الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

عسر التفكير والتعبير

عسر التفكير والتعبير
23 نوفمبر 2011 21:23
يعرض المؤلف محمد أيت حمو في كتابه المعنون “فضاءات الفكر في الغرب الإسلامي/ دراسات ومراجعات نقدية للكلام” كيف إن مبحث الكلام في الغرب الإسلامي مازال تراثاً بكرا لم يتم بعد اكتشافه والتعرف عليه ولم تطأه الكثير من الأقلام. فهو مبحث عذب المذاق، لكنه صعب المورد، لأن الخوض فيه ليس سهلاً ويسيرا، بل مثقلا وعسيرا. ومرد كل هذه العواصة هي من التبديد الذي يقف عقبة في طريق الحكم على الوضع الكلامي الذي يفتقر إلى دراسات عن كثب في هذا الجناح الغربي من العالم الإسلامي. فيشير المؤلف الى العدد الجم من هذا الجنس من القول الذي هو الكلام قد ضاع كله واندرس، إما قصداً عبر التاريخ لمحوه، أو مدفوناً في ثنايا خزائن العالم. ويشير أيضاً الى مسألة إخراجه من الوجود بالقوة إلى الوجود بالفعل، بالمعنى الأرسطي. ويطمئننا المؤلف حمو بالقول بأن الاتجاهات الكلامية في الغرب الإسلامي منطقة مجهولة يندر روادها وتتعذر مسالكها. يذكر المؤلف بأن حدث اكتشاف لكل هذه المنطقة منذ مدة ليست بالبعيدة، عندما قدمت ثلة من الباحثين المغاربة المعاصرين أقوالا فيها بعض الجرأة، وكثيراً من الجدية، على أقوال النظار المتكلمين في الغرب الإسلامي، وقاموا بدراسات فلسفية جادة وغير مسبوقة، إلى إخراج بعض خصوصيات ومكامن التفرد في الشخصيات المدروسة إلى دائرة الضوء. وهذا ما نقل البحث نسبياً في كلام الغرب الإسلامي إلى مرحلة أخرى تتسم إلى حد ما بالشمولية والدقة يكاد يستجيب فيها التأويل لجل دقائق المتن وجليله الذي ليس بأيدينا منه إلا شذرات ونتف، ليس إلا كما يصف. ويقول إن جل الدراسات التي قدمت حول كلام الغرب الإسلامي في حدود علمنا، رغم ندرتها وأهميتها وريادتها وفضلها وجهود مؤلفيها، قد لا تتيح لنا قراءة هؤلاء المتكلمين بعيونهم إلا في ما ندر، وقد لا تقدم لنا صورة دقيقة لدقيق المذاهب الكلامية في الغرب الإسلامي ودقيقها إلا في ما ندر كذلك، ما لم يتأت لنا امتلاك ناصية مدوناتهم التي ما انفك ضياعها يلاحقنا، ليتسنى لنا رسم سائر أبعاد ومعالم مذاهبهم، وتحقيق التناسق فيها. وبناء عليه، فإن ضبط أحكامنا ضبطاً لا يخل بسياق تلك الأصول ووضع الأحكام بين هلالين، وعلى طريقة المنهج الفينومينولوجي، يصبح ضرورياً، ما لم نجد “تمرة الغراب”، ونتوصل إلى اللؤلؤ الخريد والنصوص التي لا تزال غميسة مجهولة مبعثرة، والمصادر التي لا يؤخذ الشيء إلا منها. ومن هنا اعتراف عبد المجيد الصغير في تقديمه لأحد كتبه بأن الغموض لا زال يلف مرحلة بداية تلك الاتجاهات بأرض المغرب، بل إن بداءات علم الكلام هي موضوع كثر الجدل حوله. لهذا ينتقل المؤلف في حديثه عن هذا الكتاب الذي هو جملة أبحاث ودراسات تعكس انشغالات الفكر المغربي. يشير اليها بأنها دراسات في الفكر الكلامي ومكانة علم الكلام في الغرب الإسلامي ومحاولة استشراف آفاقه والتحليق في فضاءاته. فإذا كنا نعرف المنزلة التي تتبوؤها الفلسفة في خريطة الغرب الإسلامي، فإننا لا نعرف عن مكانة علم الكلام في هذه المنطقة. دراسات وأبحاث الكتاب واحدة متكاملة رغم تنوعها، فقد استعصى علماء الكلام الذين ساهموا في بناء الحضارة الإسلامية على الارتشاء والاستدراج والإغراء والتطويع من طرف رجل السلطة الذي أحصى عليهم أنفاسهم حتى ذهبت المحن المرة برؤوس البعض، ولأن فترات العدل قليلة الليث في تاريخ الإسلام. وهذه هي ضريبة صناعة الكلام التي جعلت أهلها أكثر الناس ابتلاء بالمحن السياسية، ونصيبهم منها ومن أنواع التعذيب وأصناف القتل المسلط عليهم نصيب الأسد من الفريسة. فراحوا ضحية بطش ولاة الجور والتغلب، ومسوغات أصناف الفقهاء. فالسلطة لا تقبل بالمعارضة ولا بمجرد عدم المعارضة، بل تطلب التأييد اللا مشروط. وبذلك سار علماء الكلام