الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

مختبر الناشر.. والقارئ

مختبر الناشر.. والقارئ
23 نوفمبر 2011 21:20
افتتح صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة الدورة الثلاثين من معرض الشارقة الدولي للكتاب بقصيدة ألّفها بمناسبة هذه الثلاثينية وسمّاها “الشارقة”، ربما بوصف هذا المعرض أكثر الفعاليات خصوصية ومحبة وقربا إلى قلبه مع أن الشارقة مفتوحة على كافة أنماط الثقافة وأشكالها وتشارك في خلق المشهد الثقافي فيها واحدة وخمسون مؤسسة ثقافية معنية كل منها بواحدة من التفاصيل الثقافية وتتبع في إدارتها لدائرة الثقافة والإعلام فضلا عن الكثير من الجمعيات والمؤسسات ذات الصلة التي تعمل بمعزل عن الدائرة. لكن، ربما لأن صاحب السمو، أو “صاحب الدار”، هو أيضا كاتب يدرك الأهمية الفاعلة للكلمة في حياة الناس الذين هم أقرب إلى الكتاب منه إلى سواه من أدوات التلقي المكتوب ووسائطه، فقد حافظ طيلة الأعوام السابقة من تأسيسه على تقليد يقضي بأن يفتتحه هو ويتابع عددا من فعالياته. حتى القريبون منه قالوا إنه كان يأتي في ما مضى لأسباب عديدة من بينها أن الكاتب “المضيف” يرحب بالكتّاب “الضيوف”، فيتابع شطرا من هذه الندوة او يزور ذلك الجناح لبعض الوقت، لكنه لهذه الدورة أمضى جالسا بين الناس وفي مقدمة الجمهور والحاضرين المدة الزمنية التي تستغرقها الندوة والنقاش الذي يثيره الحضور بوصفه واحدا من هذا الحضور دون أن يكون لحضوره الشخصي أي أثر على خروج أو دخول الجمهور او إخضاعهم لترتيبات عادة ما يتم اتخاذها في غير هذا المقام من أسباب البروتوكول. هذا كله يشير إلى أن معرض الشارقة للكتاب، وهو اول ما عُرفت به الشارقة عربيا، رسالة قد جَدَّ صاحبها في إيصالها للآخرين ووصلت. حيث الرسالة هنا من عدة دوائر تبدأ بالمواطنين فالعرب، ومن بينهم العرب المقيمون، في العالم، إذ ما زال الكاتب والمؤلف المسرحي والباحث في التاريخ وصاحب السمو، وهذا توصيف ثقافي وليس رسميا، يحرص على زيارة كبرى معارض الكتاب في العالم لينعكس ذلك إيجابا على معرض الشارقة. في أية حال، لم يعد معرض الشارقة يخص الشارقة وحدها ولا دولة الإمارات العربية المتحدة فقط، فلقد فاض في الجغرافيا وصار لزاما أن يصبح عربيا أكثر وأن تكون له امتداداته العربية أكثر، فلا تقتصر على دعوات لكتّاب وناشرين عرب وتوفير أسباب الدعم لهم بل المقصود أن معرض الشارقة بات الآن منبرا عربيا من الممكن أن يناقش اللحظة الراهنة بكل معطياتها بسبب الحضور الذي ما زال يحققه على مستوى المنطقة. وبدءا، فإذا كانت الإحصاءات التي خرجت بها إدارة المعرض عن عدد زوار المعرض دقيقة تماما أم أقرب إلى الدقة، هي التي أشارت إلى حضور قرابة مائة ألف زائر خلال الأيام الثلاثة الأولى للمعرض، فإن نجاح المعرض يتحدد عبر ما تبقى من كتب على أرفف الأجنحة مثلما تشير طبيعة الكتب التي تمّ بيعها أو شراؤها فضلا عن نوعية وعدد الجمهور الذي ارتاد الندوات والمحاضرات في أماكن حدوثها وترقّب هذه الندوات ومتابعتها زمنها عبر كتيبات المعرض. فإذا صحّ التوصيف بأن هذه المقاييس هي مؤشرات حقيقية على مدى انتباه الجمهور إلى هذا التنوع والغنى الذي يطرحه معرض الشارقة الدولي للكتاب، فإن جانبا من رسالة المعرض يكون قد ألغيَ تماما؛ هذا الجانب من الرسالة الذي يقوم على أن الجمهور، المحلي والعربي منه تحديدا، مفتوحة أمامه دروب الاطلاع على التنوع والاختلاف والتعدد في الرؤى والأفكار واحترام الآخر ووجهة نظره في صدد قضايا عيشنا المشترك كأبناء سواسية للمنطقة العربية. لغة وتراث كان الرواج في أغلبه للكتب الدينية ذات الطابع السلفي، بالدرجة الأولى ثم للكتب التي تتناول التراث الديني الفقهي وغير الفقهي بالدرجة الثانية ثم علوم اللغة العربية الكلاسيكية التي تتعامل مع اللغة بوصفها لغة مقدسة وليست لغة كتاب مقدس. وبوصف كاتب هذه السطور شاهد عيان تابع بحكم عمله مجريات الحدث في المعرض بما لا يقل عن ثماني ساعات يوميا، فقد دخل رجل إلى دار نشر لبنانية معنية بالتراث العربي الأدبي الكلاسيكي وعلوم اللغة العربية وكتب العلوم الطبيعية والإنسانية وبتحقيق لنخبة من ألمع المحققين العرب مثل الراحل إحسان عباس وابناء جيله وسواهم، ثم سأل مدير جناح تلك الدار عن الكتب التي هي خارج اهتمام وسياسة دار