الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

مقايضات التسلّط

مقايضات التسلّط
23 نوفمبر 2011 21:23
يتساءل المؤلف الدكتور عبد السلام المسدي في كتابه “تونس وجراح الذاكرة”: “لماذا أكتب؟” ويجيب: “لأنّ على كلّ مثقف حملته أقداره على أن تتقاطع تجربته السياسية مع الذي حكم البلاد بأمره واجبا عينيّا لا يؤديه أحد سواه، وهذا الفرض هو أن يتكلم، وأن يروي، وأن يبوح”. مضيفا في فقرة أخرى من كتابه “ما كان لقلمي أن يتحرك الآن لولا الذي حدث، ربما كان يتحرك في وقت آخر وبحافز آخر، لكن تلقائية اللحظة التي جاد بها التاريخ فيما سماه الناس ثورة الياسمين، ثمّ آثروا “ثورة الكرامة” هي التي صيّرت فعل الكتابة كالواجب بالضرورة”. ويرى المؤلف انه أمر جميل وممتع أن يقدّم المثقف شهادته على الأحداث من خلال سيرته الذاتية، ولكن كتابة السيرة الذاتية تسير وفق أنساق مألوفة، من أهمها البوح الحميم، والامتداد في الزمان والمكان، وكذلك التقاط الشأن الصغير لتحويله تحت مجهر الكتابة إلى شأن كبير. والكاتب سبق أن عمل وزيرا للتعليم العالي طيلة عامين في السنوات الأولى لحكم الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، كما تولى منصب سفير تونس لدى جامعة الدول العربية ثم لدى المملكة العربية السعودية ورأى من واجبه أن يدلي بشهادته عما رأى وسمع من داخل مؤسسة الحكم الدكتاتوري. ومن موقعه كوزير سابق فقد اطلع المؤلف على الكثير من الخفايا والكواليس وكانت له الجرأة لكشفها في هذا الكتاب، فبعض من ركبوا الثورة أرادوا الظهور أمام الناس في مظهر “الأبطال” الذين كانت لهم الشجاعة في معارضة بن علي لكن حقيقتهم كما رواها د. المسدي بصفته شاهد عيان في هذا الكتاب مختلفة تماما، اذ اتسمت تصرفاتهم ومواقفهم بالانتهازية والشجع والطمع والنفاق والتزلف، ولا احد منهم اعتذر بل بلغت الوقاحة بالكثير منهم الى الظهور بمظهر المدافعين عن الحق والمنظرين للثورة ومنهم من أسس حزبا مدافعا عن الكرامة والحرية والعدالة وهو الذي استولى بطرق مشبوهة وغير مشروعة على املاك الدولة والشعب. والحقيقة ان لا أحد من الوزراء والمستشارين وكبارالمسؤولين الذين عملوا مع بن علي، ومنهم الكثير من المثقفين والكتاب اصدر في كتاب شهاداته بل كلهم لازموا الصمت المطبق وبعضهم اليوم هم وراء القضبان، في حين ان الدكتور عبد السلام المسدي مؤلف هذا الكتاب، وهو في الأصل استاذ جامعي وهو ايضا مفكر وله العديد من الكتب، رأى أن: “من حق الناس على المثقف أن يتكلم كي يصف ما رآه داخل السجن الذهبي ولم يكن غيره يراه، من حقهم أن يعرفوا كيف كانت تشتغل الرّحى الطاحنة وراء الستار، ذلك أن صمت المثقف عما جرى لن يزيد الجمهور إلا شكا في نخبه وإرتيابا من أهل الفكر، غير أن مكاشفة الناس في أمر السياسة تقتضي الانخراط في ميثاق البوح أن نقول الحقيقة كل الحقيقة ولا شيء سوى الحقيقة، يومئذ سيكون المثقف في مستوى أمانة التاريخ وسيتبوأ منزله كرصيد بين الأرصدة الرمزية التي تخدم مجتمعا يستمد الناس من تجربته ما به يحمون البلاد من انتكاس الحرية ومن تسلل الجور بين صفوف الأحداث، ولن يكون لشهادة المثقف من مغزى إلا إذا أعلن جهارا ان المسؤولية السياسية هي منذ الثورة أمانة في أعناق الجيل الجديد”. بين المثقف والقارىء والمؤلف ـ وهو اكاديمي مختص في اللسانيات ـ فضل ان يتجه مباشرة الى القارئ وخاطبه قائلا: “عذرا أيها القارئ ليس في نيتي أن أستثير فضولك إذ أروي لك مشاهد الأحداث دون تشخيص ولا تعيين، وما قصدي أن أفسد عليك طمأنينتك النفسية، فلا أحد منا بوصيّ على أخلاق الناس، ولا أدعي لنفسي عصمة ولا فصيلة، وما جئتك عارضا مجدا ولا بطولة، كيف وأنا لم أكن بين الذين أعلنوا التمرد وأشهروا العصيان، إنما جئت بشهادة هي على الأحداث ولكنها على نفسي قبل كل شيء كنت أبتغي تطهيرها من إثم ما لم تفعله لأن الذي فعلته قليل. وضع د. عبد السلام المسدي في كتابه سؤالا جوهريا هو: “كيف تتحدد مسؤولية المثقف بعد ادراكه اليقيني انه أمام حكم دكتاتوري كأشد ما تكون الدكتاتورية؟” مضيفا في موقع آخر من كتابه “قد يكتب المرء خواطره السياسية ومقصده الأسمى أن يدلي بشهادته على حقبة من العمر ألفى فيها نفسه طرفا فاعلا في مجرى الأحداث، وإذ هو يدوّن ذلك لا ترى همّا له إلاّ إنارة الحقيقة حتّى لكأنه يتعمد إخفاء ذاته وراء ستائر الزمن”. شاهد على الاستبداد ويجزم المؤلف انه في هذا الكتاب ليس بصدد كتابة سيرته الذاتية، وإنما هو سعى إلى أن يوقد شمعة في فضاء مدلهمّ غائم، مضيفا: “أنا فرد من شعب عاش طيلة ثلاثة وعشرين عاما مقموعا. ها أني أكتب زاعما أن لي شيئا ـ ولو نزيرا ـ أقدمه بين يديك أيها القارئ، قد يساهم في إضاءة هذه القضية الفكرية الشائكة، وربما يساعدك على أن تتحسّس جوابا ما لبعض الأسئلة المتناضدة: كيف تزرع بذور الحكم المطلق أو كيف تنزرع؟ ما الذي يحف بلحظات النشوء وكيف تتعاقب مراحل التضخم؟ وهل للدكتاتورية أطوار في النمو كأطوار الكائن الحي: جنينا فرضيعا فصبيّا فكهلا؟”. وعن هذه الاسئلة الحارقة يجيب الكاتب متوجها دائما الى القارئ: “إني لأعلم أن ما سأقدّمه ليس إلا قطرة في حوض متسع فسيح. ولكني أستشعر أنك قد تجد فيه ما لا تجد في غيره، إذ يشفي بعضا من ظمأ السؤال الرقيق لديك. فقد كان لي “حظ” استثنائي، لا أدعي فيه أي فضل خاص، ولا شك أن لغيري في هذا المجال فضلا يفوق ما لي منه مرّات ومرّات. لقد كنت شاهدا على ما به رأيت كيف يخلق جنين الاستبداد ثمّ يولد ثم يترعرع ثم يقطع المراحل حتى يمسي عملاقا بين العمالقة”. ويرى المؤلف ان ما جاء في شهادته طي كتابه هي إضافة يسيرة ولكنها كاشفة، ربما تكمل وجها غائبا، فالدكتاتورية ظاهرة معقدة جدا، تشتمل على ظواهر متوالجة يصفها الواصفون ويحللها المحللون، وتشخيصها عادة ما يتم من خارجها،. وتأتي مساهمة المؤلف في تشخيص بعض اعراض الدكتاتورية لا من الخارج فقط بل ومن الداخل أيضا، وهو ما قد أتاح له أن يراوح بين رؤيتين لأنه مر معها بمرحلتين في تجربته، مرحلة المسؤوليات الرسمية كوزير وسفير ودامت أربعة أعوام، ومرحلة ما بعد المسؤوليات ومداها تسعة عشر. ساعة الخلاص ويعترف المؤلف انه كان من بين من كانوا يرقبون تمدد اليد الأمنية الطولى في تونس، ويتأملون بفزع رهيب دوران الآلة الجهنمية الجبارة، كالرحى العملاقة تطحن فلا ترحم، وكانت الأحداث من هنا وهناك تهمس وقد تصيح بالعقلاء الراشدين ان حامل الاقنعة ـ والمقصود به طبعا الرئيس السابق ـ لم يعد في حاجة إلى قناع منذ إنجازه المسرحي في الانتخابات الرئاسية الأولى، ومنذ أزاح كل من كان يلفت انتباه ـ ولو بلطف وحذر ـ إلى ضرورة التعامل اليقظ مع الرأي العام، وجاء بمن لا ينغص عليه ارادته أو يعكر له لذة إتخاذ القرار في أي لحظة مع أي طرف، على أي موضوع، فالنشوة كل النشوة كانت عنده أن يحسم القضايا المعقدة الشائكة بكلمة واحدة ثم يحدق بعينين جاحظتين في من حوله، وكلما أبطأوا له بالابتسامة إغتاظ وحمق وقد يزمجر، وذلك شيء من طبائع الاستبداد”، استشعره أهل الدراية والنظر ولم يروه كما رآه المؤلف. ويصف د. عبد السلام المسدي ساعة الخلاص في تونس قائلا”كان الفرح عارما يفيض بلا حدود وانطلقت الألسن بعد عقال طويل وانسرحت الحناجر وكانت تغص ببحة دائمة واستوت الرؤوس على رقابها بعد أن أعياها الالتفات يمينا وشمالا”. بين الحق والواجب وكشاهد على ما سمع ورأى بعد نجاح الثورة التونسية، فقد نقل المؤلف ذلك بالوصف والتحليل قائلا “كانت لكلّ فرحته أو بهجته، وما اهتم الناس باختلاف ألوان الانشراح، يكفي أنه موجود يكفي أنه شامل غامر. وكان لي فرحي أتأمله فألفاه يخاتلني ما أن أقترب منه حتى يمنع هربا، هي لحظة من الزمن الكثيف كتلك التي تروم الإمساك بها فلا تنصاع لك، نسجها تدافع فظيع: فرح يمازجه الأسى فيذهب به، وحاضر يخطفه مني ما مضى فلا أظفر بشيء منهما. في زمن وجيز جدا اقتحم الشعب فضاءات جديدة كانت أبوابها موصدة بأقفال حديدية سميكة: الثقافة المتعلقة بالدستور وأي جرم أشرس من نظام يزهد الناس في دستورهم ويحملهم على تناسي فصوله وأبوابه؟ جدّدنا الوصال منذ الليلة الأولى مع مستوجبات الغياب المؤقت أو الشغور النهائي، ثمّ استرجعنا ثقافة التعديل، أو التعطيل ثمّ التأسيس وكانت للناس جولات لم يعهدوها من قبل، أعادوا فيها ترتيب منظومة المفاهيم السياسية، وتماهوا مع قاموس جديد من مفردات الحوار والجدل والصراع، وإكتشف الكثيرون أن الشرعية التاريخية شرعيتان: شرعية الدساتير وشرعية الثورات، ثمّ إستطلعوا ملامح العدالة الانتقالية مما لم يكن متداولا عندنا. وقد يكون الناس ـ وفي مقدمتهم أفراد من النخب ـ قد اصطدموا بحقيقة أخفوها ثمّ أمعنوا في إخفائها: أن الديمقراطية ثقافة، وأن ثقافة الديمقراطية تكتسب بطول المراس ولا يرتجل تعاطيها، وأن الامتثال لأولوياتها الأبجدية صنيع شاق لا يقوى عليه إلا من آزر فكره مزاج صلب ضليع لأنها واقعة في تلك المنطقة الوسطى بين العقل والنفس”. ويتساءل المؤلف في كتابه عن حرية التفكير باعتبارها حق طبيعي مطلق داعيا الى الاقتناع بأن حرية التعبير المستندة إلى حرية التفكير لا يمكن أن تعود إلا بالخير العميم على جميع الأطراف: الذين يفكرون والذين إليهم يتجه المفكرون بخطابهم الحر؟، مضيفا: “كيف السبيل إلى أن نقنع أنفسنا بأنفسنا، وإلى أن يقنع بعصنا بعضا بأن الفكر إيثاريّ بالضرورة لا يعرف الأثرة ولا يستكين إلى الأنانية، ومهما بدا عليه من زهو، أو تألق، أو نرجسية لفظية، فإنه بطبعه خادم لغيره، بل خادم للذي يتجه إليه عند ممارسة حريته في التعبير أكثر مما هو خادم لنفسه. حرية الرأي واجب على من يمارسها وحقا من حقوق من تمارس عليه”. ويكشف المؤلف في كتابه العديد من الحقائق من ذلك مثلا ان بن علي جعل من قضية اللغة ـ هذا الركن الجوهري في تشكيل هوية الشعب ـ أداة مقايضة، فكلما إنتقد الفرنسيون سياسته القمعية أخرج من الأدراج ورقة التعريب في حزمة من التعليمات التي تدفع بالادارة الى نبذ اللغة الفرنسية، وما إن ينخفض صوت الناقدين حتى يعيد قراراته إلى سلة المنسيات. وتكررت تلك العبثيات، وكان أكثرها انفضاحا ما حلّ أواخر 1999 عندما انتقدت الصحافة الفرنسية الظروف التي تمت فيها الانتخابات الرئاسية في 24 أكتوبر 1999، وكانت نتائج الفوز فيها للرئيس المخلوع ب 99.44 بالمائة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©