في اتجاه مخالف لذلك الذي سلكه الفلاسفة الذين قربهم الحكام اليهم وشملوهم بالرعاية بدءاً بالكندي الذي وجه رسائله المختلفة إلى المعتصم وعين مؤدبا لابنه محمد، وانتهاء بابن رشد الذي قدمه ابن طفيل إلى الخليفة الموحدي أبي يوسف يعقوب المنصور، مروراً بالفارابي وابن باجة وابن طفيل الذين كانت لهم الحظوة عند الخلفاء، بالرغم من النكبات التي لحقت بعضهم من جراء ذلك. ويشير المؤلف كيف إن علم الكلام ساهم في بناء الحضارة العربية الإسلامية قديماً، ولا بد من إحيائه وتفعيله لاستئناف وتجاوز هذا البناء، و”ألف باء” هذا الاستئناف والتجاوز الشروع في وضع معجم هذا العلم. كما ولقد توقف المؤلف في هذا الكتاب عند ابن حزم باعتباره فارس الحجاج في الغرب الإسلامي، بالنظر إلى الطابع الحجاجي لمصنفاته، وريادته في التاريخ للأفكار والاتجاهات الدينية في الغرب الإسلامي. فابن حزم أول من ابتكر المنهجية التوثيقية في نقده للديانتين اليهودية والمسيحية. وهو الأستاذ غير المباشر للفيلسوف سبينوزا الذي تتلمذ على يديه عن طريق ابراهام بن عزار. دون أن ينسى الموقف التنويري لهذا الرجل من الفلسفة التي وقف منها موقف المدافع والمناصر لها. كما توقف أيضاً عند الشاطبي، الفقيه المجدد وصاحب نظرية المقاصد، الذي استأنف وتجاوز النقد المشرقي للبدع، وأعاد عملية إحياء علوم الدين في الغرب الإسلامي، بعد عملية علوم الدين المشهورة للغزالي في المشرق. فهذا الفقيه المجدد هو ثمرة لغرس السابقين (الشافعي، الجويني، الغزالي). ويعرض المؤلف كيف يمكن الجزم بأن البحث في علم الكلام في هذه المنطقة، مليء بالصعوبات والعوائق، ومع ذلك فلا بد من ربط الاتصال بهذا الإرث الكلامي المباشر له في موقعنا الجغرافي. مع وعينا الكامل بأن هذا الاتصال بتراثنا الكلامي ليس قبيل الأعمال التي يكون في إمكان الفرد الواحد أن يتصدى لها بمفرده، وأن ينجح فيها، وإن وهب لها كامل جهده، وانشغل بها سحابة عمره. بل إنها تستدعي العمل الجماعي، والجهد المتضافر المتصل. والأكثر من ذلك، إن المسؤولية في ذلك، ليست شأنا مغربياً خالصاً، وواقعة على أكتاف الباحثين المغاربة وحدهم، بل إن الشأن فيه شأن جماعي، والمسؤولية فيه مسؤولية مغربية ومشرقية. فمقالة الدال في علم الكلام! صرخة في وجه الباحثين المعاصرين الذين أغبنوا علم الكلام حقه، ودقوا ناقوس الخطر بعدم وجود معجم واحد واف لهذا العلم، بينما يجد المؤلف معاجم متعددة للفلسفة تمتد بعيداً في الزمان حتى مقال الدال من كتاب ما بعد الطبيعة لأرسطو. يذكر أيضاً بأنها دعوة عساها تصادف آذانا صاغية وتستجيب لها قلوب واعية. لأن تحقيق مثل هذا المشروع، والذي يجب أن ينجز في يوم من الأيام القريبة، يتطلب تضافر جهود باحثين كثيرين من المهتمين بالدراسات الفلسفية، والمختصين في الفكر الكلامي. فما زال الفكر المغربي، يشكو من فجوات عريضة وثغرات واسعة تحتاج الى الملء والترميم سياسياً واجتماعياً وفكرياً. يعطي المؤلف مثالاً بأن كل من المالكية والأشعرية والتصوف السني العملي قد ساهموا بأكبر قسط في تشكيل وترسيخ الفكر المغربي وتحديد خصائصه. ومع كل هذا التجذر بتلك الأصول المذهبية والفكرية والعملية، فإن الغموض لا زال يلف مرحلة بدايات تلك الاتجاهات بأرض المغرب. ويختم المؤلف بأن العقل الحجاجي في الغرب الاسلامي عقل منفتح وليس عقلاً منغلقاً، استأنف وتجاوز بعزم مركزي أكبر ما بدأه العقل المشرقي. ولعل تأليف ابن حزم لرسالته الموسومة بـ”رسالة في فضل الأندلس ورجالها” لا تند عن مسالك وتخريجات الإبانة عن منافسة أهل المغرب لزملائهم المشارقة، والاعتزاز، أو الاعتداد، بأنفسهم وعبقريتهم، والإبانة عن النبوغ المغربي، حيث يقول ابن حزم في أحد أبياته الشعرية القديمة: أنا الشمس في أفق العلوم منيرة/ ولكن عيبي أن مطلعي الغرب.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©