النشر تماما تبعا لأولوية الشراء والرواج المشار إليها. سأل الرجل عنها بعد أن لم يجد أي منها في الرفوف ثم تقدم من الرجل وأسمعه خطبة مختصرة في أهمية الكلمة والموعظة الحسنة فيما مدير الجناح ذاهل ليس من مضمون ما قال الرجل، غير المتكرش بثوبه الأبيض الأنيق ولحيته المشذبة التي زادته وسامة، بل من تلك السرعة في الأداء ومن حفظه ل”الخطبة” المقتضبة عن ظهر قلب بلا أي خطأ حتى دون أن ترفّ يداه بأي حركة تعبيرية. الحادثة الأخرى ليست سوى كلمات قالها رجل، شاب في مطلع الثلاثينات على أبعد تقدير، لآخر في أحد الأجنحة التي وجدت كتبها رواجا ملحوظا، ومفادها أن الكتب التي تردّ على الليبراليين والعلمانيين هي التي ينبغي عرضها وتطويرها من مجرد كتاب يتم تداوله على نحو تقليدي إلى كتاب إلكتروني من الممكن استخدامه من قبل الجميع بصرف النظر عن محدودية معرفته بكيفية تشغيل وإدارة جهاز الكمبيوتر. في الجانب الآخر، ولو افترضنا جدلا في أقصى الحالات أن الكتب الأدبية الحديثة للكتّاب العرب أو المترجمة عن لغات أخرى هي الكتب التي تقف بعيدا توجهات الجمهور في المعرض فإن أصحابها لا يتدخلون في العادة بخيارات جمهورهم بل يتركون لهم حرية اختيار عناوين بعينها ثم ينصحون بعناوين موازية، دون أي جدل جانبي، حيث كثيرا ما يأتي جمهور ويكتفي بالنظر إلى العناوين المعروضة على الرفوف. والنتيجة التي يخلص إليها هؤلاء المروجون للأدب والفن بشتى مدارسه واختلاف توجهاته هي ان مبيعات المعرض بالنسبة إليهم تكون غير مرضية وتصل في بعض الأحيان إلى عدم السداد الكافي لنفقات الإقامة والتنقل طيلة أيام المعرض. وهذه حقيقة يدركها أول مَنْ يدركها اتحاد الناشرين العرب والاتحادات العربية المنضوية في عضويته. الرواج والحيتان الأمر الآخر في هذا السياق هو أن إدارة المعرض وبتوجيهات مباشرة من حضرة صاحب السمو بدعم دور النشر ما امكن من دون تمييز في “العناوين” وبحيث يعود الناشر المشارك إلى المعرض في دوراته اللاحقة لأن قيمة المعرض بالنسبة إليه ليست مبيعا فحسب بل هي مختبر لصناعة النشر وتطوراتها من جهة ونقطة التقاء مع ناشرين اجانب حيث من الممكن عقد صفقات لترجمة كتب وعناوين قد يرى الناشر فائدة في ترجمتها إلى العربية خاصة مع إطلاق مبادرة “مركز الشارقة الدولي للترجمة” الذي حدد منحا لدعم الترجمة وفقا لآلية منطقية تكفل حقوق جميع اطراف عملية الترجمة. غير أن هناك ازمة بنيوية يعاني منها قطاع النشر العربي، هذا القطاع الذي ينظم نفسه ويعدّ أوراقه ويوظف آلة علاقاته العامة في سبيل أن يذهب الدعم إلى ناشرين دون غيرهم يستأثرون بالحصة الأكبر على حساب الأسماك الصغيرة في سوق الكتاب، هنا لا يخجل المرء أبدا من أن يقول إننا، نسبيا، أمام بائعي كتب ومروجين لبضاعة ليست هي المثلى، وليس لناشرين محترفين يتصرفون كتجّار محترفين وصانعي كتاب محترفين أيضا. للأسف هذه هي الحال، وربما ما حدث في انتخابات ملتقى ناشري كتب الأطفال العرب عيّنة عشوائية قد يكتفي المرء منها بالمتابعة ليكتشف حقيقة الأمر. وبين سندان الكتب الأكثر رواجا والأسباب الظالمة لهذا الرواج، من وجهة نظر صغار الناشرين، وبين سندان “حيتان” قطاع النشر كما يسمون في اوساط الناشرين الذين لا يتجاوز عددهم العشر إلى خمسة عشر ناشرا عربيا، بات صغار الناشرين هم الضحية. كثيرا ما صادفنا، نحن الصحافيين الموجودين في أروقة المعرض ناشرين يطلبون إلينا إيصال صوتهم عبر الصحافة، فإذا لم يكن لهم نصيب في “كعكة” الاتحاد والمبيعات فربما تنتبه إليهم العديد من المؤسسات الأكاديمية وغير الأكاديمية أو التي تتبع لإدارة المعرض أو لدائرة الثقافة والإعلام بالشارقة مباشرة والتي بوسعها أن تأخذ خمس نسخ من كل عنوان تختاره. وحقيقة الأمر أن مثل هذا الطلب الذي قد يبدو للبعض مباشرا وفجّا لا يستمد مشروعيته من الواقع الراهن وفقا لما تمّ إيضاحه بنزر يسير بل من رغبة هذه الدُور بالاستمرار، أي أن لا تغلق أبوابها نهائيا بسبب عدم الجدوى، في المشروع الصغير والخاص الذي اختطته هذه الدار أو تلك للتخصص في نشر جانب من الجوانب الملحة من قضايا الثقافة والمجتمع العربيين. فهذه الدور تواجه مصير الإغلاق بشراسة خصوصا في بلدان الربيع العربي حيث صناعة النشر تعطّلت أو تكاد.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©