حديثها قطع الرياض كسين زهرا وكأن تحت لسانها هاروت ينفث فيه سحرا وتخال ما جمعت عليه ثيابها ذهباً وعطرا وكأن برد الشراب صفا ووافق منك فطرا جنية إنسية أو بين ذلك أجل أمرا سألتها ماذا تقرأ، قالت: نزار قباني، عمر ابو ريشة، عبد الله الفيصل، غازي القصيبي، عمر أبي ربيعة، المتنبي، لبيد بن ربيعة العامري، بدر شاكر السياب، إبراهيم ناجي، الطيب صالح، نجيب محفوظ، إحسان عبد القدوس، محمد عبد الحليم عبد الله، وليم شكسبير، تشارلز ديكنيز، ج. إس. ايليوت، جون ميلتون، أجاثا كريستي، برنارد شو، توماس ايليوت، فرجينيا وولف، توماس هاردي، تشيموس هيني.. وتشغلني كتب الدين والتاريخ والسير الذاتية للمشاهير.. وأنا لا هم لي إلا انتظار موعد فتح المكتبة وقدوم رقية. تضحك أحيانا حين ترى شوقي وذلي وانكساري، ولا تبالي أحيانا، تهز رأسها عجباً، وتحاول أن تصرفني وأن تنشر اليأس في نفسي: لا أستطيع خيانة ثقة أهلي بي. وصالحٌ يلازمها في كل الوقت. قلت: أريد عنوانك.. وترد بالصمت.. ألح عليها في اللحاق بي، وتذكر أهلها ووالدها وقبيلتها، وصعوبة الوصول إلى قريتها المحكومة بأعراف المذهبية والطائفية وأشياء أخرى.. قلت: سأعود في الربيع، سوف نجوب الريف الانجليزي معاً، ونحتفل مع القوم (بيوم مايو)، ونرقص معهم رقصة (فلورا) احتفاءً بقدوم الربيع.. وهي ترغب في إرجاع هداياي، وحين أرفض تقول: تسلم.. ويمزقني شعورٌ بالإخفاق في التقاعد من الحب.. ويؤلمني صدود رقية، وتفضحني عبرات الفراق.. لكنها تطيب خاطري بمرافقتي إلى محطة الحافلات التي ستقلني إلى مطار هيثرو. أنظر إليها من خلف زجاج نافذة الحافلة، ترفع بصرها وقد امتزجت دموعها بالكحل وهي تشير بيدها كأن لا جدوى من عودتي.. بقيت أشهرا والشوق يأمرني بالعودة، متأملا أن تتصل أو تبعث رسالة. وكلما رن هاتفي ارتعش قلبي ولكن من دون جدوى.. ما عدت أطيق الصبر، عدت في الربيع فوجدت المكتبة وقد أغلقت، وأصبح مكانها محلٌ لبيع مواد البناء.. لم نرقص سوياً رقصة فلورا. رقصت رقصة الذبيح وحدي. ثم عدت من حيث أتيت.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©