الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

نموذج مريم.. أبعد من الاغتصاب

نموذج مريم.. أبعد من الاغتصاب
20 نوفمبر 2013 20:37
تقتنص بعض دور النشر الفرنسية كل الفرص، وتلتقط كل الأحداث المثيرة وحتى الكوارث، لكي تنشر عنها كتبا تحقق لها مردودا ماليا كبيرا، فقد تأكد أن نسبة مرتفعة من القراء يقبلون على مثل هذه الكتب، ولذلك فإن دور النشر لا تتردد في استغلال أي حدث ترى انه يمثل مادة دسمة لشريحة من القراء، فتكلف من يكتب عنها أو ترسل من يجري لقاء مع صانع أو صانعة الحدث ونشره في صيغة سؤال وجواب في كتاب. ولهذه الدور “طواقم” متخصصة تترصد المواضيع الساخنة والمثيرة لتأليف كتب عنها. والغربيون يطالعون وينفقون على شراء الكتب، ودور النشر تخرج في فرنسا، على سبيل المثال، كل يوم مئات الكتب. نجود اليمنية وفي هذا السياق، على سبيل الذكر لا الحصر، استدرجوا الطفلة اليمنية نجود فأصدروا قصتها في كتاب باللغة الفرنسية عنوانه “أنا نجود، 10 أعوام، ومطلقة”، وكنا قدمناه في “الاتحاد الثقافي” عند صدوره. والعنوان ـ كما يلاحظ القارئ ـ اختير بعناية لغايات تجارية ترويجية، ولكن العنوان يخفي بلا شك غايات أخرى كثيرة مبطنة. ويروي الكتاب قصة الطفلة اليمنية نجود علي الأهدل، التي أرغمها والدها على ترك مدرستها وهي في العاشرة من عمرها، وزوّجها قسرا من رجل يكبرها بعشرين عاما. وعلى الرغم من أنه جاء على غلاف الكتاب أنه من تأليف الطفلة نجود نفسها بالتعاون مع الصحفية الفرنسية دلفين مينيوي، إلا أن الحقيقة هي أن الطفلة روت بعض الجمل والأحداث، فنسجت منها الصحفية/ المؤلفة فصول الكتاب ولم تتردد لحظة في السفر إلى اليمن ثلاث مرات للالتقاء بنجود وأهلها لتستنتج أن الطفلة أغريت لقبول الزواج بثلاث فساتين جديدة، اثنان باللون الأصفر والفستان الثالث باللون البني! والكتاب فيه وصف على لسان الطفلة لليلة دخلتها بقولها “أراد الرجل أن ينام معي في السرير نفسه. رفضت ذلك، ولكنه أجبرني على أفعال” تصفها بـ”القذرة”. وتضيف: “وكل ليلة وبعد عودته من العمل يتكرر السيناريو نفسه. كنت أبكي وأرجوه أن يتركني بمفردي ولكنه كان يضربني بالعصا. كنت أصرخ ولكن لا أحد يغيثني”. ..ومريم التونسية وفي هذا السياق صدر كتاب جديد في الموضوع نفسه عن دار “ميشال لافون” الفرنسية عنوانه: “مذنبة لأنه تم اغتصابي/ نساء تونس: الحرية في خطر”، Coupable d’avoir été violée: Femmes en Tunisie: liberté en péril، وهو من تأليف مريم بن محمد بالاشتراك مع الفرنسية إيفا جمسهيدي، ويروي قصة الفتاة التونسية التي اغتصبها شرطيان منذ أشهر، وقد أثارت القضية ضجة كبرى بلغ صداها دار النشر الفرنسية التي أسرعت إلى إيفاد مبعوثة عنها هي إيفا جمسهيدي ـ وهي في الأصل صحفية ـ لإنجاز كتاب عن حكايتها في قالب سؤال وجواب. وسردت الفتاة التي اختفت ـ لأسباب عائلية واجتماعية ـ وراء اسم مستعار هو مريم بنت محمد، ما حصل لها بالتفصيل وبكل حرية وجرأة، حتى أن ناشر الكتاب لم يتردد على الغلاف الخلفي في وصفها بالفتاة الشجاعة، وكال لها الكثير من المديح لأنها لم تصمت عن جريمة اغتصابها وحولتها إلى قضية رأي عام، على الرغم من أن من اغتصبها هم رجال شرطة، علما بأن الحكومة الفرنسية أبدت انشغالها بالمسألة، واتصلت وزيرة المرأة الفرنسية شخصيا بمريم للتعبير لها عن تعاطفها ومساندتها، وتحركت منظمات حقوق الإنسان والحركات النسوية في تونس وفرنسا وتبنت القضية لتجعل منها ملفا حارقا، وقد عرضت فرنسا على مريم الإقامة ومواصلة دراستها بإحدى جامعاتها. واللافت أن الصحفية الفرنسية التي اشتركت في تأليف هذا الكتاب استغلت الفرصة لتقود الفتاة أثناء إجراء الحوار معها إلى مسائل أخرى كالعذرية، وقمع الرجل العربي للمرأة، والعلاقات الجنسية خارج مؤسسة الزواج، وإلى موضوع الإسلاميين المتشددين وموقفهم من المرأة، وإلى نتائج تولي الحركات الإسلامية الحكم بعد الثورات العربية، وغيرها كثير من المسائل السياسية والاجتماعية. ولأن الفتاة ـ وعلى الرغم من أنها طالبة جامعية ـ فإنها قليلة الخبرة بمثل هذه اللقاءات، لذلك انساقت عن حسن نية وبكل تلقائية وراء الخط التحريري المرسوم من الصحفية، فأصبح الكتاب في جانب منه إدانة لمجتمع عربي مسلم بأكمله تم وصفه في الكتاب بأنه “مجتمع منافق” يتظاهر بعكس ما يفعل، كما انزلق الكتاب من الدفاع عن فتاة تم اغتصابها إلى أحكام مطلقة في السياسة والدين والأخلاق العامة. وتحدثت مريم عن الشرف والعار وموقف العائلات من الفتاة المغتصبة مطلقة الأحكام العامة. خارج السياق والمؤكد أن مريم كانت في حالة غضب ونقمة، خاصة أنه تم اتهامها ورفيقها بالتجاهر بما ينافي الحياء، وكانت محل تتبع من القضاء، وقد ارتفعت أصوات المجتمع المدني لمساندتها بعد أن تحولت من ضحية إلى مذنبة، وانتهى القضاء بالحكم عليها بعدم سماع الدعوى وتم حفظ كل التهم الموجهة إليها والى رفيقها. والثابت أن المجتمع التونسي بأكمله أدان حادثة الاغتصاب، والشرطيان هما الآن في السجن، والعدالة أخذت مجراها، وإذا ثبتت الإدانة فإن العقاب سيكون شديدا وقد يصل إلى الإعدام أو السجن المؤبد، ولكن الكتاب ـ وبتدبير من الصحفية الفرنسية المشتركة في تأليفه ـ انطلق من الخاص ليصل إلى العام، ومن حالة تحدث في كل بلدان العالم إلى إدانة مجتمع بأكمله. وخلاصة ما حدث ـ كما جاء على لسان الفتاة في الكتاب ـ أنها كانت في ساعة متأخرة من الليل رابضة بسيارتها ومعها من قالت إنه خطيبها، مؤكدة انهما تناولا معا العشاء في أحد المطاعم بإحدى ضواحي تونس العاصمة بمناسبة أول يوم عمل له كمهندس كومبيوتر بعد انتدابه، وجاء في الكتاب أن دورية أمنية مرت بالمكان، وأن ثلاثة من رجال الشرطة بزي مدني ـ وهم من الشبان المنتدبين حديثاً للعمل في وزارة الداخلية ـ أردوا التثبت من أوراق السيارة ومن هوية راكبيها وانهم استغلوا الوضع لتخويف الفتاة وخطيبها وإيهامهما بأنهما مهددان بالفضيحة والسجن، وأن الشرطيين سيقومون بإعداد محضر لهما واتهامهما بالتجاهر بما ينافي الحياء والأخلاق الحميدة، وهي جنح يعاقب القانون مرتكبيها، وقاموا ـ كما جاء في الكتاب ـ بمساومة الشاب بمطالبته بالمال مقابل صمتهم وعدم تحرير محضر. وفعلا عرض الشاب عليهم كل ما كان بحوزته من مال، ولكن المبلغ لم يكن مرضيا لهم وطالبوه بسحب مبالغ أخرى ببطاقته البنكية، ولما غادر المكان للتفاوض مع أحدهم وذهبا معا إلى أحد البنوك لسحب مبلغ آخر من آلة الصرف الإلكترونية، استغل رجلا الشرطة الآخران الفرصة وقاما باغتصاب الفتاة عنوة أكثر من مرة. وتروي مريم في الكتاب كل ما تعرضت له من ضغوطات ومساومات بعد أن قررت التقدم بشكوى بالشرطيين وهي تتساءل: “كيف يتم اعتماد شهادة من اغتصبني لإدانتي؟”، فالشهود هم رجال الأمن وهم من اغتصبوها، وقد حصلت محاولة لقلب الحقائق حماية للشرطيين. واللافت أن الكتاب لم يقف عند حد سرد تفاصيل الحادثة وملابساتها وانعكاساتها بل إن المؤلفة الفرنسية تعمدت جر الفتاة إلى إصدار أحكام عن الوضع السياسي والاجتماعي في تونس اليوم، لتصبح مريم رمزا للدفاع عن حقوق المرأة المهددة مثلما جاء في عنوان الكتاب. الفرنسي اليهودي وهناك من تساءل عن سر اختيار الاسم المستعار: “مريم بنت محمد”، وقال إنه ليس مصادفة، وان ذكر اسم “محمد” في غلاف الكتاب ليس اختيارا بريئا، والمرجح انه اقتراح من الصحفية الفرنسية أو الناشر أو الاثنين معا، وتساءل نفس الناقد: لماذا لم يخطر ببال الصحفية إيفا جمسهيدي أن تذهب إلى دومينيك ستراوس ـ كان مدير البنك الدولي السابق والذي ثارت حوله فضيحة بعد تحرشه الجنسي واغتصابه لنفيسة ديالو عاملة التنظيف الأفريقية بفندق سوفيتال بنيويورك؟ مضيفا: هل لأنه يهودي وان من يكتب عنه قد يتهم بمعاداة السامية؟ بل اكثر من ذلك فقد صدرت كتب تدافع عنه، ومن بينها كتاب من تأليف ميشال توبمن ـ وهو كما يوحي اسمه يهودي فرنسي ـ جاء فيه ان دومينيك ستراوس ـ كان، هو ضحية مؤامرة خسيسة لإبعاده عن خوض الانتخابات الرئاسية الفرنسية التي كان من المفروض أن يترشح لها عن الحزب الاشتراكي عوض فرانسوا هولاند، وأن حظوظه كانت وفيرة للوصول إلى قصر الإليزيه، وأن المؤامرة برمتها مركبة، علماً بأنه تأكد ـ بعد صدور هذا الكتاب الذي خرج للناس بسرعة عجيبة ـ أن التهمة ثابتة وأنه ليس هناك مؤامرة، وقد دفع المتهم مبلغا ماليا خياليا لنفيسة لكي تتنازل عن الشكوى، وطويت المسألة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©