الأربعاء 17 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

صالح الشاهين.. موت كالحياة

صالح الشاهين.. موت كالحياة
20 نوفمبر 2013 20:49
فوق شريط الأرض الضيق، الواقع ما بين شفة الماء وخاصرة معيريض، كنت تتلو بخطوات منثرة آيات الحكمة، متكئاً على عصا العمر، ذائباً في مواقد السنين، كنت تنحت في صخرة المياه، باحثاً عن ابتسامتك الهاربة في تجاعيد الوجه المخضب بالعرق، والجبين المخطط بالتعب. صالح عبدالله الشاهين، كنت مثل نورس يرفع الآذان، ليوقظ شمس النهار كي تخيط قماشة الوضوح، بخيوط الحرير، وترصع السماء بقرصها الذهبي، كنت الراهب الذاهب في الإيمان، حتى صميم المعرفة، تستقبلك الأزقة، وفراش الرمل، سجادات تسخن صوفها من موقد الحرقة الصيفية، تسأل هذا وذاك عن الحال والمآل، والسؤال جملة خبرية على شفتيك الذابلتين، مثل عصفور بلله مطر شتاء مرتجف.. سيدي أنت الذي مد البصر في الأفق، محدقاً في المكان، معانقاً الزمان بقلب لونه الحب، بخضرة الابتسامة المعشوشبة عند وجنتين، مساؤهما شروق، أنت الذي رسمت لمعيريض صورة مثلى، ووضعت لقصيدة العشاق قافية لم تخطر على بال بشر، أنت الذي حررت المعنى من صهد التشاؤم، وأجزلت سيدي في التذكر وسرد حكاية معيريض، وكيف كان العطش يقرص أحشاء الظامئين يوم حل الطوفان في البر والبحر، ويوم أذهلت كل مرضعة ما أرضعت، وصار الناس يبحثون عن قماشة تستر العورة، فلا وجود لما يخفي ويستر غير سعف الخرائب. الفيلسوف الأمي صالح الشاهين، كم طويت من سنوات العمر، وأنت تطوف بالسلام محيياً الوجوه، بابتسامات أشف من عرق الجبين، أرق من عيون الطير في سماوات الأسئلة المذهلة. كنت في الحكمة قاضياً، كنت في الشيمة وفياً، كنت في النخوة رجلاً من قوم، ما عاندوا الحقيقة وهي تلملم أنصال الحياة، بغية كبح المعضلات، كنت في الحي المُعظّم نقطة الضوء المنسابة وعياً في الذاكرة، كنت خيطاً يحبك نسيجه في عتمة الليل، ليشرق النهار على قماشة الحلم، متصلاً بالحياة البهية. كنت سيدي لا تقرأ ولا تكتب، كنت الفيلسوف الأمي، جملته الخبرية تاريخ، ومنطق ومنطلق، وحد يتطلع إلى الغد بوميض عقل صقلته الأيام، فاستمال زجاجة تمتلئ بماء رقراق، نبعه من فكرة لم تؤجل بياضها، فكنت أنت في وضح النهار تسرج جياد الحلم، وتمتطي صهوة الأمل، فلم تكنز ولم تحرز، كان في جيبك دمعة الابن الوحيد، وفي معطف القلب شهقاته الصباحية، عيناه الشاخصتان في الأفق، بحثاً عن لسان يسهر على لغة الضاد، بدون الاستعانة بتلويحة اليدين. كنت سيدي الرابض القابض على قناعاتك محتمياً بثوبك القديم، ومعصمك المطوى على الرأس، كحبل الوصل تمضي بالأزقة محفوفاً بأشواق مصّت من قلبك الكبير حليب الأيام، صرت أنت في الليل، في الأمكنة المزملة بالسواد، الساحل الوضيء، توشوش عنده موجات أجلت أسئلتها لحين الغروب. كنت أنت سيدي، تجلي سواد الليل بالبسملة، ونثر السلام والوئام، مستدعياً جل طيور القلب، لتفرد نشيدك الإلهي وشماً في صفحات السماء العالية.. كنت أنت سيدي الطارق المبجل، إذ تسعد السائلين عن أخبار وأسرار، أشبه بالنجوم المجللة بلألأة الفرح. صالح عبدالله، في جزيرة الأسئلة كنت وحدك، تتهجى الملامح، وتقرأ الصور، ثم ترسل الابتسامة الشفيفة، من فم شفه التعب.. تفكر في الابن الوحيد الذين فقد لسانه تفكر، في البكر الذي جاء مبكراً في زمن لسانه حصانه الذي يجيد العدو في المسافات الطويلة ما بين الناس والناس.. صالح عبدالله الشاهين، وحدك كنت ترى في عيني بكرك، أسئلة اللسان المعقود، والحبل الممدود ما بين المهجتين، وأنت وحدك كنت تبسمل وتحمدل، وتعقد الأمر على الخالق الباري، بيده الملك، وله الشفاعة والضراعة، ثم تضع في يد وحيدك دريهمات البلل، وتغسل يديك بالفراغ مستدعياً أحلامك وماذا ستجود به الأيام.. وحدك كنت ترى في أعين الناس غمضة القنوط فتجفل متراجعاً، وفي قلبك عصفور يرفرف بمروحة صغيرة، يهتف إلى السماء بدعاء الشفاء، والخروج من صهد الوحدة المزرية. صالح عبدالله الشاهين، في معيريض الأشياء تمضي، بخطوات أشبه بخطوات فراشة تائهة، تضيع الأقدام على الرمل، غائصة بين حجر ومحار، والوحشة تنبت بين الأزقة أعشاب شوكية جهورة، لكن صوتك ونمنمة الصدر المنهك، وشهيق الرئتين، الجاثمين في الصدر كربابتين قديمتين، كل ذلك كان صداه بين الجدران العتيقة كأناشيد زاحفة من السماوات العلا، كأغنيات الملائكة في ساعات السَّحر، كتلاوة البحر عند الوشوشة، كرقصة الأشجار عندما يشدو الورق بلحن الخلود. صالح عبدالله الشاهين، نعيمك الخالد، ذلك الصفاء في القلب، وأنت الناهل من فلسفة الأصفياء، ومعرفة النبلاء، أنت الغارف من منهل النجباء، الواقف عند سواحل النظرة الثاقبة. بياض القلب أنت المتوهج دوماً بخصال ونصال ووصال، الذاهب بالأحلام بمذاهب الناس الطيبين.. أنت بثوب الرقة ومعصم العصمة، تجدل المعاني بلفظ منخله لسان الطيب، أنت في المحراب قامة وشهاب، وأواب وتواب، والصوب المذاب، في حشمة الأوفياء، وشيمة الأتقياء، أنت في المحراب صواب الكلمة وجواب الأسئلة، أنت في القوافي فيافي وجمرات توقد في الأفئدة ما جاش وفاض، وما قيض الله من جمال العبارة.. أنت يا سيدي، في الغياب حضور، يملأ وعاء الأسئلة، بهالة لو تغيب تشعلها الذاكرة بقناديل السمعة والمناقب، والسحائب والسواكب، أنت.. أنت بخبرة وعبرة، أسست للجملة المفيدة المبتدأ والخبر، وشيّدت في المعنى الفعل المرفوع، والفاعل المشفوع، ونسجت خيوط الشفافية، بحرير الابتسامة المذهلة. أنت يا سيدي، في القبر أو فوقه، بياض القلب أنصع من كفنه، أنت الزمان، غصن هفهف على أجنحة العابرين والغابرين، والهاربين باتجاه الحزن، أنت في الزمان أوراق لم تخسر اخضرارها، لارتوائها من عيون القناعات المبهرة، أنت ولا سواك، أنت الصحراء التي أنجبت زهر السمات الطيبة، وأورقت أشجارها عفافاً. أنت السر وأنت الخبر، وأنت الماء والحبر، وأنت السرد وحكاية البحر وزرقة السماء، ورواية الرمل، وحمرة المساء، أنت اللغة المهذبة، وعشب النهارات المزدهرة، بأخبار الناس وما جاشت به قلوب العاشقين، أنت يا سيدي في الغياب غواية وبداية المشهد، إذ تسكن المعيريض صور الذين مروا من هنا، تاركين الخطوات أثرا وسبرا يتدحرج، الزمن كأنه الموجة البيضاء على سفح السواحل المقفرة، تتدحرج أنت كقبة الطين، عند سلالم الذاكرة، لم تقبض شيئاً من الحياة، سوى أنك ترحل خاوي الوفاض، إلا من محسناتك البديعية وما لونه قلبك الصافي من ابتسامات حاكت في النفوس ملاءة الدفء، وشراشف الحنين إلى كائن خفي اسمه الأنا. أنت يا سيدي، الكائن الساكن في تجاويف الفكرة، دمعتك وأنت تتذكر الأحباب والأصحاب، شمعة بلسان يضيء لحروف كلمات خبت قطرات الحبر، وكلما شاخت شفرة القلم. أنت يا سيدي، من نصل التعب، قدت قافلة العزيمة، وناهضت اليأس، بفأس الإرادة، فكانت الوليمة عشاء ثريا بالفرح، ومائدة تزخر بأحلام وردية. أنت يا سيدي سيد العشاق، وأنت العنق والحدق، والليل وما حبك، والنهار إذ تجلى بالألق، أنت من طفق، ورقق، ودقق، وحقق، وأشار بالبنان إلى ذاك الذي شهق، قلت يوماً ما الحياة إلا عربة نحن الذين نجر عجلاتها، فقد نظفر أو ننحدر، أنت الذي قلت الحياة رحلة، نحن المسافرون والمراكب كثر.. أنت سيدي، من أبلغ الآخرين فصاحة وحصافة، وأنت يا سيدي من أنبغ الأولين، ذكراً وذكاء، وأنت يا سيدي في السفر الطويل، ملأت من صحراء العمر دلاء النخوة، وإذ تتلاشى الصورة يبقى المشهد بلا خيمة عزاء، ولا شفاء للمتذكرين، سوى أنك لم تزل في المكان، منطقة تحاصر الأفئدة بأشجان وألحان، وتزخرف الذاكرة بكلام لم يزل في دفتر الأيام، يحفظ الوزن والقافية، ويعلو النشيد بين الأزقة التي مرت بها الأقدام، تحثو الرمل بعافية الإرادة وصدق النوايا.. أنت يا سيدي كنت للمحراب صوتاً وصدى، كنت تغريدة الطير متهدجاً مثل سعفة لاحت على جنباتها الريح، فاستمالت وعياً فطرياً تغنى للورى، وترفع نشيد السماوات ابتهالاً، وترتجي من النجوم أن تضيء الليل في غيبة الأقمار. أنت يا سيدي، المدى في الحُلُم، والمدّ في الحِلْم، أنت السحابة والنجم، أنت النجابة والألم اللذيذ، أنت وعي الناس، ونباهة الشجر، أنت نقاء الماء وسماحة المطر، أنت في الدهر فلسفة صوفية، من نخب ابن الفارض، وأحفاد ابن رشد، أنت الرشد التليد، أنت الماضي وفحوى النشيد.. أنت يا سيدي، قاب قوسين من نجمة حطت على خاصرة معيريض، وما أضاءت سوى عيني أرملة، في عزلتها تتلو حكاية الألفة المختصرة